* صنعاء
لم أكن أعلم بأني أمام عمل له روح مراوغة..أو هكذا أحسست بأني أمام كائن له روح.
بعد أن فرغت من رواية (ظلمة الله) أو كما عدلت ظلمة يائيل.. فكرت بعمل جديد .. وأثناء انشغالي بالظلمة تبادر إلى ذهني فكرة ( من هم الذي قاموا بثورة اليمن ضد الإمامة الزيدية؟) كانت بعض الكتب قد أشارت إلى طلبة مدرسة الأيتام.. وأشارت إلى ذلك النظام الداخلي للطلبة.. وكتب أخرى أشارت إلى دور الرهائن.. أولئك الذين يأخذهم الإمام صبيان من أبائهم مشايخ القبائل حتى يضمن ولاءهم.. يستخدم صغار السن كخدم في القصور.. ومن تجاوز سن البلوغ في السجون.
وما شغلني في الأمر هي طبية تكوينهم أولائك الثوار سواء في مدرسة الأيتام أو في قصور الأمام وسيوف الإسلام.
قرأت عدة مذكرات لبعض أولائك الثوار..وكتب أخرى حول حياة القصور.. وحول قيام الثورة.. لأكتشف بأن الرهائن كانوا يتعرضون للاعتداء.. سواء في القصور الملكية.. أو السجون.. وأن المدارس التي كان بها سكن داخلي للطلبة الأيتام هي الأخرى كان يمارس على الطلبة نوع من أنواع الاعتداء.. لا أجزم في كل الحالات أن أحكم على ذلك الوضع.. حول معرفة الإمام بما يدور خلف تلك الجدران.. وهل تلك كانت سياسة أم أنها جاءت بظروفها كون تلك الفئة من الطلبة والرهائن في أعمار صغيرة.. إضافة إلى وجودهم مع أقران في مكان هو الأقرب إلى نظام السجون..
هذه مسألة شغلتني .. وظل سؤال يتردد بداخلي( من هم الذين قاموا بالثورة.. وما هي خلفيتهم؟) لكن مطالعاتي في عدة كتب قادتني إلى معرفة أكثر اتساعا بأوضاع المجتمع في ذلك الوقت..من الناحية الدينية والسياسية والاقتصادية.. ليترسخ في ذهني موضوع أشمل لكتابة عمل روائي جديد محورة الثورة اليمنية. وظروف المجتمع آنذاك وحياة القصور.. وطبيعة الثورة..إضافة إلى أثر الصراع العربي العربي عليها وكذلك الصراع العالمي بين الكتلتين الرأس مالية والاشتراكية . كنت سعيدا بذلك الموضوع وبعد أن فرغت من قراءاتي.. بدأت بكتابة تصور للبداية ثم سير الأحداث.. طبيعة شخصيات العمل علاقاتهم.. ثقافاتهم.. المساحة الجغرافية للأحداث.. ثم بدأت بصياغة العمل.. كان مخطط العمل يتجاوز الأربع مئة صفحة.. تغطي عشرين سنة.أي ما يقارب العقد قبل الثورة وعقد بعد الثورة.
خلال ستة أشهر من بدء الكتابة اليومية المستمرة لمشروع الرواية..كنت قد أنجزت ما يقارب المائتين صفحة.. كنت أشعر بسلسة وسهولة الصياغة.. لكني في تلك الأثناء رأيت أن أدخل على الشخصية الرئيسة تيمة معينة.. مثله مثل أبطال رواياتي السابقة.. حيث تلتصق بالشخصية خصيصة غريبة طوال حياته في الرواية.. وكانت الرائحة.. نعم الرائحة التي تنبعث من جسده في لحظات الخوف والفرح.. استحسنت الفكرة لأعود من بداية العمل بالمراجعة.. وهناك في الصفحات الأولى تشعبت.. إذا أن أي تغيير في حدث أو خصائص الشخصية يقود إلى تغيير شامل في بنا مشروع العمل لأقرر أن أمضي في إعادة كتابة العمل من جديد.
كنت قد بدأت أشك في أن لهذا العمل غموضه.. إذ أن أعادة الصياغة أخذ مني وقت وجهد مضاعفين عن كتابته الأولى.. سرت عدة أشهر حتى أنجزت مئة وثمانين صفحة وتبقى لي حتى أصل إلى الإنجاز السابق عشرين صفحة.. الحقيقة كنت سعيدا وراضيا بما أنجزت.. فقد جاءت إعادة صياغة المشروع بعمل أكثر تماسكا كما تعددت فيه المعالجات ..إضافة إلى استخدامي لأساليب فنية فيها نوع من التشويق والإغواء.. وكانت قد حددت فترة زمنية لإنجاز بقية الرواية حتى نهايتها بستة أشهر أخرى لتدخل في مرحلة المراجعة والتنقيح عدة أشهر أخرى.. إذ أني أستشير بعد إكمالها أكثر من قارئ جيد قبل إرسالها للطبع.
لكن طارئ جديد حدث.. فحين كنت والصديق الروائي والمسرحي منير طلال نقوم بواجب العزاء لوزير الثقافة عبدالله عوبل بوفاة والده.. تركت حقيبتي في السيارة ودخلنا قاعة السلام لنعود بعد نصف ساعة وقد تبخرت الحقيبة من داخل السيارة.. كان جهاز الحاسوب الـمحمول (لابتب) الذي أجمع فيه الرواية بداخل الحقيبة.. لم أحزن على فقدان كرت السيارة أو بطاقتي الشخصية و بطائق عضوية لعدة منظمات.. ولا على صور كثيرة ومواضيع جمعتها فيه وخزنتها خلال سنوات.. كل ذلك لا يهم.. فقط ما جعل جسدي يتعرق بشكل غريب إحساسي بفقد ما أنجزته للمرة الثانية من مشروع الرواية.. كنت أقول لو أن اللص ذكي لتواصل معي وفاوضني على قيمة نسخة من مشروع الرواية لدفعت له ما أستطيع دفعه.. على أن يخذ بقية غنيمته.. فقد يسحب لي المادة في فلاش وأدفع ثمن تكرمه بذلك..لكني اكتشفت أن اللصوص دوما أغبياء وأن جسدت الأعمال الروائية والسينمائية ذكاء غير مستحق.. واعتقدت أن زعماء الدول- العسكر..هم بغباء مضاعف.. ولذلك تراهم لصوص منحطين-
ظللت عدة أيام على أمل أن يعود لي ذلك العمل غير مصدق بأن سأعود لأبدأ من الصفر.. وبعدها بالفعل تيقنت أن لذلك العمل لن يعود..
ابتعت حاسوبا أخر واحتطت بشراء فلاشين أحدهم بسعة كبيرة حتى أخزن فيه ما أكتب أول بأول..
جلست إلى نفسي وأنا أرى أن أمامي أكثر من سنة سأقضيها في إعادة جمع مادة الرواية.. كدت أتمزق من الغيظ.. ما كان يضر اللص لو قام بسحب المادة وتواصل معي برقم هاتفي المسجل على أجندة كانت بداخل الحقيبة المسروقة.. أو أن يبعث برسالة على صفحتي بـ (الفيسبوك) أو يبعث برسالة على عنواني .. كل تلك المواقع والعناوين مفتوحة في جهازي المسروق.. يخبرني بأنه وضع المادة على عنوان …… أو يبعث بها على إيميلي.. مضره ذلك اللص الغبي.
بالفعل ما كان أقساها من لحظات وأنا أجلس أمام الجهاز الجديد كطالب ألزمه المدرس أن يكرر كتابة الكلمات عدة مرات.. عدت من نقطة الصفر.. في البدء حمدت ذاكرتي حين أخذت تستعرض خط سير ما كنت قد أنجزته.. فوجدته محفوظ.. دونت ذلك على الورق على شكل خط سير للأحداث.
بدأت الصياغة من أول كلمة.. كنت أعتقد أني سأدون الرواية كما صغتها أخر مرة .. أخذت أتذكر تلك الجمل التي كنت قد أنجزتها حتى يسهل علي الأمر.. حاولت أن أجد ما أنسخه مما تحفظه ذاكرتي.. لم أجد فصول ولا صفحات أو فقرات.. لم أجد الجمل التي كنت قد صغتها ولا المفردات.. فقط هي خطوط عريضة للموضوع تحتفظ بها ذاكرتي.. شبيهة بتلك الخيوط المعلقة على فروع شجر تحركها الريح.. خطوط عريضة .. ما أسوء ما أنا فيه.. وعليه تركت ذاكرتي وما عشمتني به .. وأخذت أصيغ جملي واحدة تلو الأخرى. عدت أبحث عن مفرداتي.. ولم يكن ما بداخل دماغي من الصياغة السابقة إلى صدى صوت يربكني فتارة أعتقد أن تلك الفقرة قد أنجزت في الصفحات السابقة من صياغتي الجديدة.. لأقلب بين السطور حتى أتأكد لأكتشف بأنها غير موجودة..وتارة أعتقد أن تلك الفكرة لم تدون فأصغها لأكتشف بأني أكرر تدوينها وأن ذاكرتي تخلط بين ما كان وما أنجزه.
وكان علي أن أحاول طمس ما علق بذاكرتي.. أن أطمس الفقرات والجمل.. وأن لا أتركها مخزنة حتى لا تهطل علي في غير مواقعها أثناء جمع المادة.. وكان ذلك الأمر عصي.. تذكرت أبي نواس حين جاءه أحدهم طالبا منه أن يعلمه كيف يكون شاعر.. فقال له اذهب فأحفظ ألف بيت ثم عد إلي .. وحين عاد.. قال له اذهب وأنسى ما حفظت ..وعندها حاول أن تكتب.
حاولت أن أطمس ذاكرتي حتى لا يلتبس علي الأمر بالتكرار.. لكني فشلت فقد اكتشفت أن النسيان أصعب من الحفظ.. بل ومستحيل أن يحصل إلا بشكل نسبي وبدون إرادة. أو أن أترك كتابتها عدة سنوات .. عندها قد أنسى وقد….
تجسدت لي هذه الرواية كصخرة سيزيف.. وأنا ذلك الشقي الذي يحملها بين كتفيه ليعيدها إلى قمة الجبل .
كنت متهيبا.. وكنت مصمما على إعادة كتابتها لو أستدعى الأمر أن أكرر سنوات عمري.. أسأل نفسي ماذا لو انتهيت منها في صياغتها الأولى ألن أبدأ بصياغة فكرة جديدة.. إذا علي أن أنجزها .
ما أن وصلت الصفحة الخمسين حتى شعرت بسعادة.. وعقلي يتوقع أن تختفي تلك الصفحات.. أن تحدث مشكلة وأفقد ما كتبت.. كنت قد وطنت نفسي على إن أظل أعيد كتابتها كلما فقدتها أو طرأ طارئ.
انشغل بالتفكير في صياغة التفاصيل الصغيرة وعقلي يفكر هناك في البعيد.. في مسار الرواية بعد الصفحة المائة وما بعد المائة في أتساق الأحداث وترابطها.. في العلاقة بين ما أصيغه من تفاصيل في الصفحات الأولى وما سأكتبه في الصفحات الأخيرة من أحداث.
وهكذا هي الشخصيات المتعددة وعلاقاتها بالأحداث وعلاقة كل شخصية الشخصيات الأخرى.. كان علي أثناء كتابة كل كلمة وجملة وفقرة أن أفكر بكل شيء.. في تفاصيل ما أنجزته وفيما تبقى علي من مراحل الراوية.. وعلاقاته ببعضها البعض.. ولذلك من الصعب إنجاز عمل مقبول إن لم يظل الكاتب على صلة قوية بشكل يومي.. يفكر ويكتب ويضع الملاحظات .. كناسج سجادة برسوم متداخلة.
تتباسط وتسهل علي الكتابة بعض الأوقات .. أسارع مغتنما لتلك السانحة منكبا على أزرار الجهاز أضغط واحد بعد الأخر.. أنجز الجمل تلو الفقرات .. لأكتشف بعد صفحات باني وصلت إلى زاوية دون منفذ.. كمن أغراه السير في شارع أو زقاق أسير وأسير حتى اكتشفت نفسي في طرف مسدود ولا أملك إلا أن أعود أدراجي لأبحث عن منفذ أواصل السير.
تتكرر الشوارع المسدودة لأقف مفكرا ومتأملا تلك الصياغات التي أوصلتني إلى ذلك.. لأكتشف بأن الكتابة دون تفكير مسبق ودون تصور لما يلي كل حدث قبل كتابته تؤدي إلى تلك النتائج.. وأن التفكير في سير وتطور الأحداث وتنامي الشخصيات شيء مهم لكتابة عمل مترابط ومتماسك وشيق.
تلك الزوايا التي يصل إليها الكاتب مردها إلى عدم التفكير على أساس وماذا بعد. فمن المعروف أن حدثا يجر إلى حدث.. وأن اعتماد الكاتب على الوصف والإكثار منه يجعل من العمل الروائي عمل ممل.. وأن الحوارات إذا ما جاءت مقتضبة ومركزة قد تنفر القارئ. ولذلك حين اقتربت في الكتابة الثالثة من الصفحة المائة كنت قد ركنت إلى التفكير والتخييل كثيرا ..أدون ما أتوصل إليه في مذكرة جانبية ولا أواصل الكتابة إلا بعد أن تكون عدة أحداث قد تخيلت العلاقة فيما بينها وتلك الشخصيات وأدوارها.. حتى لا أصل إلى طريق مسدود أضطر إلى إلغاء ما كتبته بحثا عن منفذ لما يلي.
أعاود قراءة ما كتبت.. أكتشف أن هناك خيط أفلت مني..لم تعد هناك تلك المتاهات أو بالأصح الأحاجي الصغيرة التي أتوه بها القارئ.. تنقص كتابتي الروح.. أعود لأفكر بابتكار لعبات محدودة أطعم بها الفصول وأجزاء الرواية.. هي أشياء تحسس القارئ بضرورة المشاركة في البحث عن مخارج وحلول.. والمشاركة في التفكير مع شخصية من شخصيات العمل فيما هو فيه.. أو قد يتخيل أشاء مستقبلية وقد يجد نقيضها.. متاهات وأحاجي تنشط قدرات القارئ.. وتدخل الكاتب مع قُراءة في لحظات استغماية لطيفة.
وهذا أنا أقترب من الصفحة المائة للمرة الثالثة.. وسأوصل بعد أن فقدت الأمل في ذكاء ذلك اللص الظريف الذي سرق حقيبتي وبداخلها جهاز اللاب تب وبداخله رواياتي التي جمعتها به للمرة الثانية.. إضافة إلى دفتر مذكرتي وبطائقي ودفتر السيارة.. وأشياء لا يهم لدي ضياعها أخرى.. وكان الأمل قائم أن يتواصل معي بشكل وبآخر ليفاوضني على دفع مبلغ مقابل استعادة ما جمعته من روايتي بداخل الجهاز.. واستعادة البطائق التي قد لا يستفيد منها أما الجهاز وبقية الأشياء فلن أطالبه بهن.
محمّد الغربي عمران* : رواية لم تنجز بعد شواذ الثورة
تعليقات الفيسبوك