مرت الايام بنا كما مرت على خلق الله منذ ملايين السنين .
الأيام تتسارع، وتمضي الشهور،والليل ينسلخ من النهار، والنهار ينسلخ من الليل ،وكلاهما ينسلخ من الاخر دون ان نعرف ايهما كان البداية ، انها حكاية البيضة والدجاجة ، ونحن لا نرغم تفكيرنا على الوصول الى نتيجة ايهما الباديء في الانسلاخ ،كما اصبح عليه الحال عند ابناء قبيلتنا ، اذ تناست الناس محنتها او انها ارتضت بما آلت اليه امورها، كما تناسى خلق الله محنهم منذ قتال هابيل و قابيل ، واصبح كل ما في ايديهم هو الاهم ، اما انا وراضي فلم ننس محنتنا .
كنا نعيش حياتنا الزوجية ، انا مع شقيقته ، وهو مع شقيقتي ، بروتينية قاتله ، تروس في آلة مزيتة لا تعرف التوقف ، فكان يومنا متشابها ، استنسخ بواسطة ورق الاستنساخ الاسود ، كنا ننام ليلا مع زوجاتنا ونمارس الجنس معهن وكأن شيئا لم يكن،او لم تكن خيرية قد قبلتني الاف القبلات ومصت شفتاي الاف المرات ، فيما تتراقص في رأسينا رغما عنا خيالات حبيباتنا بين الحين والاخر.
اخبرني راضي مرة:
– اصدقك القول يا خيري !
سألته مبتسما :
– وهل كنت معي في السابق غير صادق؟
رد علي ببرودة كثيرا ما عهدتها فيه:
– لا يأخذك تفكيرك الى ابعد مما اعني ، انا اريد ان اخبرك بعلاقتي الزوجية مع شقيقتك؟
قلت له وكنت اظن ان هناك ما كدر صفو تلك العلاقة :
– وهل آذتك بشيء؟
رد علي مبتسما وخجلا :
– كلا ، الا انني اريد ان اقول …
سكت خجلا بعض الوقت ، وعندما طال سكوته طلبت منه ان يخبرني بكل شيء، ولا يخبئ عني شيئا ، قلت له مؤكدا :
– انك تعرف انني سأقف الى جانبك في كل شيء.
ابتسم، ومن بين ملامح وجهه المليئة بالحياء تحدث بكلام متعثر:
– اعرف ذلك… الا انني اريد ان اقول لك … انني …اعيش مع زوجتي …– اقصد شقيقتك – حياة روتينيه، وما زالت فوزه تعيش معي .
ضحكت بصوت مجلجل ، وقلت له وكانت الكلمات تخرج من شفتي مملوءة بالضحكات :
– والحالة نفسها اعيشها مع شقيقتك ، فما الغريب في ذلك؟هذه هي الحياة .
سألني بعد ان وصلته عدوى الضحك :
– اصحيح ذلك ؟
وانا اوقف ضحكي ، وبشيء من رصانة لملمت اطرافها جيدا ، قلت له وانا ارتدي قناع الرجل الحكيم:
– راضي … ان المحنة كانت عظيمة ، وكان وقعها علينا شديدا .
سألني:
– وما ذنبنا نحن ؟
قلت له بذات قناع الرجل الحكيم:
– ذنبنا اننا ابناء هذه القبيلة.
سألني شبه غاضب بكلمات سبق ان قلتها له :
– وما ذنب ابناء القبيلة كلهم بذلك ؟
قلت برصانة الحكيم العارف بكل شيء:
– الاباء يزرعون والابناء يحصدون ، وهذا ما حصدناه انا وانت ، انها محنة الهية .
عندها كمن سمع ما يغيضه… ثار بحدة … نهض من كرسية واقترب من المنضدة الخشبية التي كنت اجلس الى جوارها … وضع يدية عليها واحنى ظهره وواجهني بالكلام ثائر قائلا:
– انت تقول هذا!!!؟ …انت خيري الدارس في الجامعة في بغداد تقول ذلك!!!؟…انت خيري الذي ملأت رأسك ورأسي بكتابات سارتر وكامو والوجودية تقول ذلك !!!؟
ثم صاح بأعلى صوته:
– خيري يقول ذلك يا ابناء القبيلة ويريد مني ان اصدقه؟
لم اره كما رأيته تلك اللحظة ، كان وجهه قد تغير لونه ، وصوته تغيرت نبراته حدة ، فيما فغرت انا فاهي وعيوني لم تتركه لحظة واحدة .
ودون سابق انذار عدل من وقفته ، ودار على عقبيه، ربما شعر بالانتصار او شعر بالخذلان، الا ان ما دونته بعد ساعات في سجلي في غرفة الخلوة على سطح دارنا هو : لم اشاهده مثلما رأيته اليوم هكذا ، كنت اعهده وديعا ، ولا يكثر الاسئلة ، وكان هو نفسه يعيب علي كثرة اسألتي ،- تساءلت – كيف حفظ هذه الاسماء الوجودية وكان هو عندما كنت احدثه عنها يهرب مني في بادئ الامر، وعندما عرف ان هروبه مني يزعجني – وهو لا يريد ازعاجي ولا يحب زعلي – ولا طائل منه ، فأنا اذكر له – رغما عن انفه – كل ما اقرأه في هذه الكتب،يبقى يسمع صاغرا صابرا، واليوم صباحا وفي غرفة المدرسين في المدرسة – المدرسان الوحيدان فيها هما انا وهو – كان احتجاجه على ما قلته قد جاءني عاليا متفجرا ، حتى انني خلت ان كل كلمة قالها قد سمعها طلاب مدرستنا – اقصد الطلاب الخمسة فقط في مدرستنا – الا انني حمدت الله انهم لا يعرفون اصحاب الاسماء التي ذكـرها ، وحتما انهم لم يحفظوها ، لكن الذي قاله ضرب في صميم افكاري ، عندما ذكـّرني بسارتر وكامو والوجودية ، لم افاجأ … لانهم ما زالوا معي هنا ، فأفكارهم المطروحة في كتبهم ما زالت على رفوف مكتبتي الصغيرة ، وما زلت اعود اليها بين وقت واخر ، واعترف ان تفكيري مفارق لهذه الافكار، لان مجتمع قبيلتنا لا يسمح لها ان تظهر ، او لنقل بدقة انها غير مستوعبة من عقولهم ، الا ان راضي – كما ظهر اليوم لي – يفهم ذلك ولهذا قال لي ما قال .
تساءلت ، ودونت تساؤلي في السجل : هل فهم راضي سارتر والوجودية والوجود والعدم اكثر مني ؟ ام انه فهم ما يمكن فهمه من خلال ما كنت اذكره له ؟
كان عليّ ان اتأكد من ذلك منه ، ولكن – تساءلت – ما علاقة الوجودية بالمحنة التي مرت بقبيلتنا وما زالت اثارها عميقة ليس في وجداننا فحسب ، وانما كانت ظاهرة في كل ما هو موجود في الحياة ، فقد يبست الاف الدونمات من الارض ، واخليت دور من ساكنيها ، ولعب الرحمن او الشيطان بعقول ابناء القبيلة ، وراح قابيل وهابيل ويوسف واخوته يجولون ويصولون دون عائق بين ناس القبيلة ، بل انهم دخلوا بين الاخ واخيه ، والابن وابيه ، والحبيب وحبيبته ، ولكن ما حدث لم يكن سارتر يعرف به ، ولم يكن قد درسه في فلسفته واظهره في كتبه ، لانني اعلم علم اليقين ان ما قاله سارتر ينطبق على المجتمع الغربي المادي ولا ينطبق على مجتمعاتنا الشرقية الاسلامية، او مجتمع قبيلتنا ،اما انني ذكرت انها محنة الهية ، فهذا ديدن ابي وابيه وناس قبيلتنا اجمعين عندما كانوا يسألون عن هذه المحنة فيجيبون انها محنة الهية، وحقيقة انها امتحان صعب، ان كان الهي ام غيرالهي ، فقد جرى هذا الامتحان علينا جميعا وحصلنا على نتائجه باليد وفي النفوس.
وتابعت التدوين :وانا اصلا – اكدت – لست شيوعيا او دارونيا او وجوديا كما اراد سارتر من الوجودية – حدثت نفسي – بل كنت معجبا بما كانت تطرحه فلسفته ، والذي قربني اليها احد الزملاء في قسمي وهو رجل متدين ، وحذرني من ان اؤمن بما جاءت به هذه الفلسفة حرفيا، وانما ذكرها لي وذكر مصادرها لانها ستفيدني كثيرا في قراءاتي ، قال لي محذرا:
– ليس ما يفيدك افكارها ، بل اقصد الاسلوب الذي طرحت من خلاله ، وقوانين الوصول الى تلك الافكار .
والحقيقة اقول لم افهم منه ما كان يرمي اليه ، لم اعرف ما الاسلوب الذي كان يقصده ولا القوانين ، فرحت اشتري جميع الكتب – بطبعات ترجماتها غالية الثمن – التي تتحدث عن الوجودية ، وحتى ادبها الروائي والمسرحي والقصصي ، فتضخمت عندي مكتبتها ، الا انني – وبعد المحنة خاصة- عرفت ان تحذير صاحبي في قسم التاريخ كان دقيقا .
اذن فأنا لم اكن وجوديا في نظرتي للاشياء ، وما زال ايماني بالله قويا ،وما زلت اقول ان المحنة التي عصفت بقبيلتنا هي امتحان الهي .
هكذا اكدت لراضي عصر ذلك اليوم بعد ان اغلقت سجلي واسرعت الى بيته ، وكان هو في غرفته الخاصة التي كانت شقيقتي تسميها صومعته العالية .
عندما دخلت عليه صومعته فاجأته – كما اخبرني هو – قلت له :
– راضي… انا لم اكن في يوم ما وجوديا، الا انني كنت اقرأ كتبها للاطلاع ليس الا، وما زلت مؤمنا بما اؤمن به ، ويؤمنون به ابناء قبيلتنا.
ضحك عاليا ، وراح يهدئ من ثورتي كما تفاجأ بها ، ثم قال :
– لم ارك مستفزا هكذا ، هل استفزك قولي صباح هذا اليوم ؟
قلت له : لقد كان كلامك سببا لي في مراجعة افكاري ، فتوصلت الى انني لم اعتنق الافكار الوجودية ابدا ، وانني كما انت وكما ابي وابيك وناس قبيلتنا ما زلت اؤمن ان كل شيء من عند الله .
قال بعد ان قدم لي قدحا من الماء البارد :
– ومن قال لك انني اؤمن بما يؤمن به والدي ؟
ذهلت لقوله … بل كان قوله مفاجأة لي بعد صداقة هذا العمر الطويل ، لهذا سألته قائلا :
– اعرف انك قليل الاسئلة ، واعرف انك كنت لا تتحدث معي الا عن فوزه ، واعرف انك عندما زاملتني في الجامعة كان قسمك في بناية اخرى بعيدة عن بناية قسم التاريخ ، ولكن اعرف ايضا اننا في قسم داخلي واحد وكنا نخرج سوية وندخل سوية ، الا انني لا اعرف ان لك افكارا غير الافكار التي كنت اعرفك بها قبل ان نذهب الى بغداد وندرس في الجامعة ، فهل كانت لك افكارا غير التي كنت اعتقد انك كنت تؤمن بها؟
لم يجب على تساؤلي ، الاانه طلب مني ان ارتاح ، قال :
– ان سلم دارنا صعب الارتقاء ، لم يكن البنـّاء الذي اضافه الى بناية الدار موفقا في تصميمه.
ثم راح يشرح لي افكاره، وكلها تصب في مجرى فوزه حبيبته التي اخذتها موجة المحنة كما اخذت معها ابنة عمي وحبيبتي وخطيبتي خيرية ، وما كان يعتقد به عن مسؤولية الانسان عن افعاله ولا علاقة للاله فيها.
الورقة الثامنة:
غاب الوكيل اكثر من شهرين، وللحقيقة والواقع عاد لا كما ذهب (صعد لحم …نزل فحم)(*) ، ظل هناك شهري تموز وآب ، الشهران الحاران كالجحيم في العراق ، كنا نتلظى بحرارتهما ونكتوي بلهيبهما ، اما الوكيل فقد كان في جوغير جو العراق ، وكان يستنشق الهواء النقي فيما نحن نطلب من الله ان يغير من فتحات انوفنا لتكون واسعة لتستنشق هواء اكثر، خاصة في هذين الشهرين اللذين يقف فيهما الهواء كما يقف عزرائيل بوجه شخص ليقبض روحه، بل قل ينعدم الهواء ويصبح كالسلعة النادرة ، وفوق كل ذلك ، بل قل الادهى من ذلك البرقية التي ارسلها الوكيل الى ابي يطلب فيها نصف الحصه من حق المشيخة الذي جمع اثناء ذهابه لزيارة ابن الشيخ الكبيرالمغترب ، ويطلب كذلك ان يرسلها على عنوان عرفنا فيما بعد انه فندق خمسة نجوم ، قال الوكيل في البرقية: من وكيل الشيخ الكبير ووصيه على ابنه وعلى حقوق المشيخة، الى مساعدنا ابي خيري: ارسل – حفظكم الله – نصف ما بحوزتك، لان ابن الشيخ الكبير رحمه الله – الله يحفظه من كل مكروه ويعيده الينا سالما – يحتاج اليها لتسيير امور حياته في الغربة.
وفعل والدي ما امر به ، وذهبت انا وراضي الى بغداد وارسلنا الاموال اليه،عندها عرفنا ان العنوان هناك كان فندقا ينزل فيه الاثرياء،وفيه اماكن كثيرة للهو وصالات للقمار .
ذكرت ذلك لوالدي عندما عدت ، فبادرني قائلا :
– لا تظلم بختك ، الرجل عنده مهمة معينة ، وهو شخص مؤتمن ، استغفر الله يا ولدي .
بعد ايام جاء من يطلب والدي الى بغداد ، ذهبنا سوية انا وهو ، وهناك عرفنا ان الوكيل قد توفاه الله بحادث تحطم الطائرة التي كانت تقله، ثم ان ابنه الذي كان يعيش في بغداد والذي استقبلنا في بيته ، فرش امام عيني والدي ورقة قال انها وصلت من ابن الشيخ الكبير رحمه الله وتحمل توقيعه، قال لوالدي :
– إقرأ .
راح والدي يقرأ .
كنت ارى ملامح وجهه قد تغيرت ، لم يعد الوجه وجه والدي، احمر ثم اصفر ثم اصبح كقطعة قماش سوداء ، وراحت اليدان ترتعشان ، والشفتان المزرقتان اصبحتا يابستين مضطربتين، خشيت على ابي فأسرعت اليه ، اخذت الورقة وقرأتها ، وبينما انا اقرأ فيها نهض والدي وخرج دون ان ينبس ببنت شفة ، فرميت الورقة في وجه ابن الوكيل وخرجت خلف ابي ، و توفي والدي عند وصولنا الى ارض القبيلة مباشرة.
عندما دخل والدي المضيف الكبير وهو يترك السيارة التي نقلتنا من بغداد، كان يردد مع نفسه ( نحن دفناه سوية )(*) ولم اعر كلامه اهتماما لانني اعرف ما كان يقصده … دخل المضيف الكبير بعد ان وقف عند بابه ونظر اليه مليا … مدد جسده المنهك على سجادة المضيف ، في المكان الذي قبض فيه الشيخ الكبير ، اغمض عينيه ، وراح في سبات خلته انه كان بسبب التعب ، الا انني انتبهت بعد دقائق الى يده اليمنى التي كانت على صدره وقد سقطت الى جانبه ، فنهضت لاعدل من وضعية نومه ، وكانت المفاجأة ، كان جثة هامدة .
عرف القاصي والداني بموت والدي ، وجاء ابن الوكيل في اليوم الثاني لا ليعزينا بموت والدي وانما لينعي ابيه هو ، وامر ان ترفع الاعلام والبيارغ بهذه المناسبة ، واردف قائلا :
– وبمناسبة موت ابي خيري الرجل الذي خدم الشيخ الكبير ووكيله رحمهما الله والذي كان وصيا ثقة على اموال الشيخ الكبير وابنه الذي يدرس في ارض الغربة .
بعدها سكت ابن الوكيل ، اقصد ابن شيخ سلف العماريين ، وبعد لحظات تابع ما بدأ به ، قال :
– رحم الله والدي وابي خيري ، كانا رجلا صدق وثقة .
ثم صاح على رجل يرتدي بدلة افرنجية داكنة اللون كان يجلس في وسط الصف الجانبي للمضيف ، قال له :
– اقرأ يا رديف برقية ابن الشيخ الكبير .
نهض الذي لا نعرف عنه شيئا والذي ناداه ابن الوكيل بـ (رديف) واخرج ورقة من جيبه ، هي الورقة نفسها التي قرأها والدي وتبدل لون وجهه ونهض على اثر قراءتها وغادر بيت ابن الوكيل ثم حصل الذي حصل فأختاره الله الى جواره رحمه الله ،وهي الورقة نفسها التي قرأتها انا ، وراح هذا الشخص يقرأ.
بعد ايام من انقضاء مجلس الفاتحة ، رحت ادون في سجلي وما زالت ربطة العنق التي ارتديها سوداء اللون ، و ثياب أمي واختي وزوجتي وكل نساء قبيلتنا سود حزنا على والدي لا على الوكيل ، دونت في السجل الاتي :
برقية ابن الشيخ الكبير :
توقف القلم عن الكتابة لحظة ثم خربش على الورق ما يشبه الهلالين ووضع بينهما العبارة التالية : (هذا ما زعمه الوكيل الجديد، كما زعمه قبل سنوات والده الوكيل الاول) ثم اكملت تدوين البرقية حرفيا كما قرأتها في بيت الوكيل الجديد في بغداد وكما سمعتها في المضيف الكبير، وكما سمعها كل من حضر : من ابن الشيخ الكبير رحمه الله الى ابناء قبيلتنا…. انعي اليكم وكيلنا رحمه الله ، كان رجل صدق ورجل ثقة، واقيم عليكم وكيلا لنا ابنه وفقه الله . التوقيع ابن الشيخ الكبير رحمه الله .
ودونت : تعالت اصوات الرجال الحاضرين في المضيف ، فمنها من انكر ومنها من كان مؤيدا .
واردف (رديف) قائلا:
– هو توقيع ابن الشيخ الكبيرعندما كان يراسل الوكيل رحمه الله .
عندها دخل مجموعة من الشباب لم نعرفهم ، قد وصلوا بسيارات غير سيارة ابن الوكيل يحملون الهراوات الى المضيف وحملوا كل من اعترض ورموه خارج المضيف وطلبوا منهم ان يغادرو ارض القبيلة والا …!!!؟.
وطار الطير على رؤوس من بقي في المضيف ، وبعد لحظات قام الشخص الذي قرأ البرقية مرة ثانيه وطلب من الجالسين ان يهنؤا الوكيل الجديد .
تثاقل الجالسون اول مرة ، فقد كانوا مذهولين لسماعهم الخبر، تبادلوا النظرات فيما بينهم ، وعندما شاهدوا ابا راضي يتقدم من الوكيل الجديد ليهنئه ، قام الجميع ليهنؤا الوكيل الجديد الواحد تلو الاخر، وعندما انتهى المهنؤون، تحرك الوكيل نحو باب المضيف الكبير وخرج ليركب سيارته بعد ان ذكر ان مساعده هو ابو راضي .
كنت انا وراضي نجلس قرب باب المضيف الكبير ، سمعته يقول بصوت خفيض بينه وبين نفسه الا انه حاول ان يسمعني اياه :
– تم تسليم الراية من سارق الى سارق.
ابتسمت ، وكادت ضحكة عالية تفلت من فمي ، الا اني كتمتها بصعوبة وقلت بنبرة الصوت الخفيض الذي قال به راضي رأيه :
– والله صحيح .
الورقة التاسعة:
مرت الايام ثقيلة بعد موت ابي الذي فقدت بموته رجل ثقة للاخبار على الرغم من انها كانت قليلة ، وكانت اغلب اجاباته على اسئلتي هو انه سيخبرني في المستقبل ، فهل كان والدي يعرف انه سيموت مبكرا ولا مستقبل لاسئلتي ، ام انه كان يريدني ان لا اعرف ما كنت ابحث عنه ؟
مرة، وانا اسأله بعض الاسئلة ، قرأ امامي من سورة(المائدة ) :
بسم الله الرحمن الرحيم : (( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين…)).
كل شيء كان واردا ،الا ان المهم في الامر ان والدي لم يخبرني اجوبة الاسئلة الكبيرة التي كانت تجول في تفكيري .
قلت مع نفسي اذ لا غيرها يسمعني في غرفتي العلوية: سأعتمد على راضي في معرفة تلك الاجوبة ، سأعلمه كيف يكثر الاسئلة ، وكيف يطرحها على والده ليحصل على الاجابة ، الا انني وجدت ان هذه الفكرة فاشلة من الاساس ولا جدوى منها ، اذ تساءلت: من يضمن ان ابا راضي سيكون صادقا في أجوبته ؟ ومن يضمن انه كان يعرف بمجريات الاحداث كما كان ابي القريب من الشيخ الكبير ومن ثم وكيله شيخ سلف العماريين ؟
تركت الفكرة وقد قر رأيي على فكرة اخرى ، رحت ارسم مخططا لها على صفحات سجلي ، واكدت مع نفسي : اذا اكتملت الفكرة من كل جوانبها في سجلي اخبر راضي بها ،واطلب منه ان يشاركني في تنفيذها .
فتحت السجل،ودونت في يومه وتارخه اسماء كنت اعرف انها ستساعدني على معرفة الحقيقة ، وهي كما دونتها في السجل : العم نهر اخي الشيخ الكبيرالذي طرد من قبل الوكيل الاول ورمي بأقذع التهم لانه جاهر بقول ما لا يجب قوله بوجود الوكيل، ثم وضعت اسم الشيخة وردة زوجة الشيخ الكبير التي اخذتها النساء اللاتي جاء بهن القاضي من بغداد ولم تعد الى القبيلة مرة اخرى ، ثم وضعت اسم ام الشيخ الكبيرالتي لم اعرف عنها شيئا ، ثم رسمت حول الاسم دائرة ورسمت سهما وكتبت تحت السهم وبين هلالين (اذا التقيت بها).
ثم دونت الاتي : الطلب من راضي ان يوافقني الخطة .
ثم كتبت : اذا وافق راضي سنقدم طلبا الى وزارة التربية ليتم نقلنا الى بغداد قربيا من العم نهر وزوجة الشيخ الكبير ، وان لم يوافق سأطلب انا لوحدي النقل، ولا بأس ان اصطحب زوجتي معي لانها ستفيدني كثيرا مع زوجة الشيخ الكبير التي عاقبها الوكيل لكذبها ، بأن حرمها من حقوق المشيخة بعد ان جاء بشهود زور وبالاتفاق مع ام الشيخ الكبير ، وشهدوا بأن وردة لم تكن زوجة للشيخ الكبير، بل هي خادمته الخاصة .
بعد ان دوّرت الفكرة في رأسي من كل جوانبها ، اتخذت القرار بتنفيذها حتى لو تطلب الامر ان اكون لوحدي .
في اليوم الثاني ، وفي غرفة المدرسين رحت اشرح لراضي الفكرة ،بعد ان اختمرت جيدا في رأسي ، كان جالسا امامي كتلميذ مجتهد يحاول جاهدا ان يستوعب كل ما اقوله ، وعندما انتهيت ، سألته :
– ها … ما رأيك ؟
نظر في وجهي مليا ، كانت ابتسامة صغيرة مرسومة على شفتيه، حرك يديه في الهواء ، ثم قال :
– لندق الجرس .
واتجه الى صوب المفتاح الكهربائي للجرس وضغط عليه ، فأمتلأت كل جوانب المدرسة برنينه ، ثم رفع اصبعه منه وانسل خارجا وانا انظر اليه .
بقيت لوحدي في الغرفة … لا اعرف ماذا اصنع بعد ان تركني راضي دون اجابة ، ولا تعليق ، حتى انه لم يرفض الفكرة وفي الوقت نفسه لم يوافقني عليها .
تساءلت :
– هل في خطتي ما يشير على فشلها ؟ ام انه اصلا لم يوافق على القيام بتنفيذها معي؟
وانتظرته ليعود بعد انتهاء الدرس ، يجب ان اقنعه بفكرتي ، يجب ان يشاركني راضي الصديق الصدوق بالفكرة وتنفيذها ، يجب ان تكتمل الحقيقة كلها ، سأثير امامه كل القضايا المشكوك فيها ، سأذكره بما قاله في المضيف الكبير عندما سمى ابن الوكيل سارقا يسلم لسارق ، سأسأله ان كان يعتقد ان ابيه هو سارق ايضا ، واسأله عن ابي ، وما رأيه فيه ، وهل يعده سارقا ايضا ؟
اسئلة كثيرة دارت في رأسي وانا جالس امام شباك الغرفة انظر الى الارض السبخة التي تسمى حديقة ، حتى الاشياء تغيرت اسماءها ، لم يبق شيئا لم يتبدل ، الصادق اصبح كاذبا ، والكاذب سمي صادقا ، والورقة العراقية الصنع جاءت مكتوبة من لندن ، وابن الوكيل اصبح وكيلا ، وزوجة ابي الثانية لم اعرف عنها شيئا بعد ان تزوجت غير ابي واخذت القصر الذي كانت تسكنه والذي اشتراه والدي هدية لها بعد ليلة قضاها في فراشها، فيما كانت امي وابنة عمه في فراشها تفكر فيه وبمن يغسل ملابسه… وبنوعية اكله… لقد تغير كل شيء … اخذت معها الحلي الذهبية التي كان يغدق عليها لتبقي تبيع جسدها الشاب لرجل عجوز مثله ، لقد تغير كل شيء.
وعاد راضي من درسه … واعدت مرة ثانية عرض الفكرة امامه ، وانتهت الاستراحة بانتهاء عرض الفكرة ونهض راضي ليضغط على الزر الكهربائي للجرس، فاسرعت الى منعه ، وامرته ان يجلس ، فأنا المدير وانا المسؤول عن الدوام ، ثم خرجت وصحت على الطلاب الخمسة وطلبت منهم ان يذهبوا الى بيوتهم .
عندما عدت الى الغرفة وجدته يبتسم ، سألني :
– ماذا تريد بالضبط؟
قلت له :
– الان عدت لي الصديق الامين على اسراري كما كنت سابقا.
قال والابتسامة ما زالت على شفتيه :
– الا انني سأساعدك دون ان انتقل الى بغداد.
سألته مستفسرا:
– كيف ذلك؟
قال :
– سأبقى هنا لاعرف اكثر مما كنت اعرفه من والدي او من بعض مريديه الذين احاطوا به طمعا بماله بعد ان اصبح مساعدا للوكيل الجديد.
قلت مندهشا:
– الا انهم لا يعرفون شيئا ؟
ابتسم وقال :
– انت الذي لا تفقه شيئا … انسيت انهم كانوا من العوائل الساكنة في بغداد؟
اجبته :
– اعرف ذلك .
سألني :
– الم يكونوا من جماعة اخي الشيخ الكبير، العم نهر ؟
اجبته :
– نعم… انهم كذلك.
قال :
– واكثر من ذلك… ان اغلب العوائل التي عادت الى اراضيها بعد ان ارتحلوا بعد المحنة هم من السلف الذي كانت منه زوجة الشيخ الكبير التي ادعت حملها .
وهويت على المنضدة الخشبية التي امامي بضربة قوية من كفي :
– لعنة الله على الشيطان …لقد غابت عني هذه الامور .
فقال:
– اذن سأكون مفيدا لك هنا اكثر لو كنت معك في بغداد.
لم اقل له شيئا ، ورحت افكر بالامر مليا ، ثم قلت له:
– الا انني ارى ان انتقالك معي الى بغداد اكثر فائدة ، خاصة اننا نستطيع زيارة الاهل هنا ، وعندها يمكن ان نحصل على ما نريد ان نحصل عليه من هذه العوائل العائدة .
الا انه اصر على البقاء … وقال لي :
– توكل انت على الله واطلب النقل ، وسأكون انا ذراعك الايمن هنا .
وذهبنا الى بيتينا بعد الظهر بساعتين .
الورقة العاشرة:
وانا اقدم طلب نقلي الى بغداد ، واعرف انه لا يتم الا بعد انتهاء العام الدراسي الحالي ، حدث على ارض قبيلتنا ، والادق على ارض عشيرتنا وفيما بيننا ، ما هو اكثر غرابة و ما لم يكن في الحسبان ، وهو طلب الوكيل الجديد يد راضية اخت راضي الصبية التي لم تكمل الخامسة عشر من عمرها زوجة له ، وقبول والدها ، ورفض اخيها راضي هذه الزيجة.
كان راضي رافضا لفكرة زواج اخته راضية في هذا العمر ، ومن ثم – كما قال لي – يرفض ان يتزوجها الوكيل الكذاب والذي يكبرها باكثر من اربعين عاما .
قال لي غاضبا :
– سأجعل من ارض قريتنا مسلخا له ولاعوانه ان تطلب الامر .
وعندما طلبت منه ان يهدأ ، قال :
– وكيف تريدني ان اهدأ؟… ها ؟
سكتَ بعد ان سمع طرق ساعي المدرسة، جميل ، باب الغرفة ، فصحت :
– تفضل يا جميل .
دخل جميل وقال:
– ان ابن الوكيل ، اقصد الوكيل الجديد يطلب ان يرى راضي.
صاح راضي مهتاجا :
– اطرده … والا سأبتلي به ؟
طلبت من جميل ان يسمح له بالدخول .
غضب راضي ، وازداد هياجا ، ونهض من مقعده وحاول الخروج من الغرفة، فمنعته ، واعدته الى مكانه .
دخل الوكيل الجديد الغرفة، كان في منتصف العقدالخامس من عمره ، بدين اكثر من بدانة القاضي اللحيم الذي كتب وصية الشيخ الكبير، قصير القامة ، اسمر الوجه ، اصلع ،فيما شعر يديه كثيفا كقرد، ويمكن ان تطبق عليه مقولة الكاتب الانكليزي الساخر برنارد شوعندما سألته احدى نساء الصالونات الارستقراطية هناك عن صلعته وكثافة شعر لحيته اجابها : وفرة في الانتاج وسوء في التوزيع ، وهكذا كان الوكيل الجديد ،فيما ترتسم حول عينيه هالات سود ، وكانت رائحة زكية تنتشر حوله ، وتسبقه الدخول … القى التحية … لم يجبه راضي بل اشاح بوجهه جانبا ، قلت له تفضل بالجلوس ، ودون أي مقدمات سألته :
– ماذا تريد ؟
انتبه الوكيل الجديد الى انه غير مرحب به بيننا من خلال نبرة صوتي وسؤالي المباشر له… نظر الى راضي ، فرآه ما زال مشيحا بوجهه عنه ، ثم نظر نحوي فوجدني انتظر جوابه ، عندها قال باستعطاف :
– استاذ خيري…انا دخلت من الباب ، فلماذا يرفضني ؟
انتظر مني الجواب ، وعندما لم اقل شيئا تابع بنفس النبرة:
– طلبتها على سنة الله ورسوله.
ادار راضي وجهه بقوة وبسرعة وكأنه لدغ ، واراد ان يتكلم فصحت به :
– اسكت يا راضي.
اعاد وجهه الى الجهة التي كان مشيحا اليها ، تابع الوكيل قوله :
– وان والدها قد قبل الطلب ، وانتم ابناء عشائر وتعرفون الاصول ، عندما يتخذ الاب قرارا فعلى ابنائه الطاعة .
صاح راضي كالملدوغ بين انفاس متسارعة كأنها تسابق الكلمات:
– وهل تريد ان تعلمنا الاصول يا ابن المدينة؟
صحت براضي ناهرا :
– ليس هذا تفاهما ، لتكن اعقلنا – وانا اريد ان اقول له كن اعقل من الوكيل الجديد– اسكت يا راضي ، الرجل طلب شيئا وعليك ان تجيبه ، كل طلب وله اجابة .
لاذنا بصمت عميق ، ومرت دقائق دون ان تقال كلمة واحدة ، وكان رأس الوكيل يدور بين راضي و بيني ، فيما كان رأس راضي متحولا الى الجهة الاخرى ، وقد انفتل جسده على كرسيه ،تحركت قليلا على كرسيي، وقلت موجها كلامي الى الوكيل الجديد:
– الا ترى انها اصغر من ابنتك ؟
اجاب :
– لا يقف العمر حائلا دون الزواج.
قلت له :
– هذا صحيح ، ولكننا في عصرانتشار التعليم ، وقد اطلعنا على الامور الصحيحة ، فكانت تؤكد على تناسب العمر .
سألني :
– وهل تظن ان علماء ديننا مخطئين في موافقتهم على هذا الزواج ؟
ابتسمت وقلت له:
– وهل يهمك امرهم ؟
وانا اعرف انه ابعد من ان يهتم بأمر الدين .
قال متصنعا الخشية:
– نعم ، انهم الاوتاد في ارض الله .
عندها دخل الغرفة الساعي جميل وهمس في اذني كلاما استفزني ، الا انني استطعت ان اسيطر على نفسي، وقلت للوكيل الجديد:
-السيد الوكيل اطلب من حمايتك ان يخرجوا من المدرسة ، انك في امان بيننا.
ارتبك بادئ الامر ، ثم خرج اليهم ، وبعد دقائق عاد الى الغرفة بعد ان اطمأن على خروجهم من المدرسة .
سألني مبتسما قبل ان يضع جسده اللحيم كجسد القاضي :
– لم نسمع رد الاستاذ راضي ؟
تحرك الاستاذ راضي في كرسيه ، وعدل من جلسته ، وقال مخاطبا الوكيل بغضب بان على كلماته :
– اتريد جوابي ؟
و بنبرة غير عدائية بدا واضحا لخيري ولراضي انه لا يريد الا ان يديم علاقته بهم ، قال:
– هذا مهم عندي .
صاح راضي مهتاجا:
– خذ حمايتك واخرج من ارضنا والا فأنا استطيع التعامل مع هؤلاء الغجر ،وأعلى ما في خيلك اركبه، اخرج قبل ان أيتـّم بناتك؟
شحب وجه الوكيل وبدى مثل تمثال من الشمع المتسخ ،واخذ يدير عينيه بيني وبين راضي ، والحق اقول ان انزعاجي منه ليس متعلقا بهذا الجدل الديني بقدر ما هو متعلق بصفاته واخلاقه وسلوكه وكبر سنه ، اذ رأيته شخصا متعاليا ومزهوا بنفسه اكثر من الزوم.
طلبت من راضي ان يهدأ:
– ان الرجل في حمايتنا ، هيا عد لمكانك .
نهض الوكيل وخرج من الغرفة، ثم من المدرسة ، وركب سيارته الفارهة ويمم صوب بغداد ، فيما تبعته سيارات حمايته، عندها غادرنا انا وراضي المدرسة .
كان هذا اليوم نحسا ، او- كما قلت مع نفسي – ان الخطة التي شرحتها لراضي هي النحسة … ضحكت في سري ، قلت مع نفسي ان كل ذلك تخيلات من اتعب تفكيره ، الا ان الامور لم تهدأ عند هذا الحد ، بل بدأت مرة ثانية ، ولكن في بيت ابي راضي .
جاءتنا شقيقتي زوجة راضي مسرعة، وطلبت مني ان ادرك راضي وابيه- واكدت بصوت عالي- انهما يتشاجران.
اسرعت انا وزوجتي رضية الى بيت ابي راضي القريب من بيتنا ، كانا متشابكين بالايدي ، فيما كانت راضية تبكي وتحاول ان تفرق بينهما وهي تقول لراضي لتقنعه: انا موافقة يا راضي ، انا موافقة على الزواج .
فيما راحت ام راضي العجوز المقعدة على سريرها المصنوع من الجريد (*)الذي كان يتذكر يوم ميلاد راضي عليه، تضرب فخذيها بكفيها وهي تصرخ مولولة، دخلنا الغرفة انا وزوجتي ، اتجهت لراضي واحتضنته من خلفه، استجمعت قوتي وحملته بين ذراعيّ واسرعت به خارجا ، اراد والده ان يتبعنا وهو يسب ويشتم ويتهدد ، فمنعته ابنته رضيه عن الخروج من الغرفة التي كانت ميدانا لتعاركهما .
اوصلت راضي الى برجه العاجي في الطابق الثاني، وطلبت منه ان لا ينزل ، وقلت له مؤكدا :
– اعتمد على صديقك ، سأحل انا المسألة .
وعدت الى ابي راضي الهائج كثور خرف ، و ما زال صياحه عاليا ، فيما كانت ابنته رضية وهي تحمل على صدرها ابننا الثالث الرضيع الذي اخذ بالصراخ ، تقول لابيها :
– لم يكن راضي وحده هو الذي لم يقبل ، انا اختها الكبيرة لا اقبل يا ابي ان ترميها هذه الرمية ، ماذا فعلت بك كي تزوجها لرجل بعمرك ؟
كان هو ينظر اليها دون كلام ، كان يحترمها ، خاصة بعد ان تزوجت وانجبت ، اما راضي فهو ابنه الكبير ، وكان يتباهى به في المضيف امام الرجال وفي كل مكان وكان يسمع كلامه على الرغم من انه ابنه ، و يقول انه متعلم ، ولا اعرف كيف حدث كل هذا؟
ونحن نقنع الاب ، نزل راضي من غرفته بعد اسوء لحظات عذاب مرت به – كما اخبرني – ووقف سادا باب الغرفة ، وقال بعصبية تبينتها من حدة الكلمات التي خرجت من فيه مزمجرة:
– هذا اخر كلام لي … زوّجها له وسأعيدها اليك ارملة قبل ان تصل الى بيته .
وخرج .
هنا بالضبط ، اطلب منك ايها القاريء اللبيب – ولاول مرة – ان تتصور او تتخيل مدى قوة وقع هذه الكلمات التي تفوه بها راضي ، ليس على ابيه فقط بل علينا جميعا ، اذ لم نكن نعرف مدى قوة وخبث هذا الوكيل المديني الذي يحميه شلة من الرجال من اصحاب البدلات والنظارات السود ، الا ان الحق يقال فهم لم يحملوا اية قطعة سلاح بيدهم او تحت ثيابهم .
كانت هذه الكلمات هي المفتاح الذي سأبدأ به كلامي مع اب زوجتي بعد ان خيم الصمت في الغرفة ، وشلت كل حركة منا نحن الموجودين فيها ،كان تهديدا مباشرا ، وكان ابو راضي يعرف جدية كل ما يقوله ابنه منذ ان كان طالبا في الجامعة ، وكان الاب يأخذ كلامه على محمل الجد ، وكان كلام راضي هو الصحيح دائما ، لهذا كان ابوه يأخذ به ، وينفذه ، وعندما اصبح مساعدا للوكيل لم يتدخل راضي بهذا الشأن، ولم يقل شيئا ولا خاض فيه .
اذن سيكون زواج ابنته راضية فتحا لباب اسالة الدماء بين ابناء القبيلة الواحدة،ومن ثم سجن وربما اعدام ابنه راضي ، وهو لا يريد ذلك ، كل الذي كان يريده – هكذا قال لي ولرضية زوجتي بعد ان اختلى بنا في غرفة اخرى من البيت – ان تتوطد علاقته بالوكيل ، وان يشترك راضي ايضا في هذه العلاقة ، خاصة وان الوكيل لم ينجب ولدا من زوجته الاولى ، كانت كل ذريته اناثا ، و تساءل:لماذا يريد راضي ان يهدم ما بدأت ببنائه ؟ الم يكن ذلك لفائدته وفائدة ابنائه ؟ الم يكن لفائدة راضية ؟ ام تراني قد اخطأت يا خيري؟
لم اجبه ، وانما تحدثت رضية وهي تهدهد ابننا الرضيع على صدرها وتقبل كل شيء من جسم والدها تستطيع الوصول اليه حتى اقدامه التي امتلأت راحتيها بالشقوق: ابي انك لم تخطئ ، الا