مهدي شاكر العبيدي: شبلي شميل؛ صورة قلمية
كاتب يتحرج النقّاد من شرح فلسفته

كان لإسماعيل مظهر حضور ملحوظ في الوسط الأدبي والحياة الفكرية قبل ثورة تموز (يوليو)1952 ، من خلال دراساته الرصينة وتحليلاته المطنبة لفتوحات الفكر العربي، وما بلغه من أنظار وتخريجات وكذلك من خلال مساجلاته ومداخلاته مع لداته من أعلام الفكر والرأي والثقافة، فتارة يفلح في فرض آرائه وأسانيده، وتارة يخيّل لـه أنه مهزوم لا قبل لـه بتفنيد حجج مناظريه وبيان تهافتها وإغراقها في الوهم والتصوّر ، ثم اعترته حالة تميزت بالوهن والركود والانقطاع عن الكتابة كأن أحس بنكوصه عن مواكبة ما استجد في الحياة الثقافية من آراء ونظريات ومصاحبتها والسير معها قدماً، مع أنه افرغ مجهوده لتأليف المعاجم وأوقفه عليها حتى كاد ينسى تماماً لولا إيماءات لـه وتنويهات به في كتابات سلامة موسى مثلاً، ولولا أنه يذكر في معرض ما أنه صهر لأحمد لطفي السيد وبأنه معني بجمع مقالاته القديمة المنشورة في الجريدة وتنسيقها وتصنيفها وترتيبها في كتب. إسماعيل مظهر هذا طبع لـه كتابان في بيروت بعد وفاته، احتويا بعض كتاباته القديمة المشتملة نظراته وانطباعاته عن وجوه شتى من الرأي والفلسفة والمنطق يغلب عليها الأسلوب المهذب والبيان الواثق بصواب حجته وسداد رأيه، متحاشياً قدر الإمكان التحامل والمخاشنة وتجريح مباينيه ومخالفيه، ومجانباً التطويل والإسهاب في تلك الكتابات وتجريدها من الزوائد وما لا غناء فيه ومنه ، أذكر منها مقالة قصيرة عن قضية الشعر الجاهلي التي افتعلها أو أثارها طه حسين، وما استتبعها وترتب عليها من لغط واستهوان، حيث وقف بجانب المنددين بما اطلع به عميد الأدب العربي من نزعات الرأي في هذا السياق وزاد عليه دعوى قيام النبي الأكرم بتأليف القرآن وفبركة هذه التهمة وإلصاقها بطه حسين ومنها نظيرتها التي يدين بها الشيخ علي عبد الرازق ويزري بزعمه أن الخلافة أمر عارض وليست مما أتى به الإسلام، وما عرضت لهذين الموقفين إلا لأذكر بما كان عليه هذا الرائد من تزمت وحران وجمود في ذلك الظرف العصيب من العشرينيات ( في القرن الماضي)، ذلك أن ما لقيه طه حسين وعلي عبد الرازق جراء مجازفتهما بإطلاق رأيهما المباين لرأي عموم مجتهدة القلم من تنكيل وحرمان وكبت وقسوة قد لا يستدعي نفراً من المثقفين أن يسايروا العموم في أميالهم وأهوائهم وانحيازاتهم بل يتطلبهم بالأناة والتثبت، ففي ذلك الطور من الزمن وبالذات في عام 1918 أقدم إسماعيل مظهر على ترجمة كتاب أصل الأنواع لمؤلفه (داروين) العالم الإحيائي إلى اللغة العربية، فكان لـه الفضل في تعريف الأذهان بما أسماه التولد الذاتي المعني بنشوء الحياة على الأرض واستقرى في المقدمة الضافية التي كتبها لـه إشارات المفكرين العرب لها وإلماحهم وتنويههم بها بدءاً من مسكويه ، وإخوان الصفا وانتهاءً بما خلص إليه المفكر شبلي شميل في كتابه الموسوم ( فلسفة النشوء والارتقاء) وقبله في سفره المسمى( شرح بخنر على مذهب داروين) من مبادئ وتعاليم كفيلة أن تجنب العقول كثيراً من المفاهيم المتوارثة التي اعتادتها ونشأت عليها زمناً. أنها حقاً هزة أو زلزال صدم العقول ونبهها على مدى تخلفها وقصورها عن مسايرة ما جدّ في دنّيا الثقافة من اجتهادات ونوازع غيّرت المألوف من الاعتقادات التي اصطلح عموم الناس على عدم التلاحي والجدل بشأنها، وتغدو قضية الشعر الجاهلي وموضوع الخلافة ما إذا كان طارئة درج الخلائق في المسكونة  على السير وفق نظمها لتيسير معاشهم، أم هي من مبادئ الإسلام الأساسية وتعليماته التي ألزمهم بها، قلت تغدو هاتان المشكلتان عديمتي التأثير في الحياة العامة بجانب تلك الزوبعة المستثارة حول نشأة الأحياء الراقية من احياء أدنى واكتناه العلاقة بين مذهب التطور الإحيائي والمذهب المادي وتجاوز هذا الحد من العلم بالحقائق إلى المعرفة والإحاطة بأصل الإنسان وما يتصل بذلك من الفرضيات المختلفة حول التولد الذاتي حيث نشأت الحياة بفعل ظروف مواتية وعوامل طبيعية مسعفة، وكل هذه الأقاويل والتخريجات كفيلة باستثارة حفائظ الدينيين وتصدّيهم لتنفيذ فكرة النشوء.
وشبلي شميل هذا مواطن لبناني مولود في كفرشيما تلقى العلوم الطبيعية في الكلية السورية الإنجيلية ببيروت التي توسعت وصارت تدعى الجامعة الأمريكية، وبعد إنهائه دراسته سافر إلى مصر عام 1871 حيث نشر مقالاته في مجلات معروفة في المقتطف والهلال والمستقبل فضلاً عن مجلته المعنية بالعلوم الطبية والمسماة بالشفاء ، كما كان عضواً في حزب اللامركزية ، مات في القاهرة عام 1917، كان منكراً مجدفاً يجاهر بإلحاده ومات عليه مع أنه يستجمع في شخصه المفارقات والنقائض، ويفضل الإسلام على المسيحية لأن الإسلام قدم مخططاً للتنظيم الاجتماعي ومخططاً سياسياً بينما عالجت المسيحية أكثر ما عالجت قضايا مجردة عامة. ذلك ما خلص إليه بعد دراسة عميقة، وأقرّ أن جميع الأديان ذات أهداف ومرام وغايات مشتركة في تحسين مستوى الإنسان وأوضاعه الاجتماعية والأخلاقية، والطريف أنه كان كثير التوكل على الله، فإذا سئل عن اضطراره لذلك أجاب إنه بعامل الاعتياد والعادة الموروثة.
يتحرج أغلب الكتّاب عن شرح فلسفته وتبسيط آرائه وتفسير عقيدته في التطور، ونقله المعركة بين المحافظين والمجددين من الغرب إلى الشرق حولهما عدا إسماعيل مظهر مترجم كتاب أصل الأنواع الذي حسب أن فكرة النشوء باتت من الأمور المحسومة والمبتوت بها بعد ما نشر كتابه (ملقى السبيل) في مذهب النشوء والارتقاء عام 1926 وفيه ردوده على المتزمتين الجامدين ، فقد نشر عنه مبحثاً ضافياً في مجلة الكتاب شباط 46 عرض فيه لمذهب التطور وما لقي دونه مشيّعوه من التجريح والافتئات ، وعده من أحرار الفكر الإنساني الجديرين بالخلود رغم ما وقعوا فيه من شطط ونمَّ تصرفهم عن خرق، وكذلك كلوفيس مقصود فقد نشر دراسته عنه في مجلة العلوم البيروتية في العدد الصادر 1958 بعنوان شبلي شميل رائد الفكرة المادية في الفكر العربي الحديث، حيث أحاط مفصلاً في تبشيره بفكرة التطور التي صدم بها الأذهان، وهذا ما لا تحتاجه الإنسانية المتطلعة لإصلاح أحوالها المعيشية العامة، ومناداته بالاشتراكية، وقد اعتنقها لا لأنها تجلب السعادة للمجتمع الإنساني بل لأنها تقلل من شقاء الإنسان وترضي حاجاته وتحمي حقوقه بعد تحديد واجباته، أما السعادة فلا دخل لها في هذا السياق وهي حالة ذاتية نسبياً وتفصيل ذلك أنه يستوي أن يكون الإنسان شقيّاً أو سعيداً في المجتمع الاشتراكي.
لقد أوثر عن شبلي شميل أقوال هي ألصق بالحكمة ، وأقمن بالاعتبار وإيلائها الأهمية، هذه الأقوال السديدة جاءت في تضاعيف مقالاته تنبئ عن فهم للطبيعة البشرية وإدراك لخصائصها بقدر ما تكتنه منها أنها تمتح من الواقع وتستوحيه ، فهي لا تقبل الاعتراض ولا الدحض والتخطئة . ” إن اليوم الذي ينصرف فيه الإنسان من تنميق الكلام إلى إتقان العمل هو اليوم الذي تتقوّم فيه طباعه، فتقل سخافته ويكثر جدّه ويقل رياؤه، وينشط من الذل ويرتقي ارتقاءً حقيقياً، ويحق لـه حينئذ أن يعدّ نفسه إنساناً”.
” الإنسان لا يرى الحقيقة لأنه أغرق في جهلها، وإذا رآها لا يريد أن يعرفها، لأنها تروّعه فيدور حولها، ويروغ منها لأنه ألف التمويه في كل شيء وأنه ليفضل أن يكذب على نفسه إذا عرفها من أن يقولها “.
ما أجدرنا أن نتدبر هذه النصائح الثمينة التي أدلى بها هذا الثوري المندفع على رفضنا لبعض منطلقاته وإيماءاته.
***
تأثر الكاتب لاسيما في القسم الأخير في كتابة المقال إلى حد ما بما جاء في سياق ذينك المقالين المذكورين من آراء وعبارات وهما مرجعه الوحيد.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *