
كي لايستهان برقة ورصانة باريس اللعوب الغافية على نهر السين، ( Parisii ) مدينة الأضواء والنور (la Ville Lumière) والتي تملأ شوارعها مصابيح الكيروسين. يواصل الفنان فرغلي تجربته الثرية في تأمّل المدن ورصد ملامحها بالألوان، ولأن فرغلي يرى الجمال عن مبدأ يقرب الجمال من حقيقته وبفعل التلاحم بين المشاعر والأفكار، ارسل إشاراته في عرض لمدينة ذات مقام رفيع “بدلالات رموز” يمتلكها تاريخ باريس القريب والبعيد ولكن بشجن مصري خالص ؛ كي يتبوأ مكان يليق بتاريخ مصر الحاضر بعد ان رسم الفرنسيون مصر قبل قرون .
يقول الفنان فرغلي في احد لقاءاته : المكان بالنسبة إليّ مهم جداً لأنه يحوي عناصر الحياة البشرية من تاريخ وجغرافيا وروحانيات، وتتعدد عناصره ومفرداته وشخصياته النابضة بالحياة. كذلك يحمل المكان قيماً ومعارف وعادات وتقاليد أثّرت في الإنسان وتأثرت به وبالمتغيرات المختلفة.المكان هو نتيجة تفاعل البشر والمادة والعمارة والثقافة، ومن هنا تتمتع كل مدينة بمذاق خاص وطابع معيّن وحالة فنية فريدة، تتغير بتبدّل

المكان. ومن هنا جاء اهتمامي برسم مجموعة معارض يتناول كل منها مدينة معينة أرصد من خلالها لوحات خاصة تظهر المتغيرات والوجوه والمشاعر كما انعكست على وجداني.
في قاعة الزمالك للفن (ZAMALEK ART GALLERY) أقام الفنان المصري ARTIST ) FARGALI ) د. فرغلي عبد الحفيظ ، معرضه الأخير PARIS) ( FARGHALI, والذي استمر من الفترة – من 18 مارس إلى 11 ابريل 2012- اعاد الفنان محاكاة جزئياتها، كان يشيد بمفاهيم الجمال ليل باريس وشوارعها المكتظة بالصخب ، جعل للبعض منها مجرد ظلال ليست شبحا لأصل، بل صورها بنمط من يتبوء النطق لصور الجمال فيها، كمن يحمل ذكرى عاشها، و يكمن في رأيه ذلك التنسيق البنائي لهذه الجزئيات لمدينة باريس الجميلة. المدينة التي تميزت في كل تاريخها بروحها الثورية المتحررة.
الرسوم كبديهية : هي تعبير شكلي يستلزم عمل علاقة ما على سطح ما، وهو التعبير عن الأشياء بواسطة الخط أساساً أو البقع أو أي أداة كشكل من اشكال الفنون المرئية التشكيلية. وكلا من الرسم والتلوين يمثلان وجهين لعملة واحدة . التلوين كان ومازال الوسيلة المثلى للتعبير الفني، لكن يبقى تنفيذ الموضوعات بروح من التحررلأي فنان هي من تقود إحساسه الى اختيار اللمسة أوتعايشه مع الخامة وادواته الخاصة في منجزه الذي من خلاله يبني لنفسه طرازا ناضجا. يقول أشرف أبو اليزيد : ” ان اللوحة عاصمة الفنان، ومسقط ريشته. ” في جميع لوحات المعرض، نجد حضور لملامح باريس كمدينة، قد تغلغلت في الذاكرة البصرية للفنان ونجح تماما في تركيب الكادر، توزيع الاضاءة، البعد الثالث في تكوين اللوحة، دكنة الالوان للخطوط ، ضوء الوجوه وعتمة بعض الشخوص بهجة الأزياء التي تبعث البهجة ، الأجساد العارية وسط الشارع، حالات الصخب كل هذه تبقى في ذهن المشاهد ( ثيمة اللوحة) عبر عنها بمعالجة عصرية بألوان الباستيل بصياغة تحمل للمشاهد خبرة بصرية وجمالية عالية ببساطة الخط .
ان استخدام مادة الباستيل في الرسم و التصوير تعتبر ميزة، فأن قلة كمية الأدوات التي يتطلبها الرسم بها تعد واحدة من أهم مزاياه، وبساطة كبيرة في الرسم تفوق بساطة أدواته وهى ميزة أخرى حيث تمثل أقلام الباستيل حلقة الوصل بين خامات الطباشير وبين الخامات ذات الطابع الزيتي، مابين oil pastel) & soft pastels drawing) وهي نوع خاص بالفنانين artists تعطي للفنان حساسية اللون، ففي الوقت الذي تحتفظ فيه بكثير من خواص الطباشير الثانية ، نجد أن المادة الدهنية التي تضاف إليه تجعل منه خامة أكثر نعومة، الأمر الذي يجعله أكثر فعالية في مدى خطوطه وجودة ملمسه من الفحم الصناعي والطبيعي. تعودنا سابقا وخاصة في العراق ، ان الباستيل معمول به وعلى انتشار واسع في مجال رسم الصورة الشخصية البورتريه، ذات الأحجام الصغيرة نظراً للتنوع وإمكانية التعبير عن الملمس. اما في باريس فرغلي وهو عنوان المعرض فقد تميزت الأعمال المعروضه بالنقاء وشدة النصوع، و توشحت بعضها بإضافة اللون الأبيض ليمكن الفنان ان يحصل على مدى واسع من الدرجات النغمية بين الفاتح والقاتم. ومنذ االقرن السابع عشر تزايد عدد هذه الألوان, بعد ان بدأ تصنيع ألوان الباستيل بعدد محدود من الألوان بنفس طريقة ألوان الطباشير، ومن هنا حصلت تقنية الرسم بألوان الباستيل.
يعود بنا الباستيل لفرغلي الى زمن استخدام الفنانون الإيطاليون ألوان الباستيل في القرن السابع عشر، وقد أصبح في القرن الثامن عشر فناً مستقلاً، اما فى أواخر القرن التاسع عشر استخدمت بكثرة في فن الانطباعيين الفرنسيين، فاستخدمها (ديجا) Degas و(لوتريك) Lautrec حيث أنهما كانا يؤكدان على الإحساس القوى بالموجز الخطى وليس على محاولة محاكاة التدرجات المتلاحقة واللون، مما نصادفه في الأعمال المنفذة بوسيط لونى سائل. العين لم تلتقط فقط درجات الألوان والألوان وأبعاد هيئة الأشكال ولكنها تتعداها ، كان هناك استجابة ورد الفعل الذي يحدث للرائي عن مشاهدة الموضوع ، لو تأملنا الفيكرات لم تكن مجرد شكل بلون او استدارة او ارتفاع لبنايات باريس بل كنا نحس بصخب ليلها وازقتها اللعوبة واضواءها . المعرض كان تسجيلاً لخطوط سريعة لبعض الملاحظات أو المشاهد والخواطر لشكل ما في لحظة معينة في باريس، في تعبير فني شكل عملاً فنياً مستقلاً قائماً بذاته وليس كما تعودنا سابقا ان الباستيل معمول به وعلى انتشار واسع في مجال رسم الصورة الشخصية ذات الأحجام الصغيرة، نظراً للتنوع وإمكانية التعبير عن الملمس به الذي يثير الإحساس وذلك اضاف لما نراه جمالا.. اليوم صار الفنان في هذا النوع من الفن يهتم أولا بمفهومه عن الموضوع وبراعته في معالجته بالعناصر البصرية كالخطوط وتناغم الظل والضوء والملمس فجاء فنا تشكيليا أكثر وعيا بالحقيقة الفنية وطبيعتها على أساس انها ليست “تقليدا” للعالم الخارجى بقدر ما هى “أفكار” و”انطباعات” و”إبداعات ذاتية” بل رؤية جمالية في مدخل للتعبير عن واقع مدينة احبها الفنان والذي اقام فيها معرضا خاصا لاعماله في المركز الثقافي المصري حين سافر اليها عام 1985 ضمن زياراته العلمية والفنية، كما كان له مشاركة في فرنسا ايضا عام 1979 في المعرض الدولي كان سيرمير،كان، فرنسا..
لوحات المعرض كانت تنم عن احساس وانطباع ذات الفنان، وقد بدا ذلك جليا في مواضيعها، يكمن التعبير والوضوح عنها في رؤية متقنة ومهارة تتقن التلوين والتكوين والأسلوب. نجد مشاعره تتعلق بمعانى الأشكال التى يرصها ويحاورها وينظم بها تكوين عمله الفنى فوق سطح اللوحة.حسب “أدوات” تحركها و”قواعد” تنظمها و”لغة” تنطق بها و”معنى” يدل عليها. فانفعالات الفنان هى التى تشكل العلاقة والرسالة والإنطباع وتمثل رؤيته الذاتية والفريدة التى قد تختلف عن رؤية فنان آخر لنفس ذات العناصر المستخدمة فى اللوحة. بدت شخوص فرغلي بلا ملامح فقد أختزل المشهد الذي يختصره إلى اشكال محدودة دون أية إضافات أو زوائد. اعتمد على الخطوط السريعة والألوان وكأنهم في موقف درامي لتأكيد التعبير في حركة الفكرات بالتأكيد عن التأثيرات اللونية مما جعل لوحاته تنشد امتاع عين المشاهد بأختزال وتبسيط
علينا ان نتذكر ان كبار الفنانين الأوربيين عمل بها وأبرزهم (رينوار،مونيه،باراك وآخرين..) ونراه قد عمد إلى استخدام -في بعض اللوحات- وبشكل موجز بعض الصور في أسلوب الكولاج ،هو للوصول إلى أقصى تأثير ممكن في المتلقي من دون ان يعني ذلك ان سطح اللوحة التشكيلية بعناصره الفنية ومساحاته وخطوطه اللونية بات عاجزا عن ذلك”حيث تترابط تلك الأشكال داخل مسطح اللوحة وبإيقاع والوان وتأثيرات خاصة يضع فيها الفنان بصمته الذاتية، يطل المعنى والمضمون ويكتسب الشكل قيمته ويسهل للمتلقى التعرف على آيديولوجية العمل الفنى، كيف يفكر الفنان وما هى فلسفته ورؤيته الخاصة.
ضم المعرض 41لوحة فنية منها 40 لوحة متوسطة الحجم على ورق بالوسائط المتعددة وجدارية كبيرة تعبر عن مدينة النور وأبرز معالمها ورموزها اظهر فيها انطباعاته واحاسيسه وتوجهاته كما اكد في بعض اللوحات حضور مصر في تلك المدينة مثل المسلة والهرم .. واكثراللوحات عبرت عن البشر ، العمارة ، الانشطة، الاماكن، والمشاهير أمثال نابليون ،شامبليون ، وماتيس، وجان دارك، انه كان يرسم مايشعر به هذا ماوجدته وانا اتجول في اروقة المعرض، كما وجد نا الرومانسية على اكثر من لوحة والالوان صريحة ومباشرة بين الساخن والبارد يتألق البنفسجي الكوبالت cobaltviolet والازرق والاحمر الكادميوم الفاتح والاصفر الكادميوم المتوسط والأزرق السماوي cerulean Blue بشكل ينسجم مع العناصر الاخرى لمفردات العمل الفني . كان المعرض اشارة لوجود الترابط والتواصل مع الشعوب الاخرى، وكانت لوحات متفائلة بعيدة عن الحزن والاكتئاب، جاءت رسالة الفنان وقد تحكمت في كافة عناصر العمل الفني من خطوط وملامس وتكوين ولون بمزيد من الثراء والخصوصية للموضوع .
القاهرة – 2012