إشارة :
سيأتي الوقت الذي يشير فيه المنصفون من النقّاد إلى أن المبدع الكبير “ناطق خلوصي” هو من بين أخلص وأكثر وأشد من صوروا الانهيارات الكاسحة التي عصفت بالبنية الإجتماعية والأخلاقية لمجتمعنا بريشته المقتدرة .. بروح شفافة وخلاقية رصينة. وذلك من خلال نصوصه التي نشرها في موقعنا أو في الزمان اللندنية معبّرا عن إيمان راسخ بمسؤولية الفنان تجاه شعبه. فتحية له.
أسرة موقع الناقد العراقي
فاجأه سؤالها :
ــ هل ستتأخر هذا اليوم ؟
رد وقد ساوره شيء من القلق :
ــ نعم . بل سأتأخر كثيرا وقد لا أعود قبل الثالثة . لقد تراكم عليّ العمل في الدائرة بسبب الاجازة المرضية التي أخذتها مؤخرا ً والسيد المدير يلح بطلب انجازه .
لم يقل لها لماذا تسأل هذا اليوم على غير عادتها لكنه لمح بقايا ابتسامة غامضة تتلاشى على أديم وجهها . مال اليها برأسه وطبع قبلة ً على خدها وغادر . ساوره شعور بالشك وهو في طريقه الى مكان انتظار حافلة الدائرة التي تقلـّه الى عمله . مصدر شكة يكمن في قريبها القادم من احدى مدن الحلم الأوربي التي كان قد شد رحاله اليها واستقر فيها منذ سنوات وقد ظل يكرر القول منذ وطأت قدماه ارض بلاده السابقة انه جاء من وطن النعيم الى وطن الجحيم . انتبه خلال زيارات الرجل المتكررة الى بيته ان خيطا ً من الود بدأ يمتد بينه وبين زوجته : خيط بدا رقيقا ً بادىء الأمر وما لبث أن صار يمتن شيئاً فشيئا ً في كل زيارة . وجدها انفتحت عليه ، تمازحه وتتحدث اليه بهمس أحيانا ً وكان قد خصها بكثيرمن هداياه استثناءا ًعن الآخرين . لم تكن في عمر يجعلها تتعاطى الغرام مع رجل يكبرها بأكثر من عشر سنوات ، سوى انها مازالت تحتفظ بسيماء وسامة لم تأفل بعد على الرغم من تجاوزها سن الخمسين بقليل مما قد يجعلها صيدا ً ثمينا ً بالنسبة لأي ذئب بشري مثل قريبها .
السيارة تغذ السيبر باتجاه الدائرة وقد اكتمل عدد راكبيها وهاجس الشك ينمو في داخله. وفجأة أحس كأن شيئا ً ما يدعوه بالحاح الى أن يعود الى البيت . فاجأ سائق الحافلة بأن طلب اليه أن يتوقف لأنه يرغب بالنزول . قال :
ــ لديّ ظرف خاص في البيت وسأهاتف السيد المدير لأطلب اجازة منه .
نزل وأوقف سيارة أجرة اتجهت به صوب بيته وحين صار في الشارع الذي يتفرع منه الزقاق المفضي الى البيت ، رأى قريب زوجته يؤشربذراعه الى سائق سيارة أجرة ولمح زوجته تقف على مقربة ذراع منه . طلب الى سائق السيارة التي تقلـّه ان يستدير ويقف أمام سيارة الأجرة التي أوقفها قريب زوجته . نزل وسار فرأى قريب زوجته يمد رأسه عبر زجاجة نافذة تلك السيارة ويحدّث سائقها . وإذ صار قريبا ً رأى زوجته ، وقد اكتشف انها رأته ، تهمس الى قريبها وقد شحب وجهها . التفت قريبها ورآه فشحب وجهه هو الآخر . تبادلا تحية فاترة وفتح قريب زوجته باب السيارة الأمامية ودس جسده الى جوار السائق . فتح هو باب السيارة الخلفية وأشار الى زوجته أن تدخل ففعلت بعد تردد وعلى مضض ، ودس جسده الى جوارها بعد أن طلب اليها أن تتنحى قليلا ً لتتيح له مكانا ً للجلوس المريح بعد أن جلست الى جوار الباب ممنيّة ً النفس بأن لا يصعد ويجلس بجانبها أو في أي مكان في السيارة .
قال قريب زوجته بصوت لا يخفي امتعاضه :
ــ كان متوقعا ً أن تأتي متأخرا ً هذا اليوم !
حدج زوجته بنظرة ذات معنى قبل أن يرد :
ــ نعم ، هذا صحيح ولكن جاءتني مكالمة هاتفية اضطرتني لأن أستأذن من السيد المدير فوافق على خروجي من الدائرة .
صار في اعتقادها ان اصغر ابنائها وأكثرهم مشاكسة ً هو الذي اتصل به ليخبره بخروجها مع قريبها فتوعدته بعقاب قاس ٍ . سمعت زوجها يسأل قريبها بصوت لا يخلو من نبرة سخرية :
ــ الى أين وجهتكم بإذن الله ؟ الى المنصور أم الى الكرادة ؟
رد قريبها بعدم ارتياح :
ــ الى الكرادة .
فأدرك أنه يأخذ زوجته الى بيته الذي ينوي بيعه ليقطع جذور صلته بوطنه السابق وليس الى مكان اقامته المؤقت في شقة صديق له في المنصور. عاد يسأل :
ــ هل استجدّ ما يدعو الى ذهابكما اليه ؟
شعرت كأن كلماته تستحيل الى رأس سكين تخز روحها . قال قريبها :
ــ نعم . لديّ كثير من مواعين الفرفوري والزجاجيات الفاخرة ارتأيت أن أقدمها هدية لكم بدلا ً من بيعها وقد رغبت هي في ان تختار ما يروق لها بنفسها .
نظر الى زوجته فاشاحت بوجهها عنه . قال :
ــ وما حاجتنا الى هذه المواعين ولدينا المزيد منها في البوفيه في غرفة الطعام ؟
لم يعقب قريب زوجته بشيء وقد خفضت زوجته رأسها وربما كانت تشتمه في سرها . عاد يقول ضاحكا ً هذه المرة :
ــ تصور ان المرحومة أمي كانت تمتنع عن تناول الطعام في بيتكم عندما كنتم في بغداد . كانت تقول انكم وكلبة ابنتكم المدللة تتناولون الطعام في المواعين نفسها !
سمع سائق السيارة يضحك ولمح زوجته تبتسم ابتسامة صفراء ربما لتسخر منه وظل موقف قريبها محايدا ً . لم يركن الى السكوت انما عاد يقول مخاطبا ً قريب زوجته :
ــ تصور ! لقد خدمني الحظ والمصادفة معا ً هذا اليوم . كنت تلقيت مكالمة من أهلها يطلبون حضورها لأن أصغر أخوتها تعرّض الى وعكة صحية وحين جئت لأصحبها الى هناك وجدتك تستأجر هذه السيارة فوفرت عليّ ، مشكورا ً، أجرة سيارة . بارك الله فيك. أنت صاحب فضل دائم علينا وهذه احدى مكارمك .
رأى زوجته تلتفت اليه وقد احتقن وجهها وتهمس له :
ــ هل حقا ً ما تقول ؟
احتد صوته قليلا ً :
ــ لا أكذب عليك . سترين بنفسك .
عادت تقول :
ــ وهل هو في حالة خطيرة ؟
ــ لا . ليس الى هذا الحد . أكثر الظن انه تناول طعاما ًمكشوفا ً من عربة بائع جوّال .
وجّه كلامه الى السائق هذه المرة :
ــ سننزل أمام دائرة الكهرباء .
صمت لحظة ً ثم عاد يقول :
ــ الكهرباء الحاضرة اسما ً الغائبة جسما ًوالعياذ بالله .
وضحك وأضحك سائق السيارة معه . .
توقفت السيارة ونزل ووقف ينتظر نزول زوجته الذي تأخر بعض الشيء ربما في انتظار موافقة قريبها الذي كان يتميز غيظا ً تلك اللحظة . تابع هو ، وقد صار وزوجته على الرصيف ، السائق وهو يتحرك بسيارته حتى رصفها وراء صف السيارات الواقفة عند اشارة المرور الحمراء . سارا بعد توقف للحظات باتجاه الزقاق المؤدي الى بيت أهلها لكنها انتبهت الى انه تجاوزذلك الزقاق وواصل سيره بها . قالت محتجة ًً :
ــ لقد تجاوزنا زقاق بيت أهلي !
قال :
ــ أعرف ذلك . لا حاجة لنا للذهاب اليهم .
احتد صوتها محتجا ً :
ــ وأخي ؟ !
ــ انه في أحسن حال .
ــ لقد كذبت علينا إذن !
ــ نعم . انها كذبة بيضاء كما يقولون . لقد افتعلت ذلك عذرا ً لكي أجعلك تنزلين من السيارة دون أن أجعل السائق يعرف بما يحدث من وراء ظهري .
تطاير شرر الغضب من عينيها وشتمته في سرها من جديد . لقد حرمها من فرصة ظلت تنتظرها زمنا ً. أهي أسيرة نزوة طائشة هذا اليوم وهي في هذا العمر ؟ ! قفل عائدا ً بها وما إن سارا بضع خطوات حتى دوى انفجار هائل قريب ارتج بهما المكان بسببه . همس :
ــ يا ستـّار !
ورءاها ترتجف وقد ران شحوب الأموات على وجهها . لاحظ ان ثمة اشياء غريبة تتطاير ربما كانت أجزاء من سيارت محترقة أو من أشلاء أجساد متناثرة حملها عصف الانفجار وجعلها تقترب من المكان الذي كانا فيه . مسك يدها وسحبها ليحتميا بمدخل عمارة قريبة ولبثا هناك الى أن هدأ كل شيء وقد تعالى عويل سيارات الاسعاف . خرجا، وكان ممسكا ً بيدها ضاغطا ً عليها وهمس مطـمئنا ً :
ــ لا تخافي . كل شيء على ما يرام الآن .
سمعها تقول بصوت خائف :
ــ بدأت أشعر بدوار وأكاد أنكفىء على وجهي !
فأدرك ان مزيجا ً من الخوف والقلق صار ينتابها وعرف سر ذلك . انتبه الى بناية المركز الصحي في الجانب المقابل . طلب اليها أن تستند اليه وعبرا الشارع وما إن دخلا بناية المركز حتى وجدها تنهار ساقطة على البلاط . تراكضت عاملات المركز وممرضاته اليها وحملنها الى غرفة الطبيب وكان هو يحمل حقيبتها اليدوية خوفا ً من فقدانها . قال الطبيب وهو يفحصها :
ــ انها في حالة هبوط شديد في الضغط . هل تعرضت الى صدمة مفاجئة ؟
ــ يمكنك أن تقول ذلك . لقد كنا في سيارة مع قريب لها . نزلنا انا وهي وواصل هو طريقه وحدث الانفجار الهائل قبل قليل وربما خشيت من أن تكون السيارة التي تقلـّه قد صارت في منطقة الانفجار .
مكثت جالسة ً على أريكة لنصف ساعة بعد تلقيها العلاج وإذ رآها قد استرجعت وضعها الطبيعي وعاد الدم الهارب الى وجهها ، سألها إن كانت تقوى على السير فردت بالايجاب . نهضت فوضع حقيبتها بيدها ومسك يدها الأخرى وسار خارجا ً بها . قال قبل أن يستأجر سيارة :
ــ حاولي أن تتماسكي حين ننزل من السيارة أمام باب البيت لكي لا تجعلي أحدا ً من الجيران ، وقد رأوك تخرجين معه ، يسيء بك الظن .
هزت رأسها مؤكدة ً انها ستفعل ذلك ، وحين وصلا نزلت وبدأت تسير دون أن تنتظر مساعدته وإذ دخلا البيت أسرعت الخطى نحو غرفة النوم . ألقت العباءة عن رأسها واستلقت على السرير . سارعت ابنتها الكبيرة وجاءت بطاسة ماء بارد تناولها منها وتقدم بها من أمها . رفع رأسها قليلا ً وسقاها من الماء ونثر ما تبقى منه على وجهها . ناول الطاسة الفارغة الى ابنته وأومأ لها أن تخرج ففعلت . رأته يغلق الباب بعد خروج ابنته فادركت ان ساعة العتاب ثم الحساب قد صارت قريبة . منحته الحق في أن يفعل ما يشاء . تعرف انها أخطأت بحقة وكانت على وشك أن ترتكب خطيئة لا تغتفر لكنه مع ذلك لم يتخل عنها حين تهاوت على بلاط المركز الصحي . ترى هل سيسامحها لو طلبت منه المغفرة ؟ منذ أكثر من ثلاثين سنة وهما يعيشان معا ً ، تقاسما الحلو والمر ولم يخذل أحدهما الآخر في يوم من الأيام من قبل . ما هذا الذي حدث بينهما هذا اليوم إذن ؟
رأته يقترب منها وينزع الحجاب عن رأسها ثم يبدأ بفك أزرار الرداء الذي يشبه الجبّة وبدأ ينضوه عنها فاكتشف انها لاترتدي تحته سوى قميصها الداخلي الشفاف وسروال داخلي جديد ربما لم يره على جسدها من قبل.. قال لائما ً :
ــ ما لك وهذه الملابس السميكة ؟ ان من يراك يظن انك كنت ذاهبة الى مأتم وليس الى ……
وسكت فأدركت ما يعني . دمعت عيناها . رأته يمد يده ويمسح الدموع عن عينيها . عاد يقول ضاحكا ً هذه المرة :
ــ عباءة وحجاب وجبّة ! ثبت لي انك ماهرة في التمويه يا زوجتي العزيزة .
سكت هنيهة وعاد يقول :
ــ اسمحي لي أن أقول ان قريبك هذا رجل عديم الذمة والضمير والأخلاق ولا يحفظ حرمة لصلة القربى على الاطلاق .
لن تعترض . ستدعه ينفـّس عما يجثم على صدره .انه محق فيما يقول . سكت لحظة منتظرا ً ردة فعلها ثم قال :
ــ ما الذي جعله يتذكرنا ويأتي الينا هذا الصباح ؟
همست بصوت واطىء :
ــ لا أدري ! ربما جاء ليزور بعض صحابه في المنطقة وعنّ له أن يعرّج علينا .
ــ وعرض عليك أن يتكرم علينا ببعض من مواعينه فآثرت أن تنتقيها أنت بنفسك !
أدركت انه قال ما قال ساخرا ًفجاءه صوتها واهنا ً ، منكسرا ً:
ــ نعم .
ــ هل معني هذا انك لم تتصلي به هذا اليوم ؟
هزت رأسها بحركة غامضة زادت من شكوكه . رأته يمد يده في حقيبتها فاعترت جسدها رعشة خوف وجحظت عيناها . لقد ادركت انه يبحث عن هاتفها النقال ، وها هي تراه في يده . ضغط على زر فيه وقال : :
ــ هذه هي صفحة المكالمات الصادرة .
قرّب الهاتف من وجهها واحتد صوته :
ــ انظري ! هذا هو رقم هاتفه وقد اتصلتِ به في الساعة الثامنة والربع صباح هذا اليوم ولا بد من انك وجهت له الدعوة لزيارتك .
ارتعش الصوت بين شفتيها :
ــ أعترف بأنني أخطأت . أقتلني إن شئت . أنا بين يديك الآن .
ــ لم أفكرفي القتل . لكنني حزين لأنك كذبت علي ّ ونحن في هذا العمر .
غطت عينيها براحة يدها وكأنها لا تقوى على أن تنظر في عينيه . قال وقد نزل من السرير وما زال هاتفها في يده :
ــ لا حاجة لأن أسال عما كان يمكن أن يحدث عندما يختلي بك في بيته .
تلك اللحظة رن الهاتف فقفزت من السرير وصارت واقفة قريبا منه . ناولها الهاتف فضغطت على زرالاتصال فيه . سمعت صوت رجل لم تسمعه من قبل ، ألقى تحيته أولا ًوما لبث أن قال :
ــ صاحب الهاتف الذي أهاتفكم منه أصيب اصابة خطيرة في حادث تفجير وهو في مستشفى الطوارىء الآن .
أسقطت الهاتف من يدها ومسكت يديه وقد صارت تقترب منه . سمعها تهمس وكأنها تتوسل اليه :
ــ لقد أنقذت حياتي هذا اليوم .
همس قريبا ً من أذنها وكأنه لا يريد لأحد أن يسمعه :
ــ وأنقذت سمعتك أيضا ً ربما كنت سأجد من يتساءل : ما الذي كانت تفعله بصحبة هذا الرجل دون علم زوجها ؟
رآها تحدق في عينيه وما%