عصام القدسي : شىء من هذا القبيل

لا ادري ماالذي أوصلني الى ذلك المكان، فحتى هذه اللحظة أظن إن ما حدث فعلا فبسبب مصادفات غريبة جرت كالكابوس . وأحيانا أخرى أتوهم أن لاشيء حصل مما أرويه أساسا وان المسألة برمتها مجرد  خيالات مريضة تسببت بها تلك الحبة التي سقاني إياها صديق المدرسة( ج ) الذي صار في الأيام الأخيرة يحمل في جيبه أشياء يدعي إنها من ” بلاد بره” وإنها ما أن يتناولها الشخص حتى يصبح في عالم مختلف، عالم جميل من المرح والنشوة. والحقيقة ليست كما يدعي صاحبي فما يحدث للمرء، خدر وخيالات غريبة وهلوسة تصيب الحواس ورغبة بالضحك.لقد خدعني حين ألح علي بتناولها ،ولما تحرك مفعولها وسرى في راسي وأعضائي ظننت إن آفة ما أصابتني وإنني بعد حين سأموت، فشتمته وتركته غاضبا ومشيت . وما أن سرت خطوات حتى رأيتها بثوبها الشفاف وقد بان كل شيء ففارت أعضائي واضطربت حواسي وتدهورت مخيلتي أكثر وأكثر كانت تمسك بالمكنسة وخرطوم الماء وقد احمرت وجنتاها وشفتاها واحتقنت أرنبة انفها كانت تغسل مدخل العمارة التي تسكنها رغم برودة الجو والغيوم الملبدة والريح التي تذر الأتربة والنفايات بالوجوه وقفت أمامها مسطولا وأخذت اضحك واضحك واستغرقت بالضحك ولاحظت نظراتي الذابلة التائهة المسددة الى أسلحتها التي تظن إنها تخفيها تحت ثوبها فصرخت بي محتدة:
 ـ من أنت..وما الذي يضحكك بهذا الشكل  ..ولم تنظر إلي كالأبله.!!
فقلت ما خطر ببالي:  ـ أردت الشقة 23.. ؟
شهقت وقالت ـ إذن ..أنت هو.!!
وأجابتني وهي تنظر الى الماء المنساب من الخرطوم : ـ فوق…
ارتقيت السلم نحو الطابق الثاني مرتبكا وسرت خطوات وتوقفت وكدت أعود من حيث أتيت لولا أنني رأيت المرأة ورائي ثم تسبقني وتفتح الباب بسرعة أذهلتني فأدركت أنها ربة البيت ، واطل برأسه رجل في الأربعين طويل القامة ضخم الجثة يرتدي “فانيلة” خضراء ولفت انتباهي عيناه الجاحظتان ووشم صورة رأس طائر الفينيق على زنده المفتول.. أيعقل انه كان في انتظاري . رحب بي وهو يبتسم ويشير الى المرأة :
ـ إنها امرأتي وكاتمة أسراري ..
كان يحدثني كما لو كانت بيننا صداقة قديمة: ـ تفضل .. تفضل …
وأضاف : ـ ولكنك صغير..من اختارك للمهمة..!! على كل حال ليس بالأمر المهم .
قلت ببلاهة : ـ أنا في السابعة عشرة .
دورت أفكاري فلم افهم عن أي مهمة يتكلم، فآثرت الصمت. أدخلني الصالة جلست على أريكة كبيرة واستأذن مني بابتسامة رقيقة ومضى الى عمق الشقة فرحت أجيل النظر بما حولي كان المكان هادئا ونظيفا ويدل على يسر حال ،كانت الصالة تضم طقما فخما من الأرائك ،ومعرضا للتحف والأواني واجهته زجاجية،. كان الجدار الذي يواجهني يفترشه جلد خروف مدبوغ وفوقه ساعة ذهبية غريبة الشكل بلا عقارب فلازمني طيلة وجودي في الشقة سؤال عن جدوى مثل هذه الساعة وانشغلت أبحث عن مغزى ذلك . جاء مضيفي يحمل لي كأس عصير وقدم لي سيجارة والابتسامة لا تفارق وجهه. أخذت العصير، والسيجارة رغم أنني لا أدخن وشربت العصير دفعة واحدة فأحسست بمعدتي تنقلب وبرغبة بالتقيؤ وأخذت أنفاسا متواصلة من السيجارة فتلبس راسي صداع فظيع أردت أن انهي هذه المهزلة بأي ثمن حتى لو تناولني الرجل لكما ورفسا وعزمت على أن أوضح  للرجل ملابسات الأمر فقلت : ـ الحكاية وما فيها ..
فقاطعني وهو يبتسم ابتسامة عريضة حتى بدت نواجذه بيضاء مدببة:
ـ اعرف كل شئ .
أصررت على الإيضاح ـ إن الغرض من مجيئي …
ـ وهذه المعلومة اعرفها أيضا ..
فشعرت بالراحة أن التقي بصديق أتعرف عليه بالصدفة رغم فارق السن ، له زوجة مثيرة ولذيذة .بعد دقائق نهض فجأة وابتعد الى المطبخ وعاد يضع أمامي فنجانا من القهوة واستل سيجارة وأشار بها إلي فاعتذرت ،فدسها في فمه وراح ينفث الدخان بنشوة واستمتاع. ومرت المرأة من أمامي ثم عادت ومالت نحوي حتى لامست خصلات شعرها وجهي وهي تأخذ شيئا ما من معرض التحف الذي خلفي فأحسست بحرارة جسدها  ورن جرس الباب استمهلني الرجل بإشارة من يده وذهب يفتح وعاد يتقدمه رجلان الأول شاب أنيق والآخر في الخمسين، صافحاني بحرارة وجلسا ومضى الثلاثة يتحدثون وأنا لا افهم شيئا مما يقولونه. ثم اخرج احد الرجلين خارطة وأشار بها الى مكان ما والتفت إلي وهو يربت على كتفي وقال ضاحكا :
ـ العملية سهلة للغاية .. ستوقف السيارة هنا وتتركها وتضيع وسط الزحام وبعدها تسمع بوووووم..
ونظر الثاني الى وجهي:
ـ هذا كل ما في الأمر . وقهقه عاليا بوحشية
وعاد مضيفنا يقول وهو يوحي لنا بالانصراف :
ـ التاسعة مساء موعدنا ..
وقبل أن ننصرف دس الرجل ذو ” الفانيلة ”  مبلغا في جيب سترتي تبين لي فيما بعد انه ورقتان من فئة المائة دولار وبدأت افهم ما يجري فأصابني هلع شديد كما لو أقف فوق لغم . وما أن أصبحت في الطريق حتى جريت بكل ما أوتيت من قوة وأنا مصمم على أن ابلّغ عما رأيته وسمعته ، كانت الدنيا قد أظلمت والقمر تطمسه الغيوم المحتدمة وهي تجري كوحوش غريبة في السماء ، والريح تعصف بشدة بهواء بارد كالصقيع ، والأشجار على جانبي الطريق تهرول معي وتوشوشني . توقفت عند صيدلية وأفكار مشوهة تتجاذبني كان الرجل مشغولا بتحضير دواء خلف الكواليس فلم استأذن ورفعت سماعة الهاتف وطلبت النجدة قلت بارتباك :
ـ ألو أريد الإبلاغ عن ..
ـ تكلم ..
شرحت للضابط الحكاية فقال وهو يتثاءب : ـ كلمني بعد ساعة ..
وسمعته يشخر، فأدركت أنني أخطأت في طلب الرقم . والتفت الى الصيدلي الذي ظهر أمامي فرأيته بـ “فانيلة” حمراء ملطخة بالدم وعلى ذراعه وشم لصورة طائر الفينيق تطلع إلي بغضب وتمتم :
ـ خائن
أجفلت وأنا أحدق بالرجل:
ـ ماذا تقول .!!
أجابني وهو يشيح بوجهه :
ـ لا شئ .. لا شئ .
ثم همس :
ـ خائن.. خائن.
عدت أجري وأنا أتلفت ورائي ومضت السماء ترعد والبرق بين لحظة وأخرى يمد سيفا براقا يقطع به الظلمة ،والغيوم تصطدم مع بعضها والريح تزمجر ثم نزل المطر قويا . أنهكني الجري وبدأت الهث توقفت قرب مقهى قديم دفعت بابه الموارب ودخلت بسرعة . جلست على إحدى أرائكه البائسة تلفت حولي فوجدت زبائن المقهى من الشباب وبعض المسنين كان الجميع مشدود الأنظار الى تلفاز صغير قديم جاءني العامل ووضع أمامي قدحا من الشاي ، حركت الملعقة الصغيرة بالقدح وأنا أشاهد نشرة الأخبار وأحداث الساعات الأخيرة وقفزت من مكاني وصرخت  حين رأيت انفجارا في المكان الذي خطط له الأشخاص الذين التقيتهم قلت مع نفسي ربما شكوا بأمري فأسرعوا بتنفيذ فعلتهم ، ومازلت اصرخ حتى رحت أهذي . قمت وهرعت الى مخفر الشرطة القريب ودخلته وأنا ارتجف والمطر عازم على إغراق البلدة..
قلت لعريف الشرطة : ـ أريد أن ابلغ عن عمل تخريبي..
قال بضجر : ـ انتظر ريثما يأتي مأمور المركز .
أردت أن أسأله متى يأتي. ولكنني خفت أن يكون معهم . فجلست انتظر . بعد قليل سمعت ضجة وصوت اصطفاق سلاح وأرجل لقد كان المأمور يمر بنجومه اللامعة من أمامي ألقيت عليه نظرة عابرة ولكن بصري انشد إليه  بقوة وتعلق به وهو يمضي الى غرفته وأحسست كما لو سيجارة مشتعلة تغرس في بؤبؤ عيني وطار صوابي وأنا أرى وجهه فقد كان الرجل ذو الوشم الذي استقبلني في الشقة وضابطان برفقته، هما ذلك الشاب الأنيق وصاحبه في الخمسين. خرجت اجري واجري.. في اليوم التالي حاولت أن أتذكر مزيدا من التفاصيل فلم اعرف ماذا حصل بعد ذلك ،وكيف عدت الى البيت ولا متى.. في الصباح أيقظتني أمي لأذهب الى المدرسة، فرحت اروي لها ما جرى بالأمس وأنا اشطف وجهي ، نظرت إلي بريبة وهمهمت :
ـ ها قد عدت الى أوهامك
قلت لنفسي: ” حقا ما أقوله لا يصدقه عاقل  ولاشك إن ما حسبته حصل هو وهم أصابني بفعل الحبة اللعينة التي أعطاني إياها ذلك الأحمق ”
ثم تجاهلت الحكاية برمتها.. في المدرسة  مددت يدي بجيب سترتي فعثرت على ورقتين من فئة المائة دولار فأصبت بالذهول وأخذت أفكر من جديد وابحث بتفاصيل الحادث.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد الدرقاوي : كنت أفر من أبي .

 هي  لا تعرف لها  أبا ولا أما ،فمذ رأت النور وهي  لا تجد أمامها  غيرهذا …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| كريم عبدالله : وحقّك ما مسَّ قلبي عشقٌ كعشقك .

كلَّ أبواب الحبِّ مغلّقة تتزينُ بظلامها تُفضي إلى السراب إلّا باب عشقك مفتوحٌ يقودني إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *