أطلت من أعلي السلـّم وبلغه صوتها مسكوناًً نبرة لوم:
ــ تعال انظر. إنهم يهجرون المدينة علي ما يبدو!
غمغم وهو في مكانه:
ــ أغرف ذلك.
ذهبت إلي السطح لتلم الثياب التي كانت قد نشرتها علي حبال الغسيل صباحاً ، فنهض مغادراً وقد سكنته رغبة مباغتة في أن يتخذ قراراً . لم يعد الانتظار ممكناً أكثر من ذلك. إنها محقة فيما تقول. قبل ساعة رأي سيلا لا ينقطعً من السيارات يكتظ به الشارع تحت سماء ملبدة بالغيوم والدخان: سيارات صالون، حافلات، سيارات بيكب وحتي لوريات، مشحونة بخليط غير متجانس من الرجال والنساء والأطفال والعجائز والمسنين وصبايا واجمات يتلفعن بأغطية رأس سود وكأنهن في طريقهن إلي مأتم، جنباً إلي جنب مع حزم الأفرشة وصرر الأمتعة ومستلزمات العيش في أمكنة مؤقتة مفترضة قد لا تكون متوفرة أصلاً ، تتزاحم كلها للمرور علي عجل وكأن مجهولاً يطاردها وانّ المدينة ستصبح مدينة أشباح. إنها محقة في لومها. ليلة أمس كانت أكثر إثارةً للرعب من سابقتيها. زمجرة الطائرات تهز البيت حتي خيّل إليه إنّ الجدران ستتصدع أو تنهار فشعر كأن جدار روحه هو الذي سيتصدع. لحظة ّ بدأ القصف علي قاعدة مقاومة الطائرات التي لا تبعد عن بيته كثيراً شعر كأن سرير النوم يكاد يرتفع بهما من مكانه وقد التصقت به وشق صراخ أطفاله سمعه. سمعها تدمدم حين سكن القصف:
ــ أدري إننا سنندفن تحت ركام هذا السقف في آخر المطاف.
نعم إنها محقة في هذا ومحقة أيضاً في قولها ان المنزل الذي في المزرعة يفي بالغرض. صحيح انه مهجور
منذ زمن وقد لا يكون صالحاً للسكن تماماً . غير انه يفي بالغرض بصورة مؤقتة ويساعدهم علي اجتياز المحنة: غرفتان صغيرتان وملحقات أخري.غرفة لهم وأخري لأهلها الذين وعدهم بأنهم سيكونون في ضيافته هناك طوال أيام الحرب التي لا يدري متي ستنتهي. لم يتردد أو يتأخر في اتخاذ قرار المغادرة سوي لأن أكثر من واحد من أقاربه ومعارفه أبدي رغبة ملحّة في الحلول معهم في ذلك المنزل. الكل يبحث عن ملاذ ينجيه من القصف ومن جحيم الحرب وهو لا يطاوعه قلبه أن يردّ أياً منهم. والآن وقد مرت أربعة أيام من القصف فلابد من أن الذين يبحثون عن ملاذ آمن قد عثروا عليه في مكان آخر وسينجوهو من العتاب أو اللوم وحتي الغضب. لقد اتخذ قراره إذن.
نزلت من السطح تنوء بعبء تل الثيابً . لم تجده فساورها شعور بالقلق ممزوج بالندم. أيكون قد غضب منها ولاذ بمكان ٍ ما هرباً من لجاجتها؟ أين ذهب في هذا الوقت الذي لا يؤتمن؟ ظلت تلوم نفسها وتلوب وهي تذرع المكان وبصرها شاخص علي المدخل. حين سمعت وقع قدميه، اطمأنت وركضت صوبه:
ــ أين كنت؟ لقد أثرت قلقنا!
رأته، وقد غادره تجهمه، يضحك بخلاف ما كان عليه طوال الأيام الماضية. فاجأها أن تسمع:
ــ يمكنك أن تزغردي الآن!
هتفت:
ــ وأخيراً ؟!!
هز رأسه بالإيجاب . قالت وهي تندفع نحوه:
ــ لا أعرف كيف أزغرد !
طوقت عنقه بذراعيها وقبّلت خده دون أن تنتبه إلي أن ابنتها المراهقة وولديها صاروا قريبين منهما وقد ضجوا بهتاف الفرح. قالت وقد انفكت عنه:
ــ متي؟
ــ غداً صباحاً . علينا أن نكون جاهزين عند السابعة.
ــ وأهلي؟
ــ يمكنك أن تتصلي بهم إذا كان الهاتف ما زال يعمل وإلا سأكون مضطراً لأن أذهب ‘ليهم مشياً .
ركضت نحو الهاتف مسكونةً بنوبة فرح غامر. زوّلت الرقم ثم هزّت رأسها لتنبئه أنها نجحت. كان أبوها علي الطرف الثاني من الخط وبدا انه في غاية اللهفة لتلقي هذه المكالمة. قال:
ــ أعطيني نبيل.
ناولته السماعة فالتقط صوت عمه:
ــ وأخيرا يا نبيل؟!.
ــ نعم يا عمي.
قال عمه:
ــ لحسن الحظ إن البدّالة ما زالت تعمل وإن لم يكن بكامل طاقتها. لقد قصفوا برج الاتصالات ليلة أمس. صمد في وجوههم. مال برأسه قليلاً لكنه لم ينحن ِ. لا أشك في أنهم سيعاودون زيارتهم الغادرة له هذه الليلة أيضاً .
صمت قليلاً . عاد يقول:
ــ متي بإذن الله؟
ــ سيأتي السائق في السابعة صباحاً .
ــ وما نوع السيارة التي استأجرتها؟
ــ سيارة بيكب بقمرة قيادة مزدوجة.
ــ سيارة بيكب؟! ماذا ستضعون فيها؟
ــ سنأخذ معنا أفرشة وأمتعة كافية فضلاً علي ما تجمّع لدينا من مواد غذائية. لدينا ما يكفي فلا تجلبوا شيئاً .
ــ سنكون ضيوفاً ثقلاء إذن!
ــ لا تقل هذا يا عمي. أنتم أهل البيت. ولكن كيف ستأتون؟
ــ لا تحمل همّنا. سنتدبر أمرنا.
ــ حسناً إذن. أرجو أن لا يتأخر انطلاقكم عن التاسعة.
وضع السماعة والتقط بصره ابتسامة الرضا التي ارتسمت علي وجه زوجته . سمعها تقول:
ــ ماذا سنفعل الآن؟
رد وهو يبتعد عن الهاتف وصارت تقتفي خطواته:
ــ سنبدأ أولاً بقائمة لكل ما يتوجب علينا أخذه معنا لكي لا ننسي شيئاً .
ركضت وأتت بورقة وقلم. صارا يتناوبان علي ذكر أسماء ما سيأخذونه معهم: كل ما سيكونون في حاجة اليه وهم في ذلك المنعزل.
قالت:
ــ علينا أن نتناول العشاء أولاً ، ولكن ليس قبل أن تشعل الفوانيس.
تمتم وهو ينظر إلي ساعته:
ــ مازال الوقت مبكراً لتناول العشاء. ومع ذلك لا بأس. سنتناوله ما دام هذا هو قرارك، فأنت أدري وأنت صاحبة القرار الآن.
أسعدها ما سمعت وهرولت صوب المطبخ. ستكون في سباق مع الزمن , أمامها مهمات لابد من انجازها قبل السابعة صباحاً حتي لو اقتضي الأمر أن لا تغمض عينيها طوال الليل.
لا مواعيد للخوف حين يحل الليل. لا يدري أحد من أين يهطل الموت. قد يتسلل حتي من خلال شقوق الجدران. يستحيل حتي صفير الريح في الآذان الي عواء طائرة قادمة. لكن هذه الليلة بدت لهم كأنها غريبة، مختلفة عن سابقتيها، لعل الاحساس بالأمل في النجاة أوحي لهم بذلك: الاحساس باقتراب مغادرتهم. لأول مرة يتناولون العشاء، وقد فعلوا علي بصيص الفانوس الشحيح،بشهية، دون أن يبتعد شبح القلق عنهم كثيرا .
همست له كأنها لا تريد لأحد أن يسمع:
ــ هل السائق الذي استأجرت سيارته موضع ثقة؟
ــ بالتأكيد. إنه من معارفي وكان أولاده من طلبة المدرسة الثانوية التي أدرّس فيها، ولا يسكن بعيداً عنا. ثم إنني اتفقت معه ودفعت له عربوناً وهو الذي أوصلني إلي البيت قبل قليل.
ــ حسن إذن. كنت أخشي أن لا يكون كذلك فيذهب كل عملنا سديً .
تابعها وهي تخرج إلي الجزء الخلفي من البيت. لحقها. رآها تنحني علي موقد قدر الحمـّام وتوقد ناراً . راقبها بقلق وهي تفعل ذلك وإذ انتهت نهضت. قالت وهي تقترب منه:
ــ لماذا خرجت في اثري؟
شبك يده بيدها وضغط علي أصابعها:
ــ ألا تعرفين انني أخاف عليك؟
ابتسمت وضغطت علي أصابعه هي الأخري.
صارا في المطبخ فرفعت صوتها وكأنها تريد أن يبلغ الجميع:
ــ سيتم الاستحمام بالدور. أعني واحداً بعد الآخر عندما يسخن الماء.
توقفت عند كيس الطحين. انه في انتظارها متكئاً بظهره إلي الجدار، رفيق رحلة التعب اليومي الأثير. انحنت عليه وفي يدها وعاء كبير،غرفت به أكثر مما كانت تفعل من قبل. لن يتدخل في ما تنوي القيام به فهي أدري بما تفعل مع انه يعلم أن انجاز ذلك سيأخذ وقتاً طويلاً وقد يستغرق الليل كله. تركت العجين ليختمر.
ذهبت إلي غرفة النوم لتختار الملابس التي سيحتاجونها هناك. تذهب إلي الحمام بين حين وآخر لتقيس مستوي سخونة الماء. ساعدها في حزم حقيبتين قبل أن ينقلهما إلي غرفة قريبة من المدخل سيتم تجميع كل ما سيأخذونه معهم فيها.قالت:
ــ حسناً فعلت. سنبدأ التجميع إذن. اقرأ لنا ما مكتوب في القائمة.
صارت الأرجل تتراكض علي عجل بين الغرف والمطبخ وغرفة المئونة والفراش دون أن يشعر أحد كيف يمر الوقت. قالت:
ــ هذا يكفي الآن. أظن ان ماء الحمـّام قد سخن!
ركضت صوب الحمام. جاء صوتها من هناك:
ــ نعم. لقد سخن.
قال وقد رآها تخرج من الحمام:
ــ من يدخل أولاً ؟
ــ عمتي.
ذهب إلي غرفة أمه. سمعته يماحكها ممازحاً ارتفع صوت قهقهته وبلغها صداها وهي في المطبخ. هرولت علي عجل. قالت:
ــ اسأليه يا عمتي. أين كان يخفي لسانه طوال الأيام الماضية؟!
ــ دعيه يقول ما يحلو له.
وهمّت بدخول الحمّام. صاحت زوجته :
ــ كيف ستدخل في هذا الظلام؟ ناولها فانوساً !
وركضت عائدةً إلي المطبخ وهي تغمغم:
ــ ربما اختمر العجين!
وجدت العجين قد انتفخ فعلاً . رآها تفتح باب المطبخ التي تقف في الجزء الخلفي من البيت. فتحت صنبور الغاز وأوقدت شعلة التنور، رفيق رحلة التعب اليومي الآخر.
حين صار قرب الحمام نادي علي أمه ليطمئن إلي أنها لا تحتاج شيئا َ. عاد إلي المطبخ وقد تراكمت أرغفة الخبز. رآها تجلس علي البساط وتتكيء بظهرها إلي الجدار فأدرك حجم التعب الذي أصابها. قال وقد اقترب منها:
ــ هذا يكفي. لقد هدّك التعب!
ردّت مستنكرةً :
ــ وأترك عجين المعجّنات يتلف؟ مستحيل.
ــ صحتك أهم.
ــ أعرف ذلك. أنا معتادة علي التعب. هل أنهت عمتي استحمامها؟
مد ّ رأسه من باب المطبخ:
ــ يبدو أنها فعلت:
صاحت من مكانها تخاطب ابنتها وولديها:
ــ ليهيء كل واحد منكم منشفته وثيابه النظيفة ويستعد للدخول الي الحمام واحداً بعد الآخر ثم يذهب إلي فراشه بعد ذلك
ساورها شعور مفاجيء بالخشية من أن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي بستحمون فيها في هذا البيت، لكنها حاولت أن تتغلب علي هذا الشعور وحرصت علي أن لا يفلت من بين شفتيها ما يشي به. سمعت وقع أقدام يقترب. رأت عمتها قادمةً . فالت لها:
ــ اذهبي إلي فراشك يا عمتي واخلدي إلي النوم. لابد من أن نستيقظ مبكرين غداً
ــ وأنت؟ ألست في حاجة للراحة والنوم يا ابنتي؟
ــ أنا معتادة علي التعب.
استدارت العجوز نحو ابنها:
ــ إياك أن تتركها لوحدها يا نبيل.
ــ كيف أفعل ذلك؟ اطمئني. لن تغمض لي عين قبل أن تخلد للنوم .
غمغمت زوجته:
ــ ومن أين يجيء النوم؟!
علت صيحة أصغر الولدين. قالت له:
ــ اذهب وتبين جلية الأمر!
ذهب ثم قفل عائداً وهو يضحك وقد تخللت كلماته ضحكنه :
ــ يقول ان الماء ساخن ورغوة الصابون تحرق عينيه ولا يقبل أن يدخل عليه أحد سواك!
نهضت وهي تتمتم مبتسمةً :
ــ تصوّر! انه يستحي أن تري » قلاقيله « ولا يستحي أن أراها أنا!
سارت صوب الحمام وإذ اقتربت من بابه ترنمت بإيقا ع حنون. جاء صوته قبل أن تغلق باب الحمام:
ــ لو طابت النفوس غنـّت!
ضحكت حين بلغ صوته سمعها. عجب وعجبت هي أيضاً كيف ان الموقف في البيت، وفي غضون بضع ساعات، تغير من حالة الوجوم والصمت المتواتر المحفوف بالقلق والخوف من المجهول إلي حالة الاطمئنان وتجدد الأمل والتشبث بالحياة. غابت بعض الوقت وما لبثت أن خرجت ومعها ولدها وقد ارتدي ثيابه. قالت لابنتها وولدها الآخر:
ــ ليعتمد كل منكما علي نفسه. أمامي شغل كثير يجب أن أنجزه.
اتجهت صوب المطبخ وهو معها. همست وكأنها تخاطب نفسها:
ــ اختمر عجين المعجنات.
حين بدأت، قالت:
ــ سيأتي دورك في الاستحمام!
رد محتجاً :
ــ كيف أتركك لوحدك وأنت جوار فرن الطباخ؟
همست خلل ضحكة صغيرة:
ــ لهذا السبب أم ……؟
وأومأت برأسها إلي غرفة النوم . عاد يقول:
ــ ثم ان الماء سيبرد حين تنتهين من عملك هذا ولابد من أن تعيدي إيقاد النار تحت قدر الحمام، فكيف أتركك تفعلين ذلك وحدك وقد تجاوزت الساعة منتصف الليل؟
ــ وبعد؟
ــ لا أدري.
وانفجر ضاحكاً . همست وهي تبتسم:
ــ علي ّ يا زوجي العزيز؟ لك ما تريد ولكن دعني أكمل عملي أولا.ً
لا يدري كيف تدفق الحديث بينهما علي هذا النحو وهما وسط ليل بهيم مهددين فيه بالفناء. أيكونان قد أرادا، بهذا الكلام، التنفيس لا شعورياً عن ركام القلق الداخلي الكامن في صدريهما؟
والآن انتهت من شي المعجنات وقد استنزف منها وقتاً طويلاً فعلاً وآن لها أن تتنفس الصعداء . مطّت ظهرها وحركت رقبتها ثم أشارت عليه أن يأتيها بقدر كبير.
رآها نهضت وإذ اقترب منها وضعت كفها في كفه وسارت صوب غرفة النوم. مدت رأسها أولاً في غرفة عمتها والأولاد. الكل نيام. ترنم صوتها الداخلي: ” نامت كََلوب الناس كَلبي شينيمه؟ ” دخلت وأعدلت وضع الأغطية. صارا في غرفة نومهما. استلقت علي السرير وأغمضت عينيها. أدرك انها تصارع رغبةً في النوم . قال:
ــ اقتنصي إغفاءة إن شئت.
همست:
ــ وأنت؟
ــ أستطيع أن أصبر. إن الله مع الصابرين.
ــ ولن يغفر لي الله إن امتنعت عنك.
ــ سأتوسل إليه أن يغفر لك.
ضحكت قليلاً ::
ــ لا تتفلسف برأسي. تعال.
استلقي ‘لي جوارها. قال:
ــ يبدو ان القاعدة ستنام نوماً هانئاً هذه الليلة!
ــ ما أدراك؟
ــ لم نسمع قصفاً حتي الآن!
ــ لا تحسدها.
ــ وهل بقي فيها شيء تحسد عليه؟ لابد من أنهم أحالوها ‘لي ركام وقد خرس صوتها منذ الليلة الأولي.
ــ لماذا يواصلون قصفها إذن؟
ــ انه نوع من الهوس. يريدون أن يعرضوا عضلات قوتهم علي العراقيين.
اقترب منها. قالت:
ــ ستشم في ّ أنواع الروائح ومنها رائحة التعب.
رد علي عجل:
ــ رائحة تعبك عندي أزكي وأعذب من كل عطور الدنيا.
ضحكت قليلاً . ما إن بدءا حتي سُمع هدير طائرة تقترب. نظر إليها متسائلاً . قالت:
ــ لا عليك. استمر .
ــ حتي إن بدأ القصف؟
ــ حتي إن بدأ القصف.
وقد بدأ فعلاً فوجدها تزداد تشبثاُ به، يستحيلان إلي جسد واحد، وكأنها تريد أن تتحدي الطائرة التي تنفث حمم قذائفها الآن. فاجأه وأدهشه التحول الذي طرأ عليها الليلة. في سابقتيها كانت تتردد في أن تدعه يقترب منها بجسده خوفاً من أن تداهمهما قذيفة غادرة فيُعثر عليهما محترقين، بجسدين نصف عاريين وملتحمين تماماً . ما الذي حدث هذه الليلة؟!
خيّل إليه انه يري ضوءاً ينبجس من عينيها فينير وجهها قبل أن ينتشر في فضاء الغرفة لحظة َ تدفق النسغ الحي.
استلقي إلي جوارها مرتخي الأوصال. رآها خلل بصيص الضوء الشاحب، تنظر إلي السقف ساهمةً . فجأة سمعها تقول:
ــ لقد تعبت من الحروب يا نبيل!
ــ ومن منا لم يتعب؟ كل العراقيين تعبوا ولكن ما في اليد حيلة.
همست علي حين غرّة:
ــ أتدري ماذا أتمني الآن؟
ــ ماذا؟
ــ أن أغمض عينيّ إلي الأبـ…
وضع راحة يده علي فمها :
ــ لا تكملي أرجوك. أنت الجدار الذي أسند ظهري إليه.
انتبهت إلي ان دمعتين تتعلقان في محجري عينيه وخشيت من أن ينفجر بالبكاء. وضعت راحة يده بين راحتي يديها وهمست:
ــ إنني أمزح معك .
وقفزت وهي تقول:
ــ لقد نسينا الحمام!
هرولت إلي هناك. مدت أصابعها في القدر وهو خلفها. قالت:
ــ لم يبرد تماماً . انه بحاجة إلي قليل من التسخين.
سارت الي المطبخ وهو معها وقد حمل فانوساً ، ثم خرجت الي الجزء الخلفي من البيت وكان يضيء لها موضع قدميها. النار في الموقد قد خبت تقريباً ، لكن نار الخارج ما زالت تشتعل: النار الشريرة التي تلتهم كل شيء وتحيله الي لاشيء . تنهرس الأشلاء البشرية أو تنصهر ثم تختلط بركام الحجارة المحترقة وكتل الاسمنت والتراب الأسود . دسّت في وشالة نار الموقد بضع قطع من الحطب وسكبت قليلاً من النفط فتوهجت. كان الظلام دامساً ، مخيفاً . لا شيء يسمع الآن سوي هسيس النار وحفيف أوراق الأشجار المتناثرة في الحديقة الخلفية. حتي هسيس النار وحفيف أوراق الأشجار صار له صوت يبعث علي الخوف. رآها وقد انعكس وهج النار علي وجهها فأضاء من جديد. انحني علي رأسها وقبّله وكادت عيناه تدمعان. حشرج صوته:
ــ أخشي أن أحسد نفسي حين أحمد الله لأنه وهبني زوجة مثلك.
فضغطت علي يده بامتنان.
*
كان السائق عند كلمته: الوعد الذي كان قد قطعه علي نفسه. وجدهم قد نقلوا كل ما سيأخذونه معهم إلي الطارمة الأمامية، شعرت بالاطمئنان ولم تكن قد غمضت لها ولا لزوجها عين طوال الليل. اطمأن الي سلامة أقفال الأبواب وأعطي سلسلة المفاتيح إلي زوجته لتحتفظ بها في حقيبتها مع ما حملت من نقود ومصاغات. رأي أمه تقف أمام الباب الخشبية الرئيسة، تمسك مقبضها، تتمتم بآية الكرسي، ثم سمعها تسلـّم البيت وما قيه أمانة بيد الشيخ معروف الكرخي، وأدرك انها، مدفوعة بهاجس روحي مطمئن، تؤمن وتريد من معها أن يؤمن بأن البيت سيكون في حرز أمين طوال مدة غيابهم عنه. غادرت السيارة كراج البيت بمن فيها وما فيها باستثنائه فقد هرول خلفها وحين صارت في الخارج، انشغل بلف السلسلة الحديدية التي كان يحملها، علي مشبك الباب الحديدية وأنزل عضد القفل، مطمئناً إلي ان مفتاحه ضمن سلسلة المفاتيح التي أودعها لدي زوجته. جلس إلي جوار السائق وجلس ابنه الكبير إلي جوار النافذة فانزلق ابنه الصغيرعلي الفور من بين فخذي أمه وأخته وجلس هو الآخر إلي جوار النافذة في المقعد الخلفي محاكياً أخاه وهو ينظر اليه بتحدِ واضح..
ما إن خرجت السيارة من فوهة الزقاق حتي شعر كأن شيئاً ما ينكسر في داخله وانه خلّف بعضاً من روحه وراءه. منذ سنوات وهو في هذا البيت. يعرف كيف وقف حجراً فوق حجر. كان شاهداً علي ذلك. أتكون هذه الرحلة آخر عهده به؟
دخلت السيارة الشارع العام وصارت وسط سيل السيارات الراكضة نحو المجهول. أحس برأس سبابة يد زوجته يخز كتفه وكأنها تريد أن تنبهه الي ما يحدث في نهر الشارع من تهافت علي المرور فأدار رأسه إليها وهزه بما يوحي بأنه أدرك ما تقصد. وها ان السائق يجتاز بعض السيارات ببراعة ويقترب من الجزرة الوسطية، ما يلبث أن ينعطف، يجتاز الاستدارة ، يحادد بسيارته الحافة اليمني للشارع، ثم ينزلق بها في طريق فرعي يمر بين المزارع والبساتين.
التفـّت السيارة حول الخاصرة اليسري للقاعدة المنكوبة، فلاح رأسها وما زال الدخان يتصاعد منه. شعرت وشعر زوجها أيضاً كأن دوي قصف الليالي الفائتة يتردد في هذا المكان الآن، أما عمتها فلم تتوقف شفتاها عن التمتمة بالأدعية. ساورهم الخوف من أن تفاجئهم إحدي الطائرات فتتكرم عليهم بواحدة من قذائفها الغادرة. وكأن السائق أحس بما يدور في دواخلهم. ضغط علي دواسة المعجّل فاجتازت السيارة منطقة الخطر المحتمل، وتنفسوا الصعداء. صاروا في الشارع المفضي إلي الجسر الحديث. عليهم أن يجتازوا الجسر ثم قطعة الشارع التي توصلهم إلي طريق الشمال، وهاهم وصلوا رقبة الجسر. كان الدخان يتصاعد كثيفاً ويكاد يعتم البصر. ضحك السائق:
ــ جماعتنا يحاولون تضليل الطائرات المغيرة بهذا الدخان. لو أراد الأمريكان قصف الجسر لفعلوا ذلك منذ الليلة الأولي !
ــ ولماذا لم يفعلوا ذلك برأيك؟
ــ لكي يوفروه لعبور قواتهم.
ــ أنت علي حق. وهل تظن ان الدخان يقف حائلاً دون رؤية الهدف؟
ــ لا بالطبع. لديهم من الوسائل ما يوقف شعر الرأس. كنت عسكرياً وأعرف ذلك.
سكت هنيهةً وما لبث أن قال:
ــ هل تعتقد إنهم سيحتلون العراق؟
ــ يقولون إنهم يريدون إخراجنا من الكويت. لا أدري بالضبط. لم ألتقط بعد طرف الخيط الذي يوصلني إلي رأي قاطع..
خشيت زوجته من أن يستدرجه السائق فيتمادي في الحديث ويكشف عن انه لا يحمل وداً لما يجري أو انه يقف ضد الحرب. حمدت ربها انه لم يفعل ذلك. لاذ السائق بالصمت فجأة بعد أن قال:
ــ دخلنا منطقة الخطر الكبري!
صارت السيارة تسير بحذر وسط وجيب قلوب مَن فيها، الوجيب الذي يكاد يُسمع الآن. علي اليسار بنايات المصانع العسكرية يتصاعد من داخلها الدخان. إلي اليمين يمتد سياج المعسكر. لا مفارز. لا نقاط تفتيش. غاب لون الخاكي تماما وحل لون الدخان محله.ً مرت دقائق من الصمت الثقيل، القلق، قبل أن يقول السائق وقد عاد الدم إلي وجهه:
ــ اجتزنا منطقة الخطرالآن!
فتنفسوا الصعداء من جديد.
أيلول 2011