حميد حسن جعفر : للدرس فقط * والبحث عن البنية الشعرية المختلفة (2)

4

الشاعر عمر السراي


ولأن قصيدة النثر كثيراً ما تتداخل مع ((النص المفتوح)) أو تأخذ منه ما تشاء وأول ما تأخذ منه هو القدرة على استيعاب الكثير من المعارف.
الشاعر المبدع قد يذهب بقصيدة النثر بعيداً ، حيث اللامكان واللازمان حيث تجد القصيدة نفسها في حالة بث واستقبال دائمين لا يمكن أن ينتمي أي منهما لسوى المخيلة حيث الأشياء في حراك لا يتوقف.
– عمر السرّاي – في ((كمان)) لا يجد غضاضة في أن يمدّ يديه إلى الفكر الديني أو إلى الميثولوجيات – تلك الفضاءات المعنية باللاواقع.
القارئ الذكي سوف يجد نفسه وسط فضاء ما يكتب الشاعر ، وهو يذهب بعيداً في الزمان ليجد الشاعر يوظف معارفه في صناعة النص الشعري أو النثري .
(( سبقني أولهما لم يبق لي
إذ هما في الكمان
فكيف أقول لصاحبي لا تحزن)) ص28
لا بد لهذا القارئ من أن يستحضر النص القرآني
(( ثاني اثنين إذ هما في الغار
يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )) قرآن كريم
وسيقرأ كذلك
(( ايحسبنا الطرشان ماء )) ص29
وهناك النص القرآني (( يحسبها الضمآن ماء))
وما أن يقرأ هذا القارئ (( وما لها دومنها ..
في التيه ملاح )) ص24
حتى يستحضر الشاعر (( علي محمود طه)) وديوانه ((الملاح التائه))
أو يقرأ ((هذا أوان الانفلات إلى الركام)) ص40
حتى يستحضر قول الشاعر العربي القديم
(( هذا أوان الشد فاشتدي زيم))
**
قد يشكل الحوار الشعري سمة بارزة في العديد من القصائد
الحوار كيراً ما يعني القدرة على صناعة ما يسمى بالدراما أو الصراع . وكثيراً ما يعني الاقتراب من المسرح .
وإذا ما عرف القارئ – وكما يقول المختصون بأمور المسرح (0إن المسرح أبو الفنون)) وإن الحوار يشكل ركناً غير مسموح التفريط به من أركان صناعة السرد/ الكتابة الروائية .
هذه الاستنتاجات / المعلومات كثيراً – إذا ما استندت على شيء من الوعي والفكر والابداع : ستشكل فضاءات هامة تمتلك من المطاوعة ما تمنح الشاعر القدرة على صناعة نص شعري معاصر.
فلا غرابة إذا ما عثر القارئ على مساحة واسعة من تعدد الأصوات ، وتعدد الشخصيات ، في القصيدة ، وبالتالي وجود أكثر من جغرافية قد تنتمي إلى الواقع المجمد مرة وإلى الواقع / الحلم مراراً
فقصائد مثل :
((للدرس فقط ))         ص60
((قلم ..و.. رصاص))     ص54
((على ضفتين))         ص45
((فيروز بين يديه))         ص31
((كمان))             ص25
(( آدم ))             ص17
(( CV ))             ص1
عبر هذه القصائد وسواها استطاع الشاعر – عمر السرّاي – أن يشكل عبرها العديد من التشكيلات المنتمية إلى ما يقف خارج / داخل الشعر. إلاّ أن الشاعر بقدرته على الحراك / الانتقال ما بين الشعر كصناعة متجذرة تمتلك من القدامة ما تمتلك والمسرح والسرد كصناعة ستحدثه قد تكون مختلفة .
استطاع وضمن حالة من المماحكة / شيء من التحدي أن يدفع بجسده إلى المسرح مثلاً لا كمدون بل كفعل يؤدي على جغرافية تقف خارج الورق . وإذا ما عرف القارئ أن – عمر السرّاي – لديه أكثر من منجز / مخطوط في المسرح ((السلام أكبر)) مسرحيات .
وإذا ما وضع يديه على عنوان إحدى قصائده ((أوبرا المدينة)) ص21 إضافة إلى وجود مخطوطتين ، الأولى تحت عنوان ((أوبرا وطن)) شعر ، والثانية ((أوبرا مدينة)) أدب رحلات فلا بد لهذا القارئ من أن يعاين جغرافية مسرحية / خشبة مسرح. ووجود شخصين واثارة وموسيقى ورقص وغناء.
وبالتالي فإن الشاعر لا بد من أن يكون على بينة من أمره
لا بد له من أن يمتلك الكثير مما ينتمي للابداع الذي يقف إلى جانب القصيدة / جانب الشعر. وليس داخل القصيدة التي تتمتع بالأساس بحالة إبداع واسعة .
تلك القصيدة التي من الممكن تشكل حالة ممسرحةٍ رغم انتمائها للشعر
هذا الفن – فن المسرح – بحاجة إلى مبدع لا يمتلك قدرة الشاعر فحسب بل لا بد له من امتلاك العديد من القدرات التي من الممكن أن تشكل فيما بينها منتجاً إبداعياً يقدم لقارئ ذات مواصفات تختلف عن جميع المكونات الإبداعية السابقة.

5
قصائد ((للدرس فقط)) كتابات تنزع نحو الحراك ، نحو الاختلاف ، فالشاعر ، وهذا ما يجب أن يكون من ضمن حسابات القارئ – عمر السرّاي – يمتلك من التمرد – بحكم فتوته – ما يمنحه القدرة على تجاوز الممنوعات / الخطوط الحمراء – والتي يحاول الحس العام أن يفرض سطوته على الفرد. وهذا ما لا يريده الشاعر وكذلك فإن الشاعر – وهذا حس طبيعي لدى الشعراء .. ، وهذا ما يجب أن يكون عليه القارئ – سوف لن يجد أمامه ما يمنعه من أن يكتب في الكثير من المواضيع التي يحسبها الكثيرون من أنها مواضيع غير شعرية . أو غير منتجة للقصيدة .
غير أن قدرات الشاعر المبدع هي وحدها القادرة على استخراج الشعرية من اللاشعرية ، فالحياة بكل ما تملك من أسباب الخسائر والانسحابات ، والقدرة على البطش ، إلا أن الإنسان من الممكن أن يجعل الكثير من الزوايا الحادة إلى آفاق شديدة الاتساع .
الشاعر – عمر السرّاي – قادر على أن يمسك بكتلة الحجر / كتلة اللغة / كتلة المخيال. كتلة الأحلام. وأن يصنع من كل هذا مدناً وكائنات وأزمنة أخرى.
فالشاعر –     في دواخل عمر السرّاي – لا يقلُّ قدرة ممن يقدرون على أن يحولوا الحبال إلى حيّات / أفاعٍ . أو أن يمسحوا على أكوام الحطب بأصابعهم لتصير غابات وبساتين .
الشاعر ساحر
الشاعر كثيراً ما يحاذي النبوة في صناعة الجنة
إنه صانع ماهر لما يقف خلف الواقع . حيث يغيب الشطب والإلغاء ، والاستبداد . لذلك على القارئ أن لا يقف متفرجاً على صناعات الشاعر ، بل عليه أن يعمل على صناعة استقبال ذات صيغة منتجة . أي أن يكون الكائن الآخر الموجود في دواخل الشاعر . وأن لا يكون وقوفه خارج النص وخارج منتجه / الشاعر

6
أكاديمية الكتابة كثيراً ما يمزق جوانب منها – عمر السرّاي – لذلك فإن نسيج القول قد لا يتمكن من أن يحافظ على رقوشه أو زخارفه فالشاعر يعلم جيداً أن الإبداع لا يأتي إلاّ من خلال الاختلاف والمغايرة ، وعلى الكتابة أن لا تكون تابعة.
إن وجود خدش بسيط على جدار اللغة كافٍ لأن ينتج تمزقاً هائلاً في الجدران الأخرى.
وإن الصورة المبتكرة لا يمكن أن تترك من خلفها إلاّ صورة مبتكرة أخرى وبالتالي فإن خروج الشاعر على المتعارف عليه لا ينتج حالة سكونية ، بل ستكون النتيجة خرق المهمل، وقدح الشرارة بأكوام عشب القصيدة الجاف. هو وحده القادر على صناعة الحريق. وليتحول الفشل في الكتابة إلى تربة صالحة لإنتاج حالة ربحية .
من الممكن أن يكون – عمر السرّاي – واحداً من مجموعة الشعراء المنتمين للجمهورية السادسة، الجمهورية التي اختفت على يديها سلطات الحزب الواحد، والفكر الواحد، وسلطات الرقابة الفكرية والحروب والقمع . سلطات ادلجة الثقافة وسياسة عبادة الشخصية. وليجد الجميع أن الشعر لم يعد دعوة للقتال أو دعوة لصناعة البطرياركية والفحولة . أو لإقامة تماثيل لتمجيد المرضى .
*
القارئ للعديد من القصائد ، سيجد أن بقايا الديناصور / القصيدة العمودية مازالت تخرج رؤوسها كالتنين بين أسطر القصائد هذه الرؤوس تجيئ على شكل الكثير من صناعة التففية مرة – حتى يحس القارئ أن – عمر السرّاي – لم يستطع أن يتخلص من آثار الماضي ، بل قد يكون هذا الماضي مازال يشكل مساحة واسعة من ثقافة قصيدة الشاعر ومرة أخرى تظهر القصيدة العمودية على هيئة اهتمامات الشاعر بوحدة البيت الشعري الذي يشكل الوحدة الأساسية للقصيدة . هذا البيت ووحدته يظهر على شكل الوحدات الهندسية التي تتشكل منها العديد من القصائد أي أن وحدة القصيدة يستبدلها الشاعر بوحدة الفكرة أو وحدة الصورة. ولذلك فإن قصيدة الشاعر هنا تتشكل من مجموعة وحدات كما كانت القصيدة القديمة تتشكل من مجموعة أبيات .
إن قراءة للعديد من القصائد مثل
((كمان))             ص26
((فيروز بين يديه ))         ص31
((وصايا العائد))         ص13
((أوبرا المدينة))         ص21
((أرصفة الحقيقة))        ص38
هذه القراءة ستفرز كماً هائلاً من حضور للقصيدة المغناة ، أو للأبيات والسطور المغناة . هذا الحضور وإن لم يستطع أن يمنع القصيدة من الحراك . أو من صناعة المختلف إلاّ أنها كثيراً ما عملت على صناعة المصدّات على توقف الجملة، أو الصورة الشعرية. وليرجع الشاعر من جديد ، حيث خط الشروع في الكتابة لذلك ظهرت على جسد القصيدة حالات التعكز على الكلمة الواحدة / كبداية للوحدة الشعرية . من أجل إعادة الكتابة. أو ظهور حالات الاتكاء على التقفية .
إن ظهور ، هكذا معمار في قصائد الشاعر ، استطاع أن يحدَّ من حركة الجملة الشعرية . غير أن القارئ سوف يلاحظ وبصورة دقيقة أن هكذا تقنيات تابعة لم تستطع أن تفرض سلطتها على البعض من هذه القصائد.
فقصائد مثل
((للدرس فقط))                ص60
أو ((قلم ..و.. رصاص))             ص54
أو ((صور من المحرقة))            ص48
أو ((على ضفتين))                ص45
كأنموذج إبداعي دليل على ذلك. فقد استطاعت القصيدة المركبة لدى – عمر السرّاي – أن تعيد تشكيل برامجها من كشف ، وحوار وصراع ، وتعدد أصوات ، بعيداً عن الارتكاز على سلطات القصيدة العمودية . ((وحدة البيت الشعري / المقطع والتقفية)) .
في هذه القصائد ، استطاع الشاعر ، واستطاعت القصيدة ، أن يطلقا قدراتهما لينتجا نصوصاً متمسكة بقدرة اللغة على صناعة الصورة، وصناعة الصراع وإنتاج تعددية للأصوات . من غير أن يقع كل منهما في فخ المباشرة والتقريرية أو خطابية البيان.
إن الكتابة في فضاء المغايرة والاختلاف لن تكون شكلاً من أشكال التهافت على صناعة اللاإبداع . أو على قول اللاشعر . وإذا كان هناك فشل في إنتاج حقل من حقول الإبداع . فهذا الفشل لن يكون بسبب الأدوات الإبداعية بل بسبب فشل الكاتب / الشاعر في حسن استخدام أدواته وآلاته ، إضافة إلى سوء استخدام المعرفة وسوء تشغيل واستغلال المخيلة والمخيال. وعدم القدرة على البحث عن اللامكتشف.
***
إن قراءة متعددة المستويات، أي قراءة تنتمي للتأني والكشف والبحث للعديد من القصائد ومن قبل قارئ قادر على صناعة استقبال متميز ، سوف يوفر وضوحاً وإشارات للكثير من البؤر . ومناطق الحراك. التي يمتلكها – عمر السرّاي – وستضع بين يدي المتلقي نفسه العديد من مفاتيح الكشف في تلك القصائد هناك حضور واضح للمهمل. أو للمنسي، حضور لمفاصل الحياة التي لا تثير الفضول أو الشبهات أو التي قد يعتبرها القارئ يقيناً وهي تنتمي للشكوك والقلق .
هذه القصائد تتميز بحب الاستطلاع أو ما يسمى الفضول تتميز بالمعارف وبحضور الأشياء التي تقف خارج الشعرية.
إن قصائد مثل
((وجه إلى السماء ، نافذة إلى الأرض))         ص42
أو ((أرصفة الحقيقة))                ص78
أو ((عتيق للبيع))                    ص9
أو ((كمان))                         ص25
لا يمكن أن تركز على مركزية الحدث. ولا إلى سلطة النظر من زاوية محددة أي أنها قصائد منفتحة على ما حولها من التناقضات والتجاذبات ولأنها كذلك ، فهي بحاجة إلى العديد من القراءات غير المنتمية للقراءة المحايدة بل بحاجة إلى تعدد وجوه القراءة . بحاجة إلى احتمال الذهاب بعيداً إلى الأطراف / الهوامش . حيث تكون سلطة المعاينة غير ذات تأثير قوي وحيث تكون الأشياء أكثر قدرة على صناعة المغامرة بعيداً عن التجمعات اللاغية للخصوصية . وحيث يكون الهامش غير مراقب أو غير مسيطر عليه وبالتالي تكون القصيدة مهيئةً لصناعة الاختلاف الذي تعتمد عليه القصيدة لإقامة بنيتها الشعرية.

* عمر السرّاي
للدرس فقط
شعر
دار الزاوية – بغداد 2011 .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *