قصّة قصيدة :
– الإهداء إلى جواد الشكرجي –
# قصة هذه القصيدة :
في نيسان – شهر الخير والبكاء عبر تاريخ العراق – من عام 2008 رجع ” جواد الشكرجي ” إلى بغداد في زيارة الوداع ، ليصفّي متعلقاته كلّها ، ثم يسافر إلى ” لندن ” – عاصمة الضباب – بعد أن حصل على حق اللجوء فيها ، وبعد أن ذاق أطايبها في الزيارات السابقة لقرار الرحيل النهائي . في بغداد ، وقبل ليلة الرحيل ؛ ليلة الوحشة وفيها لطمية الوداع .. كانوا يسهرون ؛ الأصدقاء الثلاثة : علي حداد – الروائي الذي أمضى أكثر من ستة عشر عاما في أقفاص الأسر مقاوما حاملا نعشه على كتفيه ، والشاعر والإنسان العراقي النبيل الصديق ” جبار المشهداني ” وجواد .. يسهرون كل ليلة في بيت أحدهم . وفي ليلة الوحشة سلّم جبار جوادا مجموعة أوراق وقال له : اقرأها على راحتك . في دمشق وفي ليلة السفر إلى لندن وعاتكة الزوجة وأميمة وعلي يحزمون الحقائب انزوى جواد وأخرج محتويات حقيبته الجلدية الصغيرة فأخرج وريقات المشهداني / الأمانة . وبدأ يقرأ . مع العنوان أحس بحركة غير معرّفة في روحه .. مع البيت السادس شعر برجفة في جسده .. مع البيت الرابع عشر أحس بوخزة خنجر صغير ومسموم في قلبه .. في البيت السابع عشر شعر بطعنة في وجدانه .. في البيتين الثالث والرابع والعشرين أحس
أن جروحا في صدره بدأت تنزّ راسمة أضلاعه على الفانيلة .. في البيت الثلاثين شعر بحرقة الرمل في جفنيه .. وفي البيت السابع والثلاثين تحولت ذرات الرمل الحارقة إلى سائل دافيء ومالح بلل شاربيه وهطل كغيمة ثقيلة رسمت اسم النجف على الأوراق مع نداءات مدويّة وأصوات زناجيل وطاس وصرخات مثكولات قادمة من أحشاء التاريخ : يبووووه .. حُسين حُسين حُسين حُسين .. مع نهاية القصيدة أحسّ بحركة شخص أمامه .. جرس الباب لم يُقرع .. وعاتكة لم تفتح الباب ، وأميمة لم تقل : منو ؟.. رفع عينيه الغائمتين فشاهد شابا ذا سمرة عراقية يضج بالحياة والشقاوة جالسا أمامه .. كذلة بسيطة .. أزرار قميصه المشجر مفتوحة ، وشعر صدره نافر .. “مسرفن” وبلا ساعة يدوية .. يضع وجهه بين كفيه وينظر إلى جواد الذي عرفه فورا .. إنه ” أبو جحيل ” صديقه الشاب العراقي الذي أحبه العراقيون كلهم وأحس أن جواد سوف يرحل وينساه فجاء ليطمئن .. قال له جواد وسط دموعه : لا تتكلم ولا تعاتب .. لقد أنهيت الموضوع . واتصل بجبار في بغداد :
– جواد : لك جبار شسويت بيّه بهاي القصيدة
– جبار : يا قصيدة أبو علي ؟
– جواد : القصيدة اللي سلمتنيّاها آخر ليلة ؛ ليلة الوحشة
– جبار : والله ما أتذكر … ( ترى ما الذي فعلوه بالذاكرة المسكينة تلك الليلة ؟! )
– جواد : زين علي حداد يمّك .. بلّله أنطينيّاه .. علي .. تتذكر آخر ليلة سهرنه بيها .. إي .. ليلة الوحشة
– علي : يعني أحاول أتذكر ..
– جواد : هل سلّمني جبار شيئا ؟
– علي : أتذكر أوراق قليلة .. وراها نمنا .. وشطلع بيها ؟
– جواد : قصيدة
– علي : وإذا .. قابل قصيدة راح ترجعك يا جواد .. إنت عفتنه !!
– جواد : ولك علي .. رجعت .. رجّعت التذكرة وأخذت فلوسي .. والتوبة .. والعباس بعد ما أطلب لجوء ..ومن الجانب الثاني كانت تصل أصوات انفجارات دموع علي وجبار المشهداني ..
# القصيدة :
كنّا ثلاثة
أولنا :
أمضى نصف عمره بالإنتظار
تعرفه اللجنة الدولية
… والصليب الأحمر ….
……………..والزنازين الإنفرادية
الأسرى يحفظون اسمه كنشيد وطني
السجّانون يكرهونه مثل حجارة السجّيل
الساقطة على رؤوسهم من السماء
ثانينا :
حقيقيا كان كالحياة
…………. مسافرا كالأماني
تعرفه خطوط الطيران
والمضيفات ….
الحقائب والمطارات والطرق
………. تعرفهُ
ذات ليلة قرّر أن يترك أمّه : بغداد ..
بغداد التي طيّنت نفسها تلك الليلة
حاول أن يهرب من جحيم الدنيا
إلى جحيلها
أبا جحيل :
تذكّر كل صور المعجبين .. شهقاتهم
أيديهم تلوّح لك بالسلام
شرطي المرور يتغاضى عن تجاوزاتك البريئة
أختك تتلو لك الدعوات في صلاتها
أصدقاؤك حين تتركهم
أمّك : بغداد
أبوك : العراق
إلى أين تمضي بما تبقى من عمرك يا ” جواد ” ؟ !
إلى بلاد الصقيع ؟!
أم إلى بلاد الجراد ؟!
من قال : إن لندن أجملُ من بغداد ؟
من قال أن “الهايدبارك” أرقى من البيّاع ؟
أبوك : العراق
بكى بحرقة لفراقك
إخوتك الذين تآمروا لقتلك
متّهمين ذئب الإحتلال بدمك
تذكّر ” أبا علي ” :
أن لديك عليّا
ولديك الحسين
ولديك العراق
كلّ العراق
” قدوري ” ** يحبك أكثر من الملكة أليزابيث
أمّي تحبك كأبنائها
حتى زوجاتنا
لا يغارنّ من وجودنا معك
تذكّر ” أبا جحيل ” :
أنك رضعت دجلة ذات يوم
وفطمت الفرات
وأن الكوفة خالتك
والنجف مثواك الأخير
تذكّر ” جواد ” :
خير العراق
وحبّ العراق
فأنت العراقُ
وأنت العراق
ونحن العراق
وعاش العراق
وثالثنا :
كنت أنا
أنا العراق
——————
هوامش :
* ليلة سفر ” جواد الشكرجي ” من بغداد يوم 16/5/2008 ليتوجه بعدها إلى لندن .
** ” قدوري ” صاحب مطعم الأكلات العراقية الشهير في بغداد ، خصوصا الباقلاء بالدهن ، وهو يعلق صورة كبيرة لجواد في مطعمه .
قصيدة جميلة جدا ومؤثرة بشكل سمعتها بصوت الفنان جواد الشكرجي وابكتني فيها احساس عالي الله ينطيكم الصحه والعافية فناننا وشاعرنا