مهدي شاكر العبيدي : رشدي العامل

شاهدته أول مرة في مساء يوم من ربيع عام 1952م ، يلقي خطبة بعنوان (مقبرة الأحياء) ضمن مواد مهرجان طلابي أقامته وزارة المعارف آنذاك للموهوبين وأصحاب الملكات الأدبية الواعدة من طلبة القطر، ولم يكن مجال القول منفسحاً لهم بصورة مطلقة ليعبّروا عما يشاءون من النوازع والخلجات، بل كان الأمر خلاف ذلك تماماً، إن لم ينطو على أمر مضحك، فقد اصطلح يومها على شروط ومواضعات ينبغي للكاتبين والمشاركين في المهرجان أن يلتزموا بها، كأن يعنوا بالموضوعات الوصفية أو الدراسة الأدبية الصرف المعنية بسيرة شاعر قديم أو فن أدبي شاع خلال عصر معين من تاريخ أدبنا وثقافتنا .
غير أن خطبة الطالب رشدي العامل الذي قصد بغداد من مدينة عانة في محافظة الأنبار بصحبة مدرس اللغة العربية، لم تتحدد بأي من الضوابط والقيود التي توقف عندها الآخرون ونزلوا على حكمها وأمسكوا قرائحهم عن أن تبوح بخواطر دالة على الانطلاق والعفوية وحتى طموح إلى الحرية المجردة، وأغلب الظن أن كاتبها قد اطلع على كتاب طه حسين ( المعذبون في الأرض) الذي صدر في تلك الحقبة وعرّف بحقيقة الظروف والملابسات التي رافقت صدوره، فقد توافرت في الخطبة المذكورة خصائص محببة من تعبير زاخر بالروعة والاشراق، واحتواء على المضامين والخطرات الدالة على الشعور بالأخوّة الإنسانية، وقد نتوسع فنضيف إليها عنصر الحماسة والاندفاع وتوفق الخطيب أثناء إلقائه لمقالته في استلفات نظر الجمهور صوبه، وكذا حاز رشدي الجائزة الأولى المرصودة بعد إجماع لجنة التحكيم على عدّه الفائز الأول مرجحاً على نظرائه وأقرانه.
وكان من بينهم من درج في ساحة الطموح وكابد مشتقاته وصعوباته، وخبر حال المنتصر الواصل ساعة تحقق مقاصده وآرابه، أمثال الدكتور جلال الخياط والدكتور عناد غزوان من أساتذة قسم اللغة العربية اليوم، وأذكر أن الدكتور مصطفى جواد والشيخ محمد بهجة الأثري كانا من بين أعضاء لجنة التحكيم* .
ونشرت الكلمة في يوم تالٍ بجريدة ( الوعي السياسي ) التي لم يصدر منها غير عشرين عدداً أو أكثر بقليل، ولم يكن النشر ذاك في جريدة يومية ليملأ أعطاف الأديب الفتي بالغرور والزهو فقد داخلته هذه النشوة التي يذوق الأدباء طعمها السائغ في بدء قيامهم بنشر مقالاتهم وأبحاثهم في الصحف والمجلات، لأنه جازف وأصدر قبلها مجموعة شعرية صغيرة بعنوان ( همسات عشتروت ) وهي قصائد بسيطة عن الحب والمرأة معاً، وفي العام التالي قدم رشدي إلى بغداد مزمعاً على الإقامة فيها بصورة دائمة بعد أن قبل طالباً بكلية الحقوق .
وآخر مرة رأيته فيها كانت في نيسان عام 1989 بدار الشؤون الثقافية العامة، بصحبة الكاتب المصري غالي شكري، الذي تنبي هيئته، هكذا خُيل لي وقد أكون مخطئاً، بما يملأ نفسه من قرف جراء تضاؤل الإعجاب بمجمل نشاطه الأدبي والفكري في نفوس معظم الأدباء العراقيين، على غير ما استقبله به الجيل الأدبي الذي عرف بجيل الستينيات وجسدت مجلة الكلمة تطلعه المحمود إلى تجديد الأدب متمثلاً في ما نشرته من قصص وقصائد ودراسات عكست تعلّق أصحابها بما يعلي شأن الوطن والأمة من آمال ومطامح، مع اعتماد قوالب وأشكال تعبيرية تحكي الجدة وتمثيل روح العصر في غير مجاوزة للحدود التي يحسن بهم أن يقفوا عندها في تجديدهم، ويعرفوا لموروثهم حقه وحسن تمثيله لمواضعات عصره، فقد رامه غير واحد طوال العشرين سنة الماضية بالسرقة والسطو على آراء الغير واستنتاجاتهم في أكثر من صحيفة ومجلة، وكل ذلك من شأنه أن تمني السمعة معه بالاهتزاز خاصة إذا تأتى للمعجبين القدامى ما كانوا يسعون له من استقامة اللغة وتجاوز مرحلة البداية، المهم أني ألفيت الشاعر هذه المرة قد استنفدت طاقته وحيويته الأمراض، ولم يعد يقوى على المشي باعتدال إنما استعان بعصا يتوكأ عليها، مضطراً لا مصطنعاً ما تضفيه عليه من اتزان زائد، بقدر ما يوحي منظره للرائي بفرط اليأس دون أن يفلح في مواراته بما يتظاهر به من بشر وتبسط وحبور وتفاؤل، وكان الرجل في عجلة من أمره أو لمعاونة الأديب الضيف الذي قصد الدار المذكورة .
وتسألني عن الرأي الفصل الحاسم في شاعرية رشدي العامل، فنقول تجدك دائماً حيال شاعرية الألفاظ قبل شاعرية المعاني، فمنذ أربعين عاماً ورشدي ينظم الشعر بروييه الجديد والقديم مستجيباً لمقتضى الظروف، محاولاً أن يؤصل لموهبته طابعاً شعرياً محدداً وميسماً فنياً دالاً مبتعداً بها عن المباشرة والوضوح المرذول، لكنه ظل مبقياً على انجازات الرومانتيكيين القدامى في تجسيد تعلّقهم بالحزن والطبيعة وحنينهم إلى المرأة، أما التوق  إلى الانسحاب والعزلة فلعله اتجاه غالب على الأدباء الحقيقيين عموماً! وفي ذلك تكمن مفارقة عجيبة .
ولعله واحد من رهط شعراء معينين ظهروا في هذا القطر العربي أو ذاك، لامرية في أصالة موهبتهم لكن قعدت بهم ظروف وعراقيل شتى عن أن يكون عطاؤها بالمستوى المرجو من الإبداع، ولي أن أسمي من هذا الرعيل المبخوس حقه الشاعر السوري الراحل عبد السلام عيون السود، وإذا أمكن التوسع في هذا النظر ليشمل الناثرين فالكاتب السوري أورخان ميسر يأتي في طليعة الأدباء الحقيقيين من ضحايا الخمرة وصرعاها .
وقد أحسن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في القطر بإحيائه أمسية خاصة، قبل سنوات قليلة، احتفى بها برشدي العامل، وقدمه إلى المجتمعين الشاعر حميد سعيد، الذي باغتهم بملاحظته أن معظمهم لم يكن في عداد الأحياء عام 1951م، متوخياً بها أن ينبههم على ما له عليهم من حق هو في غير حاجة إلى الاعتراف به أصلاً من قبل أحد، بعد أن صار مألوفاً في الوسط الأدبي تذمر غالبية الأدباء بحق أو بدون وجه حق، من تسمح بإطلاق النعوت والأوصاف وعدم الضن بها حتى على الأدعياء، وما يحسم هذا اللدد والمخاصمة حول الاستئثار بالنبوغ والإبداع، ورمي النظراء والانداد بالسطحية والضحالة وقلة التحصيل، غير مبعثر الشمل ومفرق الأحباب، حقيقة ناصعة يعيها ويفقهها كل منا، لولا أن يزهدنا فيها فرط العناد والمكابرة وتشبثنا بخرافة الخلود، الذي لابد أن تعزى به الأدباء عن غياب رشدي العامل، وقالوا : إنه باق في قلوبنا أبداً. وعلى منوال شيوخنا من جهابذة الكتاب في العصور الخوالي نقول في توديعه :
رحمه الله تعالى وعفا عنه وعنّا، وصان محارمنا وأقداسنا من الخسف والثكل والانتهاك .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *