كاظم حسوني : سمو المعنى وعفوية السرد في قصص محمد علوان جبر

يمكن النظر الى التجربة السردية للقاص محمد علوان جبر بأنها تمتلك ملامح خاصة ، عبر اسلوب تميز بالعمق والمتانة ، ولغة رشيقة مرنة ، قادرة على استدراج القارئ ، تشي بدراية وخبرة القاص الذي بدأ الكتابة منذ مطلع الثمانينات ، انتج خلال هذه الاعوام مجموعتين قصصيتين هما (تفاحة سقراط 2005) و (شرق بعيد 2012) ورواية قيد الطبع ، وله قصص منشورة في المجلات والصحف ، الى جانب كتاباته في حقل السينما ، والمتابع لتجربته السردية يلمس محاولاته التجريبية التي اسهم فيها في فترات سابقة ، التي ارتكزت على طرائق السرد الموغلة بالتغريب والشكلانية ، المفتقرة الى النبض الحي ، سعياً منه لمواكبة موجات الحداثة لفن القصة ، ، ولئن القاص محمد علوان يخطو خطوات واثقة ويراقب نتاجه بتمعن في تشييد عالمه بفنية عالية ، الذي لا يمكن ان يكون مؤثراً من دون استلهام معطيات الواقع ، عبر المعاناة لصياغة مضمون انساني ،  لم تعد تبهره الانساق والانماط السردية ، التي عمل على بنائها في السابق لمجرد اثبات قدرته في اجادة صنع السرد الحديث ، ، مدركاً عبث النزعة الشكلية والتجريد على حساب الغاية او المحتوى ، رغم ما تتسم به هذه الصياغات من بريق،لكنها تبقى غير مؤثرة بالمرة في المتلقي ،فالعلاقة بين (الفن والصدق ) تظل معادلة ثابتة ، كما هو متجلي في صفحات الأدب العالمي على وجه الخصوص ، ولأن القاص علوان اراد لفنه ان يكون موحياً ومؤثراً ، متوهجاً بمضامينه العالية ، بات يظهر هذا المنحى في مجمل عطاءه القصصي ، سيما في مجموعته الأخيرة (شرق بعيد) اذ كان القاص امينا الى حد كبير لتصوير ما جرى ، وقد اثقلته الهموم ، وكمن لا يستطيع الاحتمال اكثر ، نقل لا معقولية الواقع ، وصنوف عذاب الانسان العراقي ، الذي اصبح لا وجود له في تلك الاعوام العصيبة ، لما لاقى من اشكال الموت ، مطلقاً صرخة احتجاج عالية بلغة القص ، راسماً مناخات الألم بحرفية بالغة وصدق كبيرين ، ، لكن اعقب هذه المجموعة القصصية المترعة بسريالية تهاويل الحرب ، قصصاً ذات ايقاع ومسار مختلف ، ربما جاءت متلائمة مع الهدوء النسبي لوقع الاحداث ، ، قصصا اتسمت بقوة التعبير والتوغل في فضاء آخر لتقصي طبيعة الانسان ، ومحاولة كشف القضايا الخبيئة والمضمرة في النفس ، تمثل ذلك في اغلب قصصه الاخيرة ، خاصة في قصته الموسومة (القرصان) التي تسنى لي قراءتها عبر شبكة الانترنيت ، ، وهي قصة تمتلك عنصر التأثير ، وعفوية السرد واحكام الحبكة الفنية ، ومزايا جمالية اخرى ، مما يستدعي الوقوف عندها ، وهي تقص حكاية رجل يعيش وحيداً منذ هجرته زوجته ، التي بهت ظلها من صفحة ذاكرته مع مرور الأيام ، خاصة وانها امرأة محدودة الذكاء والفطنة على حد وصفه ، فيظل يمارس طقوسه الخاصة بقراءة كتبه الكثيرة التي يزدحم بها البيت ، بعد عودته من عمله كل يوم في احد المصارف ، ويمكن القول انه يعيش حياة هادئة ، لا هم سوى شغفه بقراءة الكتب والروايات ، سابحاً في سموات الخيال ، والمهارة في صنع الأحلام . . يبدأ القاص محمد علوان قصته بضمير الراوي – الضمني للبوح بهواجس البطل وتطلعاته واحلامه ، كاشفاً عما يعتمل في نفسه من رغبة وتوق لتعلقه بصور الجمال المنثور في ثنايا الوجود ، ، البوح بفلسفته المتأملة للمرائيات كناسك بوذي ، ، لكن عالمه الخاص تهشم فجأة بلا ارادة منه ، وانقلبت حياته الهادئه بقدوم الموظفة الجديدة (سناء) ، ، كل ذلك تمثل من خلال حواريات ومشاهد ولقطات رسمها القاص ببراعة ، منذ لحظة التقاء البطل والموظفة سناء التي القت بها مصادفة قدرية على مقربة منه في غرفة ضمت عدداً اخر من الموظفات بدائرة (البنك) ، حيث شعر منذ دخولها بوابة المصرف ثم بوابة قلبه ومخيلته ، انه مأخوذ بألق حضورها الذي لم يستطع ان يستوعبه ، سحره قوامها المليء بالأنوثة والغنج ، بل راح يغمره شعور هائل بالفرح ، مدركاً انه كان يفتقد هذه الحماسة وهذا الفرح مع كل النساء اللواتي مررن بحياته ، خاصة خلال اعوام وحدته ، لكنه خاف اندفاعه وانسياقه خلفها ، فراح يقاوم رغبته بالتقرب  منها ويمنع نفسه ، ليبدو اكثر تعقلاً واتزاناً ، الا انه صار يأتي بحركات خرقاء زادت من ارتباكه امامها ، واخذت تعتريه خواطر يعجز من السيطرة عليها ، متجاهلا ضحكات الموظفات التي كانت تنفجر هنا وهناك ، اللواتي اثارهن سلوكه مع الموظفة الجديدة ، ،لكنه  ما كان يأبه لكل ذلك ،لا يصغي الا لنداء روحه الملتهبة بعشقها الجديد ، فراح يبحث عما يثير اهتمام (سناء) وشرع يحدثها كل يوم بعد فراغهما من العمل عن (الحب في زمن الكوليرا) لماركيز ، و (للحب وقت وللموت وقت) لريماك ، وعن قصص الحب في اشهر الروايات العالمية التي جعل يقدمها لها تباعاً ، حتى نجح في استمالتها ، فأخذت تسأله عن كل ما يخطر بذهنها ، ولجذبها اكثر واثاره فضولها ، اخترع شخصية بحار ، هي شخصية صديقه اكرم ، التي اضفى عليها ملامح سحرية جعلتها تفتح عينيها على سعتهما ، وتأخذها موجات عارمة من الدهشة ، ولحظات من الذهول والعجب ، وكان وهو يكذب عليها ينظر اليها ويراقبها  بصمت ،| مرددا مع  نفسه لكم هي فاتنه ، فقال لها ان اكرم (قرصان) يتنقل في بلدان العالم على متن السفن ، وقال لها انه من العشاق الكبار ، يعشق الجمال ، ويعشق الشعر والسفر ، فكانت تنبهر اكثر لشخصية هذا البحار ، وجعلت تقترب منه مشدودة لسماعه بكل جوارحها ، تنتظر بشوق اكمال حكايته كل يوم عن هذا البحار الغريب ، فيما هو يغرق في اعماق حكايته ، اعماق عينيها الى سماوات بعيدة ، جعلته يتعجب من اجادته وقدرته المذهلة في الاطناب !؟ وبينما هو غائب في سورة عشقه لأسابيع وايام ، وكمن افاق بغتة ، آلمه اكتشافه فجأة ان اهتمامها به ارتبط بالشخصية التي تورط في نفخها ! تأكد له ذلك حينما غدت تلح في طلبها للقاء اكرم ، الذي لم يكن في حقيقته الا رجلا عجوز تساقطت اسنانه ، وبقامة مقوسة ، مجرد صباغ بيوت لا علاقة له بأكرم البحار الذي كانه في فترة ما في شبابه ، ، وازاء محاصرته بطلبها للقاء بأكرم ، شعر لأول مرة بأنه بات مرهقاً من اكذوبة الحب الكبيرة التي اخترعها وجعل (سناء) تعيش في مناخها منذ اشهر ، وخاف كثيراً من ان تعرف امره ويفتضح ، فلجأ الى اكذوبة اصغر ، مفادها ان اكرم يحبذ اللقاء بها اولاً بواسطة الرسائل ، للتعرف على مشاعرها وافكارها فوافقت وقامت بتسليم رسالتها الاولى في صباح اليوم التالي ، فيما سلمها هو ايضاً في الصباح الباكر رسالة حملت اعترافه بحبه لها . الحب الذي قاده الى الكذب ،اعترف  لها بمشاعره واكاذيبه بجرأة كبيرة ، فقرأتها مندهشة ، ثم ضحكت ، ضحكت بعمق من غرابة فعلته ، وغفرت له من دون تردد قصصه الكاذبة التي امتعتها ! وعبر حوارية غنية جسدت نبرة الصدق بينهما اعترفت هي ايضاً بتعلقها به ، ، هكذا انتهى النص ، لكن عذوبته تظل عالقة في النفس ، اذ استطاع القاص محمد علوان جبر بحسه المرهف رسم حالة احتشدت بفيض المعاني الانسانية ، وبعفوية وحذق كبيرين ، قدم لنا قصة ذات ايحاءات جميلة تنبض بالعاطفة الجياشة ، وفق بناء فني محكم وبلاغة اسلوبية متميزة . .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *