
مفاهيم العولمة تفترض مقاسات وسياقات مختلفة عن المألوف قي جميع مناحي الحياة , إذ أن استثمار المفهوم يعاكس البناء التقليدي , فلابد من إتيان أعمال خارجة عن العرف السائد , وهنا لااقصد الجانب الاجتماعي , لكني انظر من خلال التفاعل الأدبي على الساحة العراقية الضاجة بالنشاطات المتعددة والمنتديات المنتشرة على ساحة الوطن .
أنه مخاض يتمرا في وجوه عديدة لإفرازات متلاحقة , لأن المهمة عسيرة على ضوء معطيات الإعلام المتشظي , يضاف لها عدم الاستقرار السياسي وقصدي عدم ( النضج السياسي ) لأني أعتقد بأن احتراف السياسة يفترض آليات يتحرك من خلالها السياسي , بعيدا عن المسميات الضيقة , خصوصا إذا امتلك منصبا حكوميا , هنا يصبح بمثابة الأب, وليس الطامح لأجل الفوز لما يصبو أليه. والاحترافية مسألة تحتاج إلى خبرة وزمن قد يطول أو يقصر حسب التوجهات .
أن ما يعنينا في ( عولمة الأدب ) والأدب القصصي خصوصا هي المسميات ( المصطلح ) . لأن في عصر العولمة لايوجد ( كاتب كبير ) بسبب انحسار مفهوم النخبة الريادية , كما تقلصت مساحة الفروسية في زمن أوجد تطورا أليا أصبح الإنسان مجرد شيء ( متحرك وعاقل ) ضمن دائرة واسعة وضيقة في آن واحد .
ضيقة في محدودية الفعل العضلي , وواسعة بفعل الإرادة لاكتشاف عوالم واسعة وغير محدودة , مقابل متلاحقات ريادية في المشغل القصصي ليوجد مسمى جديدا يتلاءم مع التطورات المستدامة ( كتاب كبار ) ضمن منهج متفاعل ومتوازن يعطي نتائج واعدة .
فمن المؤكد أن العقل الجمعي يختلف عن العقل الفردي في إيجاد مشتركات متلقية لخلق سرد متنامي مبدع مختلف عن الكلاسيكيات , لأن الفاهمات والثوابت المتعامل معها تنتج حالة توليدية تفترض احتمالات نضوجه( النص ) أكبر من العملية الفردية فالزوايا الثقافية المتحركة تحاصر الثيمات بخلفيات تمتلك مواصفات متباينة في النوعية الثقافية المكتسبة لتخلق هجينا يقترب من الصورة المستوفية لشروط الإبداع .
يضاف لها مزية المنح في أعطاء فرصة واحدة متكررة لأكثر من مبدع ليضع بصماته الواضحة على منجز متفرد في خصائصه الوظيفية .
لهذا نجد خطوة المنجز في ( القصة التوليدية ) درسا يتفاعل مع مسيرة القص العراقي , لأنها لاتغمط حق احد من كتابها لإشارتها الواضحة والصريحة لنصوص كتابها , حيث يتم تقسيم النص على مقاطع مخصوصة تحدد عمل كل مبدع بصورة منفصلة ومتداخلة بامتلاك وحدة الموضوع ليقوم برسم تفاصيل تزدهر في مخيلة صانعيها , لتخرج حصيلة متفاعلة , تبني نصا يمتلك روح الحداثة لأنه خلق مؤثر في تعدديته .
ونكتشف أيضا في لغة ( القصة التفاعلية ) عدة مستويات من السرد , تحكي نمط متجدد لثيمة متحركة ببنية متشظية ومتماسكة ضمن أطر بنائية لاتبتعد عن البناء القصصي ولاتقترب منه , لتصبح جزءا من مفاهيمه الكلاسيكية , لأنها تبني عالما خاصا بها يمتلك مواصفات مركزية في خلق نواة متحورة لفن قصصي يتماشى مع معطيات كثيرة تدب ضمن الحراك الثقافي .
أنها معالجات تحتاج لمزيد من الوقت والجهد لنتأى عن القوالب الجاهزة في صنع الإبداع , كونها عملية مستمرة ومتحركة في آن واحد لاتحدها سياقات القصة القديمة ولانفترض أنها الحل النهائي لإشكاليات القصة لأن التطور سمة الحياة ولايمكن التوقف عند نموذج واحد
أنها خطوة قد تقود إلى خطوات متلاحقة يمكن أن تبني صرحا للفن القصصي العراقي الواعد .
مقاطع حمادي التفاعلية
المقطع الأول / صالح جبار محمد
تدحرجت الأمنيات مثل كرات مبعثرة , أردت جمعها في قارورة الذاكرة , فهربت تتقافز بعيدا نحو حواري رسخت جوار برك الوحل , تمتد عشوائيا , بسخرية توقظ شعورا بالخذلان والريبة , فتتكدس على الأبواب المهملة بصمت يفيض حزنا بلا تودد للغرباء .
لمحت عينيك المفزوعتين من خواء المفازات , تطوي لهاث الرغبة وشعور التداعي يجلدني بقسوة . العتمة تلج الأرجاء ومخاضك عسير يقلقني , أكتوي بلظى مريب يشاركني فزعي القديم , ومنذ الازل حين يهطل الغيث تتبلل الحيطان ويستحيل التراب طينا في عشبة الكون
البارحة تذكرت خالتك بصوتها الشجي تغني ( هو صحيح الهوى غلاب ) كم كانت تتألم هذه المرأة , وتندب حظها .
ملامحها الجميلة تستوقفني , ببشرتها البيضاء وعينيها الخضراوين , وأنفها الدقيق , أنها تشبهك . فكرت لو أستطيع أقامة علاقة معها , لكني كنت خائفا , فما زلت صغيرا في نظرها , أسمعها تشتكي دائما من حمادي فهو لاينام معها …
المقطع الثاني / علاء حميد الجنابي
الشبه بينك وبينها جعلني , أهيم بك عشقا وأجهض الارتعاشة قبل استفحالها لتصبح صورة خالتك , جزءا من رماد الذاكرة , فيما بقيت أنت لهيبا يستعر .. يحرقني كل حين ,
صوت القطار القادم من البعيد يعيدني إلى فضاء المحطة التي أدمنت الانتظار فيها ,منذ أكثر من عامين منتظرا عودتها …
ذهبت من هنا ..عجوز حفرت على وجهها السنين أخاديدا متفرعة – جلست على دكة الرصيف المجاورة .. القطار الأخير يلج المحطة .. يقف .. يتقيأ أحشائه الآدمية ..
أنظر في ملامحهم واحدا .. العجوز تمعن النظر في كل شاب يضع أول خطواته على الرصيف رقم (5) .. تنظر ألي .. تكلمني :
سيأتي .. وعدني بذلك .. لأنه حبيبي الوحيد , سيعود
لم أشأ أن أدخل بحوار معها , كي لاأضيع فرصة أن أراها وهي تهبط من القطار لتصبح الأرصفة الإسفلتية تحت قدميها , أرضا خضراء يانعة . أخر المسافرين يهبط متكئا على عصاه .. المسافرون يدفعون الإسفلت بأقدامهم المتسارعة .. العجوز تنظر بوجهي .. أنظر أليها الدمعة تنساب .. تتفرع في أخاديد وجهها عرفتها حينما بدأت تصرخ
حمادي ..حمادي , نهضت .. نهضت فيما أنطلق القطار يوميءبايماءة الوداع ..
المقطع الثالث / سعد السوداني
آه سيدتي , كم كنت غبيا حين صورت لي مخيلتي المريضة لحظات ذوبان كياني في ثنايا جسدها البض راكلا حمادي مدحرجه تحت قدميها يصرخ بي متوعدا , أن لحظة ألانتقام لابد قادمة , حينها سيطيح بكياني كله تحت قدميه المتسختين بدهون ( ديزل ) قطار أخر الليل .
آه لو تعلمين سيدتي , أي حسرة تكاد تأكل قلبي , حين ألقاها في زاوية من زوايا المحطة القذرة أوفي عربة من عربات قطار أحيل إلى الموت . وقد كدست عرباته المحطمة الصدئة , لتكون مأوى لكلاب المحطة , أو لمجانين المدينة البائسة .
آه ما أقسى فعلتي حين غرزت السكين في صدر حمادي , وألقيت به فوق سكة قطار أخر الليل . آه ما أغباني حين ظننت أن نهاية حمادي ستجعل مني كبيرا في نظرها , فتترى صورا حقيقية , هذه المرة أذوب عند كل ثنية وطية وزاوية في جسدها البض , لاصورا متوهمة لمخيلة مريضة
هاهي ماثلة أمامي يعافها حراس المحطة , ولا يأنس لها سوى المجانين , بعد أن استحالت إلى كتلة سوداء متسخة تشبه أسفلت الشارع المحاذي سكة قطار أخر الليل . تصرخ في كل مرة تراني فيها :
( زوجي حمادي , سيعود حتما مادام قطار أخر الليل في طريقه إلى المحطة )
المقطع الرابع / عبد الكريم حسن مراد
حتما سيعود . قلت لها ذلك , لكي أخفف عنها وطأة الحزن .. فصدى صوتها كان يرقص مرتعشا هنا .. وهناك .. فوق الرصيف البارد الذي كان يغط بالمسافرين , المحلقين حول حقائبهم بانتظار القطار وهي تصرخ :
حمادي … حمادي أين أنت يانور عيني , كفاك بعدا ..فأنا حبيبتك .. التي كنت تتوق اللقاء بها دوما هناك .. في تلك الزاوية لتطبع أول قبلات الصباح على شفتيها …
رباه .. ماذا أفعل ورائحة عطرك هنا يسري فوق تضاريس جسدي .. أني أشمه .. أشعرك معي في كل لحظة , أشعر بدفء شفتيك وهو يعانق شفتي تحت مظلة الانتظار المتروكة منذ زمن الحرب في ساحة ( الميدان ) يوم غاب عنها .. هادي السيد .. وعبد اللطيف الراشد .. وحامد عبد الرضا .. أخر المتصعلكين ..
مطر تلك القبلة يحركني لأتذكر وجهك في كل لحظة . الذي أعيش معه لحظات فرحي لوحدي . حتما سيعود على تقاسيم حروف أسم حمادي .
أفاقت وهي تنظر ألي – أحسست بها أنها تريد أن تقول شيئا ما … لكن صوت حارس المحطة وهو ينهرها ويطلب منها الابتعاد عن المسافرين أفزعها وحملها لتركض مبتعدة مختفية في أحد زوايا المحطة , والتي شل حركتي ورسم في مخيلتي صورة لها , قبل أعوام مضت وهي في قمة أنوثتها , وأنني كنت أشتهيها بكل جوارحي … وكنت أتمنى لحظتها أن أنام معها ولو ثوان , لأتذوق رحيق جسدها البض …
صوت صافرة القطار القادم مزق تلك الصور وشتت خيوط فكري .. ليعيدني إلى أحضان الرصيف , الذي كان يغور بأجساد المسافرين العفنة , وهم يحملون حقائبهم متجهين نحو كابينات القطار ذو اللون الرمادي ..
وبقايا من صدى صوتها , أسمعها تأتي من هناك .. من زاوية غير مرئية , وهي تصرخ :
باسم – حمادي … حمادي … حم …ا …دي
حينها بقيت لوحدي , أشاطرها محنتها وفي مخيلتي , بقايا من صورتها , كان يرقص مغازلا جسدها الطري الذي مزقته وحشة الوحدة القاتلة
شكرا استاذ حسين سرمك لابرازك هذا النشاط الذي حاول الكثيرين الاساءة اليه . دمت لخدمة الثقافة العراقية