دأب الشعراء والنقاد الأقدمون على تقديم تعريف او توصيف للشعر ضمن حدود وظائف أو مهمات كانت معلومة لديهم ، لكن الشعر في مسيرته وحتى عصرنا الراهن اثبت عصيانه ومنعته على التعريف القسري الخارجي . فلم يعد هو تلك الكتلة من العواطف التي تتجمع في كيان بشري حساس او شديد الحساسية . ، ولم يعد ذلك ( الفيض العفوي من المشاعر القوية ) كما عبر وليم وردسويرث . بل صار الشعر الذي رافق الانسان منذ تكونه وعبر مسيرة تطوره تكوينا ليس له حدود بسبب اتصافة بصفة التفجر اللانهائي انعكاسا للأغوار اللانهائية في خيالات البشر . من هنا اكتسب الشعر صفتين اساسيتين اولهما خروجه عن اسر دائرة الشاعر نفسه بعد مرحلة الانتاج الا في حدود خيوط طفيفة من الاثر الذاتي . والثانية انتقاله الى دائرة مفتوحة من التفسيرات والرؤى التي تتكون في اذهان من يطلعون على هيكله وبنيته المقروءة او المسموعة , وهكذا حال شعر الشعراء العظام مثل ابي الطيب المتنبي وابي العلاء المعري ووليم شكسبير وغوته ودانتي وطاغور وعمر الخيام والجواهري واحمد شوقي . وفي راينا تنطبق سمات هذه الظاهرة على شاعرنا الكبير بدر شاكر السياب . فقد اقتنص اللحظة التاريخية التي انذرت بقرب ولادة نص شعري جديد لم يألفه القريض العربي السابق لظهوره رغم انه ، قد تكون فنيا في رحمه ، أي في رحم التقاليد الشعرية العربية ورغم ما ظهرت عليه معدات الولادة الجديدة وكأنها من صنع تقاليد خارجية . ان بدرا بذلك قد اكتسب حق الريادة الأولى مع ان عدد من مجايليه قد ساهموا في تمتين مواضع اقدام الوليد الجديد الذي اطلق عليه تسمية الشعر الحر او شعر التفعيلة ، فقد كان زملاءه نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري جاهزين للعناية بالوليد الجديد لتذليل العقبات الممكنة امامه لمزيد من الانطلاق ليبهر الناطقين بالعربية جميعا .
ان شرعية ولادة الشعر الحر على يد بدرشاكر السياب تؤكدها حقيقة تاريخية مستمدة من التاريخ الأدبي الذاتي للشاعر ومسيرة تطوره الفني اولا وبروز حقائق موضوعية شديدة التطلب في حياة المجتمع العراقي والعربي تبحث عن وسائل التعبير الجديدة فكان لابد من قابلة تساعد على ظهور الصياغات المناسبة ثانيا ، فقدر للسياب ان يكون تلك القابلة بقدراته الذاتية على ذلك بعد ان فشلت القابلات الاخرى في الوطن العربي (اللواتي) سبقنه في هذا الشأن. ففيما يتعلق بتاريخ التطور الشعري الذاتي للشاعر توصل الشاعر الى اكتشافه بعد انتقالة من المرحلة الرومانسية الى المرحلة الواقعية اواخر اربعينات القرن الماضي صعودا الى خمسينياته ، لكنه ظل وفيا للمرحلة الرومانسية في تطوره اللاحق بغية تعميق غور الاستيعاب لدى المتلقي .
من المعروف ان فن الشعر يتفرع الى فرعين اساسيين هما الشعر السردي والشعر الغنائي . ان السياب استطاع ان يخوض في الشعر الملحمي الذي هو نوع من الشعر السردي دون ان يتخلى عن الغناء عير المتن الشعري باسره . وقد تحقق له ان يحكم السيطرة على ادواته في ثلاثة نواحي وهي المفردة الشعرية والجملة الشعرية او البيت الشعري والسياق العام للعمل . وما يهمنا في هذا المجال هو تسليط الضوء على البنية السردية لقصيدة ( انشودة المطر ) وصولا الى تحديد مدى القوة الدرامية للشغل الشعري للسياب في هذا الانموذج . لنا ان نعرف ان انشودة المطر ظهرت عام 1960 وهو ليس مجرد عام زمني بقدر ما هو امتداد لمسرح كان مفعما بصراعات منفعلة بسبب تناقض الارادات في الداخل والخارج وكانت قضية الهوية الوطنية تتعرض الى الالتباس والفعل الدموي الناتج عنه . وكان الشاعر شديد النبض وشديد الحساسية ازاء ما يحدث وكان تاريخ ما يحدث وطبيعته ماثلا امامه ويفعل فعلة في ساحة حساسيته المفرطة .
ادرك الشاعر ان السرد الملحمي يمتلك طاقة خارقة في اثارة عنصري الادهاش والوعي لتحقيق وظيفتي التعليم والمتعة . تبدا القصيدة بابيات ذات رداء رومانسي حسي :
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر ،
وشرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء .. كالأقمار في نهر
الشاعر يقدم وصفا بالغ الشفافية مستخدما مفردات رومانسية ( السحر ، القمر ، الكروم ، رقص الأضواء ، النهر ) بالإرتباط بالعينين رمزي الرؤية والجمال . وهو بذلك يحكم شباكه على القارىء كي يبقيه مسحورا ومشدودا في محرابه وينتظر المزيد . لكن الشاعر يبدا بالقاء صفحة اخرى من بيانه برداء مختلف فيحدثه عن :
والموت والميلاد ، والظلام ، والضياء ،
فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء
ونشوة وحشية تعانق السماء
ان هذه الانتقالة من اجواء الرومانسية حيث الجمال والدعة وعذاب الروح تساعد في تمهيد الطريق الى دخول الثيمة الرئيسية الجامعة الشاملة وهي المطر . المطر طاقة من طاقات الطبيعة يدخل حياة الناس في جميع مراحل وجودهم الحياتي ويملي عليهم تاثيراته وفق نظام لا دخل لهم فيه . فهو اذن قوة طاغية قد يستطيع الكائن البشري التفاهم معها وقد لا يستطيع ذلك . المطر هنا دخل كالمحرك الذي يدير عجلة الحياة سواء في الطبيعة او في الحياة البشرية .اما الشاعر فقد تمكن بداب من استغلال هذه الطاقة في تفعيل علاقة درامية بين الانسان والطبيعة فالمطر الذي تشربه السحاب : ” كأن اقواس السحاب تشرب الغيوم / وقطرة فقطرة تذوب في المطر ..” يكركر الاطفال في ” عرائش الكروم ” ويدغدغ ” صمت العصافير على الشجر في انشودته ذات الكلمة الواحدة هي ” المطر ” : مطر../ مطر ../ مطر../ تثاءب المساء والغيوم ما تزال / تسح ما تسح من دموعها الثقال . هنا يقتضي السرد الشعري الانتقال الى منعطف ذي اجواء حزينة يثيرها المطر ايضا . فنفس الشاعر تختزن قضية تريد ان تذرفها لمن يسمع او يقرا هي قضية الانسان المعذب . وكان بدر يريد ان يسحب حزنه الشخصي حتى يلتئم مع الحزن العام أو مع حزن افراد آخرين من بني البشر في محاولة نجح فيها ايما نجاح لتكثيف موضوعة العذاب الانساني الذي لا راد له، والتكثيف يتحقق بالتعبير والكشف التفصيلي عنه تماما كما يحدث في الملاحم الشعبية التي تعاد روايتها على مر العصور وفي كل مرة يضاف اليها شجن جديد من قبل الرواة :
(كأن طفلا بات يهذي قبل ان ينام : / بان امه ، التي افاق منذ عام / فلم يجدها ، ثم حين لجّ في السؤال / قالوا له : ” بعد غد تعود ..”/ لابد ان تعود / وإن تهامس الرفاق انها هناك / في جانب التل تنام نومة اللحود / تسف من ترابها وتشرب المطر ، ) سوف نلاحظ هنا جبروت المطر اللامتناهي فهو لا يكتفي بمواكبة الانسان في حياته فرحا او حزنا بل يتبعه حتى بعد مماته وهي اشاره من الشاعر الى وحدة الطبيعة في حالاتها المختلفة بينما الإنسان يفتقد الى هذه الوحدة الاطارية المصيرية . بعد تلك الرحلة يعود الشاعر الى حبيبته ، يخاطبها :
أتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟ / وكيف تنشج المزاريب اذا انهمر؟ / وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع ؟ / بلا انتهاء ، كالدم المراق ، كالجياع ، / كالحب ، كالاطفال ، كالموتى ، هو المطر !
لكن الشاعر خلال روايته لاشكال الهموم ومصادر العذاب المختلفة لا يغلق جميع الابواب امام الامل المختبىء خلف الحجب بل يرمي امامنا بنبوءته حول شروق قادم وخير سياتي في محاولة لجعل المتلقي يتنفس تمهيدا لتحريرة من اثقال الماساة :
(وعبر امواج الخليج تمسح البروق / سواحل العراق بالنجوم والمحار ، / كانها تهمّ بالشروق / فيسحب الليل عليها من دم دثار )
لقد استخدم السياب في سردة اداة عظيمة الفعالية في اكساب الصورة وهجا اخاذا يقربها كثيرا من التجسيد الحي للكائنات التي تسكن فيها ، وهذه الاداة هي الشخصنة أي تقريب الكائنات الجامدة في الطبيعة الى كينونة الانسان وطبائعه فيجعل الصورة شديدة الحيوية وشديدة التعبير عن دواخل بشرية مخزونة :
( اكاد اسمع النخيل يشرب المطر / واسمع القرى تئن ، والمهاجرين / يصارعون بالمجاذيف والقلوع ،) ولنلاحظ حذر الشاعر في اختيار وفي استعمال المفردة الشعرية فهو لم يقل” اسمع النخيل” حتى لا يجازف بالابتعاد عن عنصر الاقناع في صورته لأن الاستماع هنا يبدو مستحيلا لكنه فضّل عنصر الاحتمال لأنه اقرب الى الحقيقة فالاستماع للنخيل وهويشرب المطر امر غير ميسور ، كما ان مفردة أكاد خدمت الامكانية الروحية للاستماع نفسه دون ان يتهم الشاعر بانه بعيد عن الاقناع ، بل انها ساعدت على جعل هذا النوع من الاستماع ممكنا بالمعنى الاضماري للجملة الشعرية . وكانت هذه المفردة ” اكاد ” قد استخدمت في موضع آخر لذات الغرض ولكن كي تخدم صورة مختلفة : (” اكاد اسمع العراق يذخر الرعود / ويخزن البروق في السهول والجبال / حتى اذا ما فض عنها ختمها الرجال / لم تترك الرياح من ثمود / في الواد من أثر …). يصر الشاعر على التبشير برياح التغيير بعد ان اثقل متلقيه بالصور القاتمة في حياته واستنزف دموعه وشجنه . في هذا يظهر السياب اخلاصه للقيم الفنية الشعرية التي اتى بها ارسطو الذي حدد وظيفة للعمل الفنية تتركز حول موضوعة الخوف والشفقة تحقيقا لعنصر التطهير .
استخدم الشاعر لاستكمال البنية السردية ضمير الراوي الثالث او ما يسمى كلي المعرفة لتمثيل العراق والمطر والمخلوقات الاخرى ايضا ثم الضمير الأول لتمثيل نفسه وتفعيل تدخله في زويعة الماسأة . بل انه استخدم ضميرا مضمرا داخل النص لتمثيل مجموع من الناس : ” قالوا له : ” بعد غد تعود ..” ثم عاد بسرعة مشاركا المجموعة في رواية الحدث فيقول : (لابد ان تعود / وان تهامس الرفاق أنها هناك / في جانب التل تنام نومة اللحود ..) وبذلك يكون الشاعر قد استكمل عناصر التعبير السردية لتصوير احداث الحبكة المرسومة .