
المقــدمة :-
في البدء كيف يمكننا قراءة نص (اشرعة الهراء) للكاتبة العراقية خالدة خليل الصادر من مؤسسة شمس – القاهرة سنة 2011.. ؟ أي بمعنى آخر،إذا ما كانت الكاتبة قد قدمت نصها هذا تحت يافطة جنس الرواية كما هو مثبت على غلاف الكتاب ، هل يمكن قراءته القراءة الصحيحة ..؟ فإذا ما عرفنا أن الركائز الأساسية لجنس الرواية هي أمتلاكها فعل الحركة القائم على سرد الحكاية ، وعلى تقديم الشخوص ، ومكان وقوع الحدث ، وهذا خلاف ما توصلنا إليه من خلال ممارستنا للفعل القرائي ، ففي أعتقادنا أن ( أشرعة الهراء ) قد خرج عن أبوته ، وأصبح متخلخلاً في انتمائه ، وإذا ما كان هذا هكذا ، إذن لأي جنس ينتمي هذا النص ..؟ من هذا المنطلق ، أصبح الكتاب الوعاء المكاني / المفترض / أو المخلق لإحتواء النص ، أي إذا ما أردنا القول بدقة ، أنَّ هذا الكتاب لا ينتمي إلى أية مؤسسة تجنيسية مهيمنة كمظلة يحتمي داخلها لينتسب إليها ، إذن أصبح النص خارج نسق جينولوجيا الاخلاق ، فهو هجين ، يحمل صفات مختلفة ويفتح حدوده ليتداخل أو يتعشق مع أجناس أدبية أخرى ، وان كانت هناك أنزياحات كثيرة تسحبه نحو أحدهما دون الآخر ، إلاّ إننا حينما ننظر إليه من زاوية مغايرة نراه قدأنزاح نحو قصيدة النثر وأخذ من ملامحها الكثير ، وإذا ما كان هذا هدفنا الذي نريد تحقيقه من الفعل القرائي ، أو الكيفية التي يتم بها قراءته وبأية طريقة نريدها ..؟ فإننا نضع أمامنا بالحسبان أن هذا النص لا ينتمي إلاّ إلى نفسه بعدّه نسقاً حرا ، وغير قابل للتأطير ، وهذا هو المنطلق الأول ، أو المعيار الفني الذي يعطي لهذا النص إشكاليته التواترية القائمة بين الوعي والمعرفة …
من هذا المنطلق نقول أن هذا النص ، فقد ( هُويته ) ، ومتنه عبارة عن خليط غير متجانس ، يحمل من السمات الشعرية الكثير ، ومن ناحية اخرى نراه قد يحمل من السمات السردية ما يؤهله إلى تكوين حكاية السارد او الذات المفكرة فيه ، وإذا ما كان كلاً من الخطابين يحتويان على سمتي النفي والتخييل أو التغريب ، بهذا المعنى ، يصبح لدينا قطبان رئيسيان لهذا الخطاب هما ( الذات ) ، وتغريب ( الواقع ) القائم بأمتصاص أو ذوبان – شبكة العلاقات الأجتماعية أو التاريخية ، القائمة باستدعاء شخصيات مفترضة تنزاح صوب الخطاب المعرفي ، والكاتبة من الذكاء جعلت من ثريا النص ( أشرعة الهراء ) مثيراً معرفيا معبأ بمدلولات إيحائية تزيح النص صوب النص المفتوح ، وذلك بوصفه كائناً أنطولوجيا قد امتلك جناحين مختلفين ليطير بهما ، هما جناحا الذات من جهة ، وجناح الواقع الأفتراضي من جهة ثانية ، وهو أنزياح معياري لفلسفة هذا الكائن الغريب الأطوار في سماته وتصرفاته ، بل وحتى في ( هُويته ) الضائعة التي يبحث عنها في أختلافه مع نفسه ، وهو كما يبدو يتخارج معها بأستمرار ويحاكمها دائماً وذلك بطرح أسئلته المربكة تجاه الحياة والكون والمجتمع ، فهو يحاور جناح الذات المنطلقة منه لرجوعها مرة ثانية إليه ، ومن جهة ثانية يحاور هذه الذات المنطلقة منه ليوجهها نحو واقع / أفتراضي / وهمي / تكثر فيه الشطحات الصوفية والعرفانية ، والصور الذهنية المركبة داخل انساقه الشعرية المتعشقة مع بعضها ، وهو خطاب قائم على أستدعاء الأشياء المحيطة به ليقوم بمحاورتها …
وهنا يمكن القول: إنّ ما يسمّيه سارتر بالأساس المنّفيّ للتّخيّل يختلف في الخطاب الشّعريّ عنه في الخطاب السّرديّ (الرّوائي تحديداً), باعتبار أنّ ما يستهدفه الشّاعر بفعل النّفي والتّحييد الشّعريّ هو لا شيء سوى ذاته, أو سوى وضعه السيوسيو- أنطولوجيّ (كفرد) في إطار الآخرين, أي في إطار شبكة العلاقات السّوسيو-أنطولوجيّة المفترضة التي تربطه بالآخرين الآن-هنا لحظة الكتابة , في حين يتمثّل ما يستهدفه الكاتب السّرديّ, بفعل النّفي والتّغريب, في العالم السّرديّ ذاته, بوصفه” عالم الواقع الاجتماعيّ أو التّاريخيّ, وما وراءه, نقول هذا انطلاقاً من أنّ المؤلّفين, بخاصّة السّردانيّين, كما يذهب إدوارد سعيد بقوله : ” كائنون في تاريخ مجتمعاتهم, وهم يشكّلون ذلك التّاريخ, ويتشكّلون خلاله, وتتشكّل تجاربهم بوساطته (1) وهذا يعني ان الكاتبة قامت بكتابة تاريخها الشخصي المتمثل بالسيرة الفكرية للذات المفكرة , وعليه فالكاتبة اختارت منطقة حرة في أشتغالها ، منطقة تقع في ( المابين ) يتمثل فيها الشعري والسردي في آن معاً ، ففي الخطاب الشعري نلاحظ الأولوية تكون فيه ( للأنا – المفكرة ) ، لا للأنت أو الهو ، أي ان الذات تعدُّ هي المصدر الأساس في تكوين عالمها الخاص بها ، وهو كما يبدو لنا انه عالم يتشكل من الصور الذهنية المتراكبة على بعضها البعض ، مستخدمة نفي الواقع وتغريبه ، من أجل أن تحل محلها ذوات أخرى منشطرة ،تلك التي تكون وضعها السوسيو- أنطولوجي في اطار علاقاتها بهذه الذوات المنشطرة داخل الخطاب الشعري ، وذلك بتكوين عالم افتراضي ، ميتافيزيقي ، يستبطن الذات الورقية ، في مقابل الذات الواقعية للشاعر ، والكتابة هنا أرتفعت لديها إلى مصاف الحكمة أو الفلسفة ، وهي فلسفة أستبطانية لأحتواء وجودية الوجود بما هو موجود في عالمها الأفتراضي ..
فالكاتبة أقامت في نصها هذا بخلق منطقة للتصادم المعرفي وذلك للحفاظ على خصوصيته الفنية ، وخاصة فيما يحتوي من سمات نثرية يعتمد على الفكرة الشعرية أكثر من أعتماده على الصورة الشعرية كما هو واضح في قصيدة النثر التي تعتمد أعتماداً كلياً على سياقها الدلالي والفني ، فيصبح هذا السياق قاسماً مشتركاً يجمع في داخله الخطاب الشعري والسردي في آن معاً ، ما يؤدي إلى تداخل الخطابين فتنزاح قصيدة النثر صوب النص المفتوح الذي يكون متقبلاً لاستيعاب آليات فنية مستعارة من أجناس مختلفة لتصب في فضائه . فتتجلى السمة الشعرية ظاهرة في تكوينه البنائي .
فالشعرية كما يصفها جان كوهين هي الطاقة المتفجرة في الكلام من جراء أنزياحاته داخل النسق الإشاري ، حينما يؤطر المدلول ويتحول إلى مثير معرفي ، يحمل في داخله طاقة أنزياحية عالية ، وذلك بأعتبار أن الكاتب أو المنشئ هو مَنْ قام بتصنيع هذا المثير المعرفي داخل نصه ، فإن الكشف عن تلك المثيرات أو التكهن بها من خلال أستدعاء إيحاءاتها يعدُّ تكشفاً عن تلك الطاقة المخباة داخل المثير بكونه كيانا شبحيا أو وحدة طيفية التي تكشف لنا عن الوجه الآخر لعملة المثير ، الذي ما زال طيفه الغائب يراود القارئ أثناء تتبعه لها في جســد المكتوب . . أما الشعرية عند تزفيتان تودوروف يصبح الكلام عن المنظوم والمنثور والأجناس الأدبية أمراً قد تم تجاوزه ، لأن الشعرية عنده لا تراعي سوى النسق الذي يشكل خطاباتها إذ يقول ( إنَّ الأهتمام بالأجناس الأدبية قد يبدو في أيامنا هذه تزجية للوقت لا نفع فيه أن لم يكن خطأ تاريخياً ) ( 2) .
منطقة الإشتغال في نص ( أشرعة الهراء ) :-
وإذا ما كان الإنزياح يعدُّ شرطاً ضرورياً للسمة الشعرية عند كوهين ، نفهم أن الشعرية لا يقصد بها الجنس الشعري بقدر ما يؤكد على شرط الأنزياح الدلالي داخل الجملة الواحدة ، وإذا ما طرحنا مفهوم ( المنطقة المقدسة ) هنا بعدِّها الطاقة التعبيرية لأحتوائها على المثيرات الموضوعية والمعرفية في آن .. أذن ماذا يستدعي لنا هذا المفهوم ..؟ نقول وكما عرفناها في كتابنا ( طيف المنطقة المقدسة ): (هي ذلك المجال الشبحي المخلّق الناتج من تداخل أو تقاطع نص القارئ المتشكّل ذهنياً مع نص المنشئ، و من جرّاء هذا اللقاء التفاعلي بينهما تنبثق (الرؤيا) التي توحي ثمة شبح ما ترك آثاره لنا، و الذي يتم حضوره في لحظة من لحظات التفعيل القرائي له كـ(بنية افتراضية مخلّقة) فان استدعاء هذا الشبح / الجسد الغائب ما هو لاّ طريقة من طرق أستحضار شبح (المنطقة المقدّسة) (3) .
وأذا ما كان هذا ما نريده ، فأن الكتاب أصبح هنا بمثابة البنية المكانية الأفتراضية الوهمية / الشبحية / المخلقة – أي أن الكتاب جعل من نفسه الوعاء المكاني لأحتواء نص ( أشرعة الهراء ) وهي إحدى السمات أو الركائز الأساسية في الرواية وهو مكان وقوع الحدث ، وهو هنا بمثابة القيمة الجمالية والفلسفية التي يسعى إليها هذا المفهوم ، وأذا ما أردنا الدقة أكثر في كلامنا نقول ؛ أن هذه المنطقة تسعى دائما إلى ابتكار آليات تقنية / فنية على مستوى الأداء الجمالي، فهي إذن تأخذ الوظيفة التعبيرة والإنفعالية التي نادت بها نظرية الأرسال لجاكوبسن بين المرسل / الرسالة / والمرسل إليه ، وهذا يعني أنها تأخذ دور الرسالة وما تحتويه من قيم جمالية على مستوى الأداء الشعري والنثري في آن معاً ، كما أنها تمثل الطاقة التعبيرية والتوصيلية بقيمها الفلسفية والوجودية ، و( المنطقة المقدسة ) للنص دائماً ما تبحث عن هُويتها ، والأنا – الساردة فيها تتحول إلى كينونة كونية تفلسف الأشياء حسب وجهة نظرها ، والمتلقي يعيد تشكيل ( المنطقة المقدسة ) في كل قراءة جديدة ، والقارئ كلما تمكن من الوصول إليها فهي تنفلت منه ليعاود تشكيلها من جديد ، وبهذا المنطق التفاعلي بين القارئ والنص ، تعدُّ كل قراءة نسخة مزيفة للقراءة الأولى ، والقارئ كلما أعاد عملية القراءة يقوم بأنتاج معنى جديد يختلف عن معنى القراءة الأولى للنص ، فهي إذن تعدُّ منطقة تكّشف لحقائق جديدة ، وكل حقيقة يمثلها سر معين مدفون بين طيات النص ، وإذا كان هذا النص الجديد يصعّد من الشأن الذاتي للمؤلف بوصفه خالقاً ومبتكراً لنص حر ومتفرد، فإنَّ نص ( أشرعة الهراء ) يحفز ذهن المتلقي ، ويجعله في حالة من النشوة الدائمة على مواصلة القراءة ، لأن الوظيفة التعبيرية تعطيه لذة القراءة الشعرية من جهة أحتوائها على الآليات الجمالية في توظيف الشعر ، ومن جهة ثانية تعطيه لذة القراءة السردية لأنزياحها صوب النص المفتوح بحيث يكون متفهما أو مدركاً للتجربة الأدبية بصيغتها الأنطولوجية الشاملة. فأذا ما جمعنا الأداءين معاً ، وذلك بتعشقهما مع بعضهما يمكن أن نصل إلى ما نسميه برواية – نص ، ورواية النص ، تكون قائمة أساساً في أشتغالها على تفجير اللغة وما تحمله من طاقة تعبيرية وأنفعالية ، وذلك بمحو الحدود الفاصلة بين الأجناس المتعشقة معه .
وهذا يستدعي إلى الذهن مراجعة تعريف العالم اللغوي فردينان دي سوسور للغة حيث قال (إنها نظام من الإشارات جوهره الوحيد الربط بين المعاني و الصورة الصوتية و كلا طرفي الإشارة سايكولوجي) (4).
من هذا المنطلق يمكننا ان نطرح سؤالنا الآتي ماذا قدمت لنا الوظيفة التعبيرية في رواية – نص ( أشرعة الهراء ) ..؟ في الوقت الذي نفهم من خلاله أن هذه الوظيفة هي المصدر الحقيقي على تفجير اللغة وما تحتويه من طاقة أنفعالية ، نقول أنها كشفت لنا على أنساق مضمّرة ، أو كما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ذلك المسكوت عنه ، أو اللامفكر فيه .
الأنساق المضمرة في ( أشرعة الهراء ) :
1 / نسق الذات المفكرة :- وحسب قراءتنا لهذا النص نكتشف ثمة ذات واحدة ، تأخذ زمام الأمور في توجيه النص من البداية حتى النهاية ، وهي نظرة مركزية للامور ، فهي كما قلنا في بداية الدراسة ، هي ذات ورقية تقيم حواراً مع الأشياء المحيطة بها ، وذلك بأستدعائها أزاء نفسها ، لتوجه إليها أسئلتها المربكة اللحوحة ، أسئلة تنطلق من الذات لترجع إلى الذات نفسها ، وهذا يعني أن الذات الورقية قد انشقت على نفسها وراحت تحاور الذات / الأخرى القابعة في أعماقها ، وهي بهذا المنطلق تعيد صياغة الذات الورقية في كل مرة كما في التنصيص الآتي : { يا ( زوربا ) لم أكن سوى قناع ورقي لـ( جلجاجمش ) ، كان هو لا يجيد ترقيص حاجبيه في زمن ضائع ، ظل يبحث في أروقته وكهوفه عن فكرة الخلود ، فيما كنت أترقب بأذني غجرية ساذجة مقطوعة ( بيتهوفن ) مركبة على لحن لـ( شهرزاد) … ستبحث عني آلاف السنين يا ( زوربا ) ، ولن تجد غير ظلالي المحشوة بتواريخ أهل الأرض ، روح أنا مبثوثة في ألف جسد ، هكذا يصير لزاماً عليك أن تؤمن بالتناسخ سبيلاً وحيداً إلي .. }( 5 ). وما زوربا هنا إلا الذات الاخرى المنشطرة من الذات الورقية ، وهي بالطبع ذات أفتراضية ، قامت الكاتبة بأستدعائها هنا لصياغة منولوجها الذاتي ، ومثل هذا النمط يسمى بسرد الذات تجاه نفسها، ففي هذا التنصيص بالذات نلاحظ أربعة مثيرات معرفية ، تحاول كل منها الإحالة على الآخر، فالمثير المعرفي (زوربا ) وهو البطل المركزي لكازنزاكي في روايته التي تحمل الاسم ذاته ، والمثير المعرفي (جلجامش ) وهو إحدى الشخصيات الأسطورية الذي يحاول السيطرة على أنكيدو ليصبح خالداً وسيد الغابة بدون منازع ، والمثير المعرفي (بتهوفن) الموسيقي الألماني ، الذي يحيلنا إلى لحن شهرزاد في سمفونية جايكوفسكي الذي وظف فيها تراث ألف ليلة وليلة لشهرزاد أمام زوجها الملك شهريار ، هذا التعشق في المثيرات المعرفية مع بعضها البعض في هذا السياق اللغوي أدى بتفجير الطاقة الإيحائية داخل اللغة على تكوين عالم سردي أفتراضي بتكوين شبكة علاقات وهمية بين الأنا المفكرة وبين تلك الشخوص المتحولة إلى مثيرات معرفية ، وهذا يؤدي بالمتلقي أو القارئ بأستدعاء مثيرات معرفية اخرى من خارج السياق اللغوي ليقوم معها تناصاً فكرياً ومعرفياً وفلسفياً في آن واحد ، كما لاحظنا أن اللغة هنا أصبحت مكثفة وعالية الأداء تعطي للقارئ زخماً روحياً على مواصلة القراءة كما يفسره الناقد الفرنسي رولان بارت بلذة النص . وكما يفسره المتصوف والمفكر العربي النفري بقوله كلما ضاقت العبارة أتسع المعنى . أي بمعنى آخر أن نص ( أشرعة الهراء ) يعطينا درساً فلسفياً للذات المفكرة / الذات المركزية / وهي هنا بمثابة الراوي الكلي العلم ( الراوي العليم بكل شيء ) الذي يتسامى بنفسه ليصعد منصة النص ، ليقود بعصى المايسترو جوقة الأنساق التي تعزف لحناً واحدا ، وإذا ما كان الإنسان كائن مدفوع بشكل تلقائي نحو تنظيم سلوك حياته وبرمجتها بأسلوب يتعايش مع المجتمع وبشكل طبيعي ، فأن المجتمع يصبح عاجزاً و غير قادر على اعطائه صورة جميلة لنفسه ، لاسيما وأن الذات المفكرة في هذا النص أرتبطت بالقمع والكبت واستغلال الغرائز ، وعليه فان هذا النمط من السرد الذاتي يتضمن على قدرة لغوية عالية الاداء لتكشف لنا في النهاية عن كوجيتو جريح ، محبط يعاني من آلام الحياة القاسية ، فتصبح هذه الذات غريبة عن مجتمعها بل غريبة عن نفسها . وهذا متأت من عوامل خارجية أسهمت وبشكل فعال في رسم هذا الكوجيتو الجريح ، وهي الحروب المدمرة التي خلخلت الذات وجعلتها تعيد صياغتها في كل مرة ، وهذا متأت أيضاً من أن هذه الذات فقدت هُويتها وراحت تبحث عنها في بلاد الغربة ، وهي تعيد صياغة حلمها الوحيد ، الذي راح بدوره يشكل جسد النص ، على شكل أستيهامات أستبطانية وأسترجاعات ، وإنقطاعات فجائية نابعة من هذا الكوجيتو الجريح ، والذي لا يستطيع تحقيقها في ظل حياة قاسية .
2 / نسق الإثارة الجنسية : في سياق آخر من القراءة الفاعلة القائمة على أكتشاف المضمّر المختبئ تحت جناحي هذا الخطاب الشعري ، نلاحظ أن الذات المفكرة هنا ، هي ذات أنثوية ، واذا ما كان هذا هكذا فان هذه الانثى تمارس سلطتها المطلقة ، في حلمها الوحيد الذي نسجته بفعل نسيج الكتابة ، إلاّ إننا نطرح سؤالنا الآتي ..؟ لماذا هذه الذات المفكرة تمارس سلطتها الجنسية ؟ أولماذا تحاول هذه الذات من الإكثار من مدلولالتها الإيحائية الجنسية بحيث يكون هو المهيمن الفعال في خطابها المعرفي ..؟ أن هذه القراءة تستدعي منا التعرف على المنطلقات الفكرية للكاتبة خالدة خليل بصفتها الكاتبة او الشاعرة ، وهي أيضاً بمثابة المنشئ الذي أقام بتصنيع مثيراته الجنسية ، وتاطيرها داخل مدلولات متحركة تبطن ثنيات خطابها ، فالكاتبة تعدُّ من النساء الناشطات التي تنادي بحقوق المرأة المظلومة التي تعاني من القهر والإستلاب الروحي والجسدي الواقع عليها من الآخر الذي يمثله النسق الفحولي ، والنسق الفحولي بحد ذاته يعدُّ نسقاً من الانساق المصمّرة الطاغية في المجتمعات الشرقية ، فالرجل الشرقي كما هو معروف يحب التسلط ويمتلك فكراً دكتاتورياً أحادياً ، ويحب التملك وحب السيطرة في كل شيئ بما في ذلك جسد الأنثى ، وهو في نظره كأي سلعة أخرى يريد الاستحواذ عليها ليمارس سلطته الفحولية ، ولما كان هذا هكذا في مجتمعاتنا الشرقية ، فالكاتبة أو الشاعرة في هذا الخطاب القائم على محو الحدود في تداخل اجناسه ، يتحول إلى جسد الذكورة الطاغية ، فتقوم الكاتبة بممارسة سلطتها الانثوية عليه – أي بمعنى آخر نقول ؛ أن الكاتبة تحاول من خلال ممارسة سلطتها هذه كي تخترق كل التاوباوات التي ضربت على نفسها طوقاً من الأسيجة المحرمة التي لا يمكن للأنثى الأقتراب من حدودها ومنها التابو الديني والجنسي في آن معاً ..كما في هذا التنصيص الذي نقرأه : { … كنت أبحث عني فيك وتبحث أنت عن أقمار في مجرة لا تزحف داخلها سوى حقائق تخثرت بفعل ما يسمونه أوهاماً ، يومها وجدت مفاتيح لساني الضائعة في حقول ألغام ، كنتَ أنت زرعتها في كل مكان من ذاكرتي ، لتبعثرني وتردم بأشلائي فراغات تلك المجرة وها أنا أجد نفسي موثوقة بسلاسل تتري اشعث يقودني إلى سرير المقصلة ليفصل بالمضاجعة المرة حلمي عن رأسي فألصقهما في الصباح من جديد بغراء أمل في لقاء جديد يُعيد لي صورتي – أمراة أعتادت الخيال وأقامت له قصورا من عاج …}( 6 ).في هذا السياق النثري نلاحظ الذات الأنثوية ، وهي توجه خطابها إلى التتري الأشعث الذي قام بتوثيقها بسلاسله الفحولية الطاغية كي يقودها إلى سرير المقصلة وعبارة ( المضاجعة ) ، هو الفعل الفحولي المتسلط الذي يقود أنثاه إلى منصة المقصلة ليفصل رأسها عن جسدها ، والكاتبة وضعتنا أمام صورة ذهنية ، ترسم لنا فعل الأغتصاب الطوعي من أنثى مارست بفعل أنوثتها وجمالها لإختراق جسد الفحولة الطاغية ، والمتمثل هنا بجسد النص الذي يقابله شخصية التتري الأشعث ، وكأن بالكاتبة تريد من هذه الفكرة أن تخترق هذا التابو الجنسي الذي فرضه المجتمع الشرقي عليها، والذي جعل من المرأة مكسورة الجناح لم تجد احداً من ينقذها من هذه المقصلة .. وكما في هذا التنصيص الآتي :{ وكنت مثل انثى طائر الكناري حبيسة قفص ضاقت بها الحيل ، ولم تجد غير نافذة مفخخة بأيدٍ تنتظر أقتناصي ، لتودعني في قفص آخر ، أسميناه غربة ليمتد من غربتي فيك إلى غربتي في عالم له خرائط } (7) .في هذا التنصيص نلاحظ المثير الموضوعي ( قفص ) ، وهو مثير مأرضن يمكن للقارئ أن يتخيله بسهولة ، فهو يشير إلى موضوعه على أرض الواقع ، وبأشكال عدة ، لكن هذا المثير من جهة أخرى وضمن سياقه الإشاري اللغوي يتحول إلى مثير معرفي ، يخبئ في الوجه الثاني منه على الوحدة الطيفية الكامنة ، بمعنى آخر ثمة شبح ما ترك أثاره في الرمال ، فأذا ما قمنا بشطب هذا المثير ، والشطب هنا بمعناه المجازي فأنه يجعلنا أن نقوم بأستدعاء مرجعيات أخرى أو مثيرات معرفية تقع خارج سياق النص ، فيوحي لنا ( القفص ) بالقانون العرفي الذي يفرضه المجتمع على المرأة ، وهو شكل من أشكال التاوباوات المحرمة كقتل المرأة غسلاً للعار ، ويعدُّ أحد الأعراف الأجتماعية المفروضة من المجتمع ، تقع فيه هذه الأنثى أسيرة هذا القفص ، وأمامها نافذة وحيدة وهي ساحة حرب مفخخة بألغام الذكورة الطاغية ، لتودعها في قفص ثان ، وهو تابو آخر من تاوباوات المجتمع وهو ( بيت الطاعة ) كما في العرف الإجتماعي الذي يقع ضمن قانون الأحوال الشخصية على المرأة التي يهجرها زوجها وحيدة في بيت الزوجية كعقاب لها ..
3 / النسق المعرفي أو الفلسفي :- يمكن للقارئ من خلال الممارسة القرائية الواعية للنص أن يطرح السؤال الاتي لماذا ( أشرعة الهراء ) ..؟ أي بمعنى آخر لماذا الكاتبة اختارت أن يكون ثريا النص بهذا العنوان دون سواه هذا من ناحية ، من ناحية ثانية نرى أن النص هو كما أرادت له الكاتبة ان يصبح كائنا انطولوجيا ، ولكن هل النص أخذ له قالب الدمغة الذي يسمه هيدجر بالدازين الخاص به يميزه عن باقي الكائنات الاخرى ، أي يحمل ملامحه الخاصة به كجنس الرواية ؟ وهذا خلاف ما جاءت به قراءتنا لهذا النص الرجراج ، وهذا يؤكد لنا ان الكاتبة قد كتبت لنا مولوداً هجينا تكون حدوده مفتوحة مع الأجناس الأخرى ، يمكننا أن نسميه قصيدة نثر ، أو نص مفتوح ويمكن أن نسميه بـ( رواية نص ) ، هذا المولود الجديد ذا الحدود السائبة ، هو البديل الذي أرادته أن يكون بديلاً أجناسياً موحدا يحمل ملامح كل الاجناس في آن معا ، وهذا بحد ذاته يعني مغامرة الذات مع نفسها ..
أذا ما هي الحكمة من تاسيس هذا البديل الاجناسي الموحد ؟ نعم هي الرؤية أو المعبر الفلسفي الذي ارادته الكاتبة لتخترق به وبعنف كل الاسيجة الميتافيزيقية الآمنة ، هي كما قلنا أسيجة التاوبوات الذي فرضها المجتمع ، بحيث اصبحت تلك التاوباوات ضمن النسق الثقافي والفكري لمجتمع منغلق على نفسه ، وهذه هي الرؤية الفلسفية للكاتبة من أن تكون اشرعتها سائبة تسبح في فضاء حريتها .. ما أدى بنص أشرعة الهراء إلى التشظي والإنشطار ليس على مستوى نسق النص وحده بل أمتدَّ هذا إلى كسر سياق الجملة الشعرية الواحدة . وهذا ما جعل ردود أفعال معاكسة عند القارئ ، على أنَّ ثمة شفرات مزروعة في ثنايا النص وما على القارئ إلاّ فك هذا اللغز وحل طلاسمه المعرفية . وبالتالي ما جعله يحمل إشكاليته على مستوى التواتر الوعي / المعرفة في آن . أي بمعنى آخر أن هذا النص يحمل سؤال وجوده بما هو موجود ، بأن العالم الذي نعيش به ، أو الذي تعيش به الكاتبة قد فقد هُويته ، فقد ملامحه واصبحت حدوده مفتوحة ، هذا الاختلاف في هُوية النص هو الأختلاف نفسه لهذا الوجود ، وجعله وجوداً غير حقيقي وغير يقيني ، وغير مستقر ، وغير ثابت ، إذن نحن نعيش في عالم غير يقيني ، أنقلبت فيه الثنائيات الميتافيزيقية الثابتة التي وضعتها الفلسفة الوضعية ، بحيث عدنا لا نميز بين اليقين واللايقين ، بين النور والظلام ، بين الحقيقة والوهم ، بين الذابح والمذبوح ، إذن من يمتلك مفاتيح هذا الوجود ويحدد مصــير هذا العـالم المفكك ..؟
خلاصة القول /
يُجيء نص ( أشرعة الهراء) في زمن تهتز فيه قيم الوجود ، وتستبدل الحقيقة باللايقين ، وتفقد الذات قيمتها وذلك بذوبان كينونتها مع ملايين من الجموع التي لا تعرف هي الأخرى كينونتها أو مصيرها المحتوم ، يجيء هذا النص في زمن تُرصد فيه الأنفاس ونبضات القلوب ، وفي زمن ينتشر فيه الرعب والذعر والاستكانة والإذعان وعلى قول كلمة ( نعم ) المطيعة الذليلة . ويتحول المكان إلى سجن كبير أو زنزانة بلا جدران ، وفي زمن تتحول فيه منظومات القيم الدينية والإنسانية إلى طقوس وأوهام وقيود ويتحول الوجود إلى عبث بحيث يسيطر فيه الإرتباك والفوضى والعقم واللامنطق ويزداد فيه نزف الدم ، ونتيجة لكل هذا وُلِدَ نص ( أشرعة الهراء) صرخة احتجاج ترمى في وجه العالم .
الهوامش :-
(1 ) / مأخوذ عن مقال ( غواية السرد وغواية الشعر ) للكاتب أ. د عبد الواسع الحميري والمنشور في مجلة غيمان الإلكترونية .
(2 ) / الشعرية / تزفيتان تودوروف / ص 21} .
(3) / طيف ( المنطقة المقدسة ) حفريات نقد مابعد الحداثة – محمد علي النصراوي / دار الشؤون الثقافية في بغداد عام 2006م .
( 4)/ فردينان دي سوسور / علم اللغة العام – ت : د. يوئيل يوسف عزيز – مراجعة: د. مالك يوسف المطلبي – ضمن سلسلة كتب شهرية تصدرها دار آفاق عربية – عدد / 3 لسنة 1985م – ص / 33.
(5) / نص أشرعة الهراء ، ص/ 24
(6 ) / نص ( أشرعة الهراء ) / ص / 38
(7 ) / نص ( أشرعة الهراء ) ، ص / 39