بينما تفترض الرواية ـ أية رواية ـ تاريخها الخاص، وعالمها الذي تنصرف لتأسيسه وتأثيثه وتشكيل وتوزيع عناصر بيئته، وهو ما يُمكّن من احتساب نقاط نجاح الرواية، وفق منظور ما، في مدى قدرتها على التخييل بواقعية هذا العالم الخاص، واتّساق نظامه الداخلي، وإجبار القارئ على الإقرار بمعقوليّته، مما يعتبر أمراً أساسياً يتوقف عليه تمثيل الأفكار، لتقديم “الحقائق النوعية الفنية” بصورة مقنعة، والسعي لتجسيد مبدأ مهم من جماليات التلقي يتمثل في “الإيهام بالواقعية”… إلا أن نمطاً من الرواية “الجديدة” عمل على تكسير هذه المبادئ، وتفتيت البنية الروائية المتعارفة سابقاً، سعياً لإثارة الأسئلة الفنية الصادمة للمتلقي، عبر إنتاج معمار سردي جديد، والتجريب في أشكال روائية مبتكرة، تحت غطاء شرعي نظري، يتمثل في أن “الرواية هي النوع الأدبي الوحيد الذي لا يزال في طور التكوين، والنوع الوحيد الذي لم يكتمل بعد” كما قال “ميخائيل باختين” في كتابه “الملحمة والرواية”.
(مدينة الصور) من نوع الروايات “الجديدة” التي لا ينبني خطابها الروائي على تقديم قصة واحدة ومحددة، بل مجموعة مواد حكائية. هذا الشكل الذي اتخذته الرواية، والذي أقرّه د. سعيد يقطين في بحثه المعنون “أساليب السرد الروائي العربي، مقال في التركيب” عمد إلى تفجير الحبكة الروائية، إلا انه تحول إلى بدائل أخرى للجمع بين مفاصلها ولملمة شتاتها، تمثلت في ثلاثة أمور: الأول: “المكان” الذي جسّد دور البطل في هذه الرواية. الثاني: “الصور” التي كانت تكذب على امتداد الرواية، فصارت محوراً ينطلق منه السرد، وتدور حوله الحكايات. أما الثالث: فهو “الصوت” أو السرد المونولوجي لسارد مشارك في الأحداث بمقدارٍ ما.
في مقاله “الرواية بوصفها أداة بحث” يقول د. عبد الله إبراهيم: “كلما تغيّرت الشروط الثقافية استجدّت أنماط من السرد الذي لا يولي اهتماماً بالحكاية، فحسب، إنما يولي اهتماماً بنفسه أيضا، وأحيانا يتغلّب الاهتمام بالسرد على ما سواه من أشياء أخرى”. هذه الرواية اتخذت نمطاً جديداً من السرد، يوظف بلاغة الصورة، ودلالاتها الايقونية، ويهتم بنفسه إلى درجة إغفال الحبكة المركزية، متجهاً لخلق فضاء تركيبي. وهذه الخاصية التركيبية التقطيعية للسرد تتضح من خلال ما للصور من استقلالية في بنيتها الرؤيوية، فكل لقطة تمثل موضوعها، وهكذا انسحب هذا التوليف إلى الرواية. يعلو صوت الحكّاء كلما انفتح الدفتر. دفتر يلصق الراوي فيه صوراً مقصوصة من الصحف أو المجلات أو كتب التاريخ. صور من سوق المستعملات، أو مستلة من ألبوم العائلة، أو ملتقطة بكاميرا البولورايد. صور من الحياة، تستفز الذاكرة، وتتسع معها الحكايات.
رواية (لؤي حمزة عباس) هذه تتمثل بنائياً مقولة “الأدب رؤية” والتي تعني ـ في ما تعنيه ـ “أن الأدب كشف جديد لحقائق نوعية” بحسب قول د. شكري عزيز الماضي، في كتابه (أنماط الرواية العربية الجديدة). ومن خلال نظرة عامة للرواية يمكن الربط بين مقدمتين هما: الصور تؤرّخ للمدينة، والصور تكذب، للخروج بنتيجة الجمع بينهما بأن للمدينة تاريخ كاذب. ويمكن توضيحها بالمعادلة: (مدينة الصور + الصور تكذب = المدينة تكذب) فالمدينة معرّفة بالإضافة للصور، ومن خلالها، فهي ما يجسد زمانها المرئي، الذي اتخذته الرواية مادة حكائية لها، مروراً بذاكرة الراوي ودفتره وصوره.
تنطلق مدينة الصور من وعي جمالي جديد، لتدوين سيرة روائية لمكانها الأثير، (المَعْقَل، ومن ورائه البصرة) عبر التقاطات مقطعية فوتوغرافية لتناقضات الإنسان وتقلباته وفوضويته. وهي بذلك تجسد وعيها العميق بمنطق الواقع وأزماته، “فعندما تتشظى الأبنية المجتمعية، ويفقد الإنسان وحدته مع ذاته، لا بد من الاستناد إلى جماليات التفكك بدلاً من جماليات الوحدة والتناغم” وفقاً لشكري الماضي أيضاً.
وتبعاً لما تنتهجه الرواية الجديدة بعامة، في أنها لا تسعى إلى دفع القارئ لتوهم الحقيقة، بل إلى التفكير من جديد في كل ما يقرأ، تعمد مدينة الصور إلى خلخلة الثقة بالواقع، من خلال تكذيبه. فالصور، التي تعد من أصدق الوسائل التوثيقية، ستكون كاذبة، وسيكون، تبعاً لذلك، تاريخ المدينة حشداً من الأكاذيب. فهي تؤسس لبلاغة الكذب، بدلاً عن تلك الصدقية المفترضة في مجريات الواقع؛ إذ إن الرواية ترى بأن صدق الواقع ما هو إلا واحدة من سرديات الوهم الكبرى.
ساعدت لغة الرواية، التي ابتعدت بما يكفي ـ رغم تكثيفها ـ عن توظيف النبرة الشعرية، على تجسيد الأحداث بأمانة، مستفيدة من الحوار الذي كثيراً ما كان يطلق الأسئلة القلقة، “هل سمعت عن حيوان يشم الموت؟” هذه الأسئلة التي تتفاعل معها الشخصيات، مثلما يفترض بالقارئ، كذلك، التفاعل معها. الصور تطلق الأسئلة أيضاً، صور الحيوانات والأماكن والأشخاص المغمورين والمهمين، سياسيين وفنانين وكتاب … أي شيء جمعها في دفتر الراوي، أو في ذاكرته؟
الصور هي هاجس هذه الرواية ومحورها، تشغل تفكير ساردها، وتستفزه في كل حين، وهي ما يعيد تشكيل رؤيته للتاريخ وأحداثه والمكان والاشخاص. فيقول مثلاً: “تمنيت أن أستعيد وجوه أناس المعقل. بكاميرا البولورايد. لكل وجه صورة. ولكل حكاية. وكل حلم. أعرف أن الصور تكذب. وأنها أبداً لن تكون الوجه والحكاية والحلم”.
ولكن كيف تكذب الصور؟ فرغم تأكيدات الرواية التي لا حصر لها على هذه الحقيقة، إلا أنها، أبداً، لا تجيب عن سؤال جدير بالطرح كهذا. وهي بذلك، حتماً، تدعو القارئ للتدبر وإيجاد الجواب. ولذا ربما يمكننا القول أن الصور تمثل لحظات مقتطعة من الحياة، وهي تمثل لحظتها فقط، لحظتها التي مضت ولن تعود، لهذا فإن الإنسان الذي وثّقت الصورة لحظة ما له، سيكون في تبدل دائم، ولن يكون كما هو في الصورة مرة أخرى، وبذلك لن تعبر الصورة عنه بصدق. ولأن الصورة، أيضاً، توثق في كثير من الأحيان، مواقف مفتعلة، فكل من أحسّ باستعداد الكاميرا لالتقاط صورة له، سيغير من هيأته، يبتسم أو يضحك مثلاً، ليعطي انطباعاً لمن سيرى الصورة انه إنسان جيد أو جميل الوجه، وربما يفعل العكس. الصورة، كذلك، شكل صامت لا يمكنه النطق وتجسيد حقيقة الإنسان الذي يُعرَف، أكثر ما يُعرَف، من خلال منطِقِه. فضلاً عن كونها ـ أي الصور ـ قد تخضع لتغيير وتعديل واقتطاع وإضافة وتلوين، وفق تقنيات خاصة. كما أنها قد تمارس ما يمكن تسميته (بلاغة الحذف الصوري) أي أنها ستعمد إلى إخفاء أشياء أكثر من تلك التي تبديها، وكما يذكر د. شاكر لعيبي في كتابه “الصورة بوصفها بلاغة”: “المهم في الصورة ليس ما يحضر فيها ولكن ما يغيب” وبذلك تتعدد قراءاتها، ما قد يفضي إلى أنها ستوقع وهماً من الأوهام في وعي المتلقي، أي الرائي لها، كما أشار في نفس الكتاب. من أجل كل ذلك فان الصور ستجسّد حقائق واهنة، ولحظات لن يكون لها نظير في الواقع، وبهذا يمكن معرفة لماذا كانت الصور تكذب في هذه الرواية.