د. باسم الياسري : الروائي اليمني محمد عبد الولي في “صنعاء مدينة مفتوحة”:
سرد روائي حميم واقتراب من الواقع

القاص اليمني الراحل محمد عبد الولي

كان محمد عبد الولي في الخامسة والعشرين عندما توفي عام 1973م بحادث مأساوي في  اليمن بعد تنقل مستمر طيلة حياته القصيرة، ولد في أثيوبيا عام 1948 وسافر إلى القاهرة في 1955، ثم إلى موسكو ليدرس الأدب في معهد غوركي، وعندما عاد إلى اليمن شغل عدة مناصب إلى أن قتل في حادث طائرة، لتطوى بذلك حياة أديب مبدع ليترك خلفه تراثاً ثرياً قياساً إلى عمره القصير، لقد ترك مجموعة من القصص (ليته لم يعد)، (الأرض يا سلمى)، (يموتون غرباء) و(شيء اسمه الحنين) والرواية التي نعرض لها (صنعاء مدينة مفتوحة) وغيرها.
ولعل القاسم المشترك لكل هذه الأعمال دون استثناء معاناة الشعب اليمني حيث يرسم من خلالها صورة بالغة القتامة، إلا أنها شديدة الواقعية عن مجتمعه، ومحور قصصه هي الغربة عن الوطن والاغتراب داخله.
في (صنعاء مدينة مفتوحة) نتعرف على نعمان، محمد مقبل، الصنعاني، هند، فتاة الجبل، فاطمة، شخصيات رسمها بعناية ومهارة شديدتين وكأنها تتحرك أمامك، بل إنك تشعر أنك تعرفها وربما صادفتها من قبل، تشترك كل هذه الشخصيات معاً في بناء هذا النسيج الذي يخلق الرواية.
فنعمان مثلاً وهو الشخصية المحورية في العمل لا تستطيع الحكم عليها من الوهلة الأولى، فالانطباع الأول غير كاف، وبالتالي فإن الحكم على الشخصية لا يأتي من خلال هذا الانطباع وإنما من خلال سلوك الشخصية وكلامها وثقافتها وآراء الآخرين فيها فماذا نجد في نعمان؟
نعمان شاب في الخامسة والعشرين من العمر – كما يصفه الكاتب وهو قريب من عمره – لا ندري من خلال الرواية ماذا يعمل في عدن ولا في قريته إلا مزارعاً أحياناً مع ذويه، فهو ابن عائلة فلاحية، جرب الحياة في المدينة (عدن) وعاد إلى الريف ثم عاد إلى عدن، نجده يشعر باغتراب عن أهل قريته، وهو غير راض لا عن أخيه سيف الذي سلبه فاطمة ولا عن أهل بلده.
“ولأنه يذكرني بواقعي القذر الذي أعيش فيه ويعيش فيه كل أبناء وطني” (ص6) وهو لا يرى خلاصاً للواقع المعاش فيقول “الناس يا صديقي هم ناس بلادنا دون تفكير، دون أمل بالمستقبل دون كل شيء، يأكلون القات، مرتاحون لا حديث لهم إلا عن فلان الذي عاد إلى القرية وفي جيبه الريالات التي لا تنتهي وعن فلانة التي لاحظوا أنها تتزين وتلبس ملابس نظيفة رغم غياب زوجها عنها منذ سنوات أربع” (ص 8).
هذا الاغتراب الذي يعيشه نعمان يفسر تنافر الحالة النفسية للفرد مع العرف الاجتماعي الذي أصبح جزءاً خالصاً للمفهوم الجديد للإنسان الذي تحدد على يد “روسو” و”غوتة” كما يرى د. أحمد الهواري في كتابه “البطل المعاصر في الرواية العربية”.
ونعمان هذا يبدو غامضاً في ماضيه سر، يعيش بمعزل عن المجتمع “أنا لا أحب مجالسهم ولا أحاديثهم..” (ص5)، ما الذي يدفعه إلى هذا السلوك وهو منفرد صامت لا أحد يقترب منه “أحب أن أكون وحيداً بلا أي إنسان” (ص9)، وعندما وجده الناس هكذا حاولوا استدراجه إلى حياتهم بأن جلبوا القات ليمضوا الوقت معه إلا أنه بدل أن يشاركهم تركهم وصعد إلى الجبل. نراه يتحدث بين وقت وآخر عن أن هؤلاء الناس بلا زعيم بلا تنظيم لكن أفقه الأيديولوجي لم يتحدد بالضبط.
عن موقفه من الدين حيث يسخر من بعض ما يقوم به نفر من مدعي الدين، وهو حين يعارض هذه الأمور لا بسبب عدم إيمانه بل لأنه متعلم ويرفض الشعوذة باسم الدين ويحطم كل قيمة لأدعياء الدين ففي الجفاف بان معدن الناس، حيث يقول “شيخ القرية ذلك الحاج الذي زار بيت الله الحرام أكثر من مرة أنكر جميع النقود التي أرسلت معه من المهاجرين بقريتنا” (ص14).
إن شخصية نعمان شخصية نامية تلتصق بالأحداث تؤثر وتتأثر بها، وإذا كان نعمان بطلاً للرواية، فذلك لأنه يحمل على كتفيه فكر الرواية، فالبطل لا يظهر إلا متى اهتزت القيم والبطل هنا ليس المنتصر، فالمهم ليس تحقيق ما يهدف إليه وإنما المهم شرف المحاولة.
وإذا كانت المسرحية في جوهرها حوار، فإن الرواية في جوهرها السرد الذي يشكل مع الوصف والحوار واللغة النسيج الروائي. وقد يختلط علينا الوصف مع الرواية، ولكن يمكن القول إن السرد حركة، أما الوصف فهو سكون، والسرد حيلة يلجا إليها الروائي لإيهام القارئ كي يجعله يقع تحت تأثير ما يريد قوله.
ففي رواية (صنعاء مدينة مفتوحة) بدأ محمد عبد الولي روايته (تساءلت كثيراً قبل أن أكتب إليك) وتنتهي الرواية ولا ندري لمن بعث رسائله هذه، إذن هي حيلة لجأ إليها ليقص علينا روايته وليجعلنا نصغي إلى سرده.
إن الروائي الذي يحمل أفكاراً يحاول إيصالها إلى القارئ إلا أنه لا يقولها بشكل خطاب، أو تعاليم، بل يختار لها هندسة معينة محببة ولا بد له أن يوازن بين البناء الفكري والفني والشكلي، يحدثنا نعمان في بداية الرواية عن حياته في الريف يستخدم بعض أساليب السرد، فاستخدام أسلوب الرسائل التي تشبه اليوميات وهي تقنية سردية نشأت في وقت مبكر مع نشأة الرواية.
فاليوميات أو الرسائل تعبر عن طبقة متعلمة تمتلك وقت فراغ تمارس فيه هوايتها وهي الكتابة عن أحداث مرت، وهكذا بدأ محمد عبد الولي روايته بكتابة رسالة غير أننا نجدها ليست رسالة تقليدية، بل هي متحررة من قيود الرسائل التقليدية وتتحرر أكثر فأكثر لتتحول إلى رواية. كما استخدم أيضاً التذكر والذي يتم عادة من خلال المفجر ويقصد به الموقف الذي يفجر ذكرى تعيد الشخصية إلى أجواء تلك الحادثة، ففي مشهد جنازة بنت الجبل السمراء يتذكر لقاءاته المتعددة بها والأوقات الجميلة التي قضياها معاً، كذلك استخدم محمد عبد الولي الحلم وهو وسيلة يلجأ إليها الروائي هروباً من السلطة أو الأعراف الاجتماعية حيث يلتمس عذره في أنه في حلم وليس في واقع تختلط أحياناً مع أحلام اليقظة، ولعل الرؤيا التي مر بها نعمان في آخر العمل ورؤيته لهند وزينب وفتاة الجبل السمراء كانت نوعاً من هذا الحلم.
وإذا كان الحوار مهما في المسرحية، فهو لا يقل أهمية في الرواية حيث يقوم بدور المفسر والممهد لأحداث وقعت أو ستقع فضلاً عن أن القارئ يكتشف من خلاله ثقافته الشخصية وعمقها أو سطحيتها فبين نعمان وفتاة الجبل السمراء يدور الحوار التالي:
نعمان: لا بد إذن أن حياتك صعبة نوعاً ما؟
الفتاة: إن حياتي ليست صعبة فأنا أعمل في الأرض والبيت وأجد لقمة العيش دائماً، كذلك أجد ملابس من أخي أو من والدي، أما زوجي فأنا لم أعد أهتم به لأنه لا يهتم بي (ص 23) هذا الحوار يرسم لنا أبعاد الشخصية المحدثة، ظروف  حياتها، معيشتها، سلوكها مع زوجها، وهذه هي وظيفة الحوار في الرواية.
أما الوصف فإن الروائي يعمد إليها ليشرك القارئ إشراكاً غير قسري بالعمل والوصف، كما قلنا غير السرد، ففي هذا المقطع على لسان نعمان صورة وصفية “وانطلقت بي السيارة تاركة خلفها محمد مقبل يرفع يده مودعاً ورأيت الوادي أمامي من جديد بأشجار النخيل وأراض زراعية مكسرة وجثث حيوانات على ضفتي الوادي” (ص 36).
أما المكان فإن لا بد أن يلقي بظلاله على الشخصية والحدث معاً، فقد تجول عبد الولي في ربوع اليمن وتحدث عن الريف والمدينة، الريف والعلاقات بين أهله والمدينة وحياتها وساحلها الذهبي وليالي الصيف الجميلة وغيرها، وانتقل إلى زبيد وعلمائها الذين تبخروا، وعن صفائها ومآسيها غير أنه لا يرى في بلده إلا “زريبة للحمير” (ص 37). إنه يتألم لحال وطنه فيصفه بهذا الوصف ويتمنى أن يرتقي مثل باقي البلدان التي زارها وعاش فيها، كما صور المقهى بأسلوب جميل ورسم صوراً رائعة لروادها وكذلك الميدان والسوق. لقد أغنى الرواية بأسلوبه الجميل بصور كانت قاتمة إلا أنها رسمت بفنية عالية.
أما الزمن عند عبد الولي فإنه باستخدامه أسلوب الرسائل جعل الأحداث تروى في الزمن الماضي، إلا أن ذلك لا يمنع من تداخل الأزمنة مع بعضها البعض، فالرسائل تذكر الصنعاني وتذكر البحار وهي قص من الزمن الماضي إلا أنه يتداخل مع الزمن الحاضر، فتذكر البحار حين يقول “كانت زبيد منارة للعلم منذ عرف اليمنيون العلم (ص 56)، ثم يقول “داخل الأسوار ينام الناس ويأكلون ويذهبون للصلاة ليؤدونها دون حماس، ثم يعودون ليناموا” (ص 57).
والمرأة عند محمد عبد الولي كانت على الدوام الملجأ والواحة التي يحط الرجال عندها وينشدون الراحة، هذه الراحة التي تثمر بعد الوصال، فينتشي الرجل ويكبر زهوه بنفسه، وهو ما يتساوى فيه الفقير والغني على حد قول أحد أبطال العمل، فنساء الرواية وإن كن مختلفات في التفاصيل غير أنهن كن الملاذ دائماً، فهند زوجة نعمان لم يعرها اهتمامه غير أنه كان يشعر بالاطمئنان معها، وحزن أشد الحزن لفقدها، فتاة الجبل السمراء امرأة محرومة من زوجها لأربع سنوات وجدت سعادتها مع نعمان ووجد نعمان سروره معها، زينب امرأة صغيرة تبذل المستحيل لإرضاء نزوات نعمان يصفها فيقول “جسد تتمدد فوقه كل طبقات بلادنا وها أنا ذا آخذ دوري” (ص 77)، فهل زينب هي الوطن أم هند التي يقول عنها “كانت تعمل في صمت وتنام في صمت وتبتسم في صمت كانت مثل أرضنا شابة وخطها الشيب سريعاً” (ص 74).
لقد كان في نعمان الكثير من محمد عبد الولي الذي أفاده تنقله بين العديد من الدول زائراً ومقيماً مما منحه هذا التنقل حرية أكبر في التعبير بعد أن استوعب من تلك المجتمعات ما يفيده في عمله الروائي، إلا أنه ظل مخلصاً لبيئته ومجتمعه وعبر عنهما اصدق تعبير وما زالت كتاباته إلى الآن تثير حفيظة الآخرين. إن أدب محمد عبد الولي يستفز في القارئ مكامن سباته مثل إلقاء حجر في بركة ماء ساكن لتفضح عما في داخله، مات عبد الولي وظل أدبه يذكرنا بقيمة الإبداع التي تخلد صانعيها.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *