إسمه سلام ابو الخير، لست غريبة عنه، انا لا اقتحم عالمه عنوة، ارتبطت به منذ ان دلق اللهيب بين افخاذي، في الايام الاولى الحرقة تتصاعد بمجرد رؤيته ، ثم نمت. سكن معي ليالي الشتاء، تدفأ الفراش البارد، احسه ينام الى الجنب، احتضنه او امطره قبلا. وعندما تسري الرعشة اضغط ساقي فيهطل المطر، كالحلم يلتصق بالشرشف، فأداريه صباحا كي لا تراه الأم.
لحظات قدومه اتعرى من ثقل الملابس، فابدو شفافة، ثوب تنط حلمة الثدي منه، يغريني شاربه فأدنو، يتلامس النهد مع الشعيرات فيفز مستيقظا وعندها اود الصراخ. نار تحرق الجسد، كل شيء يحترق عدا الرعشة، تطفر من حيث لا احتسب.
مرات اتحول رمادا، منسحقة تحت الغطاء اياما متواصلة، عله يأتي. عله يبرق خبرا، او اشارة حتى يصير الانكسار في العينين فرحا. طفلة في السواقي تركض، صبية تقفز بين الاشجار.
قرب الجدول انتظر، الساعة سأراه، من هذه الجهة سيقدم راكبا دابته، تطول ساعات الانتظار، خائبة ومنكسرة أعود، أعلل النفس ان غدا قريب.
لم امل الانتظار ما دام قد باغتني مرة وانا في اشد حالات الاندحار، كنت اجرجر قدمي وقد كلتا من الوقوف عند حافة الجدول صابرة، أفأجأ به يجلس في باحة الدار، يدخن” لف” مع ابي، كثيرا ما حدث هذا، اذ يقدم من طرق غير متوقعة وانا احسب نفسي عارفة مسالكه،
اهم مسرعة نحو الفتى الذي يلسعني الشوق اليه، بيد اني اجفل خجلة من وجود الأم، التي تنسحب الى المطبخ لاعداد وجبة للضيف، حينما يبصرني الاب مقدمة يدي للمصافحة يجعر:
– خذيه بالحضن، اطفئي شوقك.
ارتعب من جرأة ابي، لكن والله حتى الحضن لا يكفي، اذ اشعر لحظتها ان كل الشرايين تطبل زمورا لمقدمه.
لم يعد غريبا منذ اعتاد الجيران على حضوره المتكرر، ولو بين حين واخر، سنوات متلاحقة يظهر فجأة بهدوء، كأنه لم يغب حينا من الدهر، ودائما ما يلاطفني لما اعاتبه “الامس كان هنا واليوم يرحل”، بيد انه يظل اياما، قد تقصر او تطول فذاك ما يتطلبه مشواره.
صوته كالهمس ينساب كل مرة يباغتنا فيها:
– مساء الخير، انا ابن “ابو الخير”.
هي نغمة محببة الي جدا وافرح بعدم استعمالها مع الاخرين، يخصني بصوت شذري دون العالمين اجمع،
في البدء كنت اخاف طلته، يتراءى كعفريت يخرج من بين الخرائب، يشرئب عنقه ما فوق النافذة وانا يسجي الليل علي ظلامه، اجفل من البوز الذي كنت اشبهه بالشيطان الرجيم، ثم عدلت لاحقا ان وصفته بالشيطان القصير.
عيناه قانصتان كالنسر، لا تفوته شاردة في اثناء حديثه، وخافتتان ان انصت، كأن الكلام يحرك حواسه ويحفزها باتجاه الوثوب، يسهب مطولا واصفا بحديثه كل ما يحيط الموضوع، مثل من يقرا في كتاب، لا تسقط منه كلمة ولا يتراخى عن السرد، حتى اشعره غائبا عما يجلس بجانبه،
ان صمت فتلك مصيبة كبرى، تطبق شفتاه ولا تنفرجان ابدا ولو بحمحمة، تتوقف عيناه عن الالتقاط، كأن اصابهما النعاس فخمدتما، اذناه كالرادار تبدآن بالالتقاط والتنبه، والوجه لوحة صامتة لا تنم عن شيء،
كنت اجن من جلسته، احاول بشتى السبل اثارة انتباهه دون جدوى، حتى يئست من اكتراث هذا المخلوق بي، يأخذني الحنق فتصطك اسناني اشمئزازا، اقرف فأنهض بأي حجة، اتمتم مع نفسي: ما بي؟ لست قبيحة.. لا ابغي اي شيء، فقط ان يشعر بوجودي، يعيرني بعض الاهتمام، قليلا من الكلمات يوجهها نحوي،.. مقرف.. اللعنة عليه وعلى البغال التي ربطته بصداقة أبي..،
ادخل الغرف، اتجول حولهم، خارج البيت اطلق الدموع، وفي كل مرة يغادرنا اتجاذب اطراف الحديث مع الاهل، لا احد يشبع فضولي حول مغزى صمته وعدم الانتباه لي، عصبية انهض شاعرة بالاحباط، هل حقا لا يعرف مقدار حنقي عليه؟
ان اضع حدا لما يحدث قرار عزمت عليه ان جاء ثانية وليفرط ابي من الغضب، عندها لن يجرؤ للمجيء ثانية،
على نافذة غرفتي، ظلام وسكون مرعبان يخيمان في الوادي وضوء قنديل الغرفة خافت، طرق خفيف، مرة يتواصل ومرة يسكت. ظننت ان الريح تضرب الزجاج، لكني تبينت ظلا، بالكاد ظل راس يلوح، توقعت ان ثمة امرئا ينتظر انفراج النافذة، ترى من يكون؟
دون ان اهلع دنوت، اذ تملكتني بتلك اللحظة برودة عجيبة، شرعتها فأطلت ابتسامة عريضة، أتبين صوتا يرافقها، لكن لا افقه ما يقال:
– مساء الخير.
ثم نط، بقفزة واحدة وجدت رجلا قصيرا في غرفتي.
– اسف، الوقت متاخر.
لم يرض ان اوقظ ابي، تلك اللحظة استطال، رايته عملاقا وانا طفلة امامه، هلعة اطالعه، أمن المعقول هذا؟ رمى الحقيبة قرب مسند السرير، خلع الجاكيت، اخاف.. لا.. افرح، مبهورة، منكمشة، تناقض يشتت عقلي، بهدوء قال:
– سانام الليلة عندك، في الصباح سنرى المختار.
اذن هو يعلم ان للمختار بنتا، يعرفها ولا يخطئها، جاء الى نافذتها ونام ليلة في سريرها.
تفصل بينهما مسافة كافية لان تدرك ابعاد خجلها. قبل ان يغط في عمق النوم قال كلمة، لا ادري ان سمعني بعدها ام لا، لقد اطلقت المارد من روحي، كل الهواجس التي كانت تفجرت كسيل، كنت يقظة طوال الليل، اكثر من مرة تمتد يده تحتضنني، وقد تمد لتقبض على النهد، يرتعش جسدي وأهاب ايقاظه، صحا مرة واحدة فأبصرني يقظة، كالنائم في حلم قال:
– لست غبيا، اشعر بدفئك.
جملته صارت زادا لبقية العمر.
للبحث عنه عقدت العزم، انقطع مجيئه منذ فترة، نتف من اخبار شتى يتناقلها الناس، المختار ساعة المغرب يخبرنا انه جرح في المدينة، باغته رجل في الظلمة فطعنه بخنجر، الأم تقاطعه “سمعنا بهذا من قبل وايضا شفي من جرحه”. بعض الفتية ممن يرتادون المدينة دائما يخبروننا: “شاهدناه يتجول في الشوارع”، اخرون ينفون بالمطلق كل ما يشاع، ويعدونها اكاذيب: “لا احد يعرف شيئا، لقد اختفى تماما”.
مرة زارنا مهرب، كان قد قطع ثلاثة حدود وعبر جبالا شاهقة: “صدقوني، رايت ما لا يصدق، بأي جبل تمر ترى مقاتلين رابضين عند القمم، كأنهم دود يملأ الاعالي” ثم يردف بعد ان اطمأن لمرور معلومته: “سيخربون تجارتنا”.
انا اعتقدت توهمه في الرؤية، فسلام اخبرني مرة ان عدد المقاتلين غير كاف، واذا انقصنا من يدلف المدينة فان ما يقوله هذا المهرب هراء،..”غير حقيقي” قلت للوالد الذي كان ينصت بخشوع للقيل والقال الدائر بين القرى، لكن ابي يصر على ان الحكاية بدات تكبر والاخبار المتواترة تشيع صحة وقائعها،
بعض معارفنا الذين يجوبون المناطق القريبة من السلسة الشرقية اكدوا حدوث شيء كهذا،
الحكاية تحولت بفعل الايام الى موضوع يتهامس الناس به، حقا ثمة فرحة تغمر القلوب بحدوث معجزة، اعتبروها بشرى للتخلص من الوضع الماساوي الذي يربض فوق الصدور،
انا لم افرح، كنت قلقة عليه، لا ينقطع طويلا عنا، ظل الوالد في بحث دائم عما يثلج فؤاده بخبر يقين، لم يك يروي لهفتي رغم سعيه الدؤوب، طلبت مرة منه، الأم شجعتني. حالما اقول كلمة تكمل عني الباقي، غضب ابي وزعق: “حسنا، انا مثلكما، اريد اليقين، سارسل شخصا”.
اذن علينا الانتظار اياما وليالي
طوالا كيما يذهب الى السليمانية ويتحرى الاخبار،
عاد خائبا، لم يستطع الحصول على نبأ، لكنه اضاف: “المدينة تغلي كمرجل، وربما سيحدث شيء في أثناء الاعياد”،
لست مستعدة للصبر اكثر من هذا، فقررت امرا، لا بد من معرفة حقيقة ما آل اليه هذا القصير، الذي ملأ الدنيا شغبا، الوالدة طرحت سؤالها اليومي المعتاد عندما دخل المختار وهم بالجلوس، لكنه اصابه المس وكأن عقربا داس:
– الله اكبر، دعيني استريح اولا.
الأم تدير وجهها خجلا، انا ازحف اليه:
– كيف حالك ابي؟
اكيد شعر بالعقرب تحته، فردة فعله كانت عنيفة، حتى لم يع ماذا فعل، اذ انه بالمنتصف من خلع سرواله، هيىء له انه كان يريد ارتداءه ، اربكنا معه، لكن ضحكة امي ازاحت التوتر الذي كنا فيه، ولن تدنو لحظة اخرى مثل اغنتام هذه، فرمينا القنبلة معا باتجاهه، كنا نتهيأ للهرب، امي ناحية المطبخ وانا باتجاه الحوش ان ترامت ثورته علينا احذية متطايرة،
لم يحدث ابدا ان راينا المختار منشرح الصدر لفكرة من اول وهلة، امي صاحت:
– الله اكبر، ستحل القيامة،
– أترغبين بالسفر؟
ارقص، ماذا؟ اطير، ماذا؟ لا يكفي لاعبر عن سعادتي غير احتضان المختار ولثمه قبلا، شعر بنشوة اخذته حالا الى غفوة، كان الوقت مساء وحتى الصباح يكفي ان ألملم حاجاتي وأتهيأ للرحلة.
صرة من ثوبين وقطع داخلية وسروال يحمل أثر اشتعال اللهيب، ثمة ثقب فيه يؤشر الى ذاك الذي انتصب وحرقني بناره.
ذكرى علقت بالذهن، اشعر بالندم لعدم اتمامها، لكني دائما اقول ان اللهيب ما زال يتوهج، يخدرني ويجعلني ساهية، لقد زرع شروده بي، وعرفت يومها اي قيمة ان تحتفظ بنار تدفئ الضلوع ساعة الوحشة.
محوت من خاطري كل الارهاصات التي راودتني ايام ما كنت احنق عليه، ثمة امانة برقبته ان يوفيها، ان يطفىء النار او يؤججها،
لا احب منتصف الطريق، انا ارض خصبة لم تزرع بعد، هل يدري مدى الصعوبة التي خلفها لي؟
حقا نحن مضطهدون ما دام مرتدو الزيتوني ينهبون قوتنا، لكن لا يعفيه من احراقي بحضنه، يردد دائما: “ان تتخلى عن انسانيتك ان تبيح النهب”.
ما دمت عرفت خيارك ايها القصير فلم لا تاخذ بيدي؟ كل ما قلته يحتاج الى اضافة، لمسة من امرأة تعرف العشق وتعطر ثورتك باريجها،
في داخلي نوازع شتى تغلي، لكنها ترتطم بمقدار خوائي، لا يكفي القهر لان اصل اليك، ثمة نازع اخر ينمو في داخلي، يشدني بقوة، ان نرسم الدرب معا مثلا، او ان افيض عليك لتنتشي، انت الحارث لهذه الارض، لن تؤتي ثمارها ان لم تشذب تربتها، عندها ستظهر لماعة كالذهب،
قادمة من اقصى قرية لاجدك، البندقية تحت الرداء تختبئ، لم اسقطها وانا اقطع السلاسل، لن اعود خائبة، لا بد ان اجدك، انت المرتجى في زمن الخواء، حتى لو نبشت ارض المدينة زقاقا تلو الاخر،
المختار اوصاني “حالما تصلين، الى الحداد مباشرة اذهبي”، الأم تردف: “انه صاحبه ويعرف خباياه”.
لا يهم ان كنت لا اعرف الاسرار، لكن لا بد ان يدرك اني البئر الذي يأتمن،.. “انت المرفأ الذي احن اليه”، قالها مرة وعلقت بي ووظبت نفسي لأن اكون مرساه، بل مرة شبهني: “كالمطر الذي يطهرني فأورق من جديد”، بعد كل هذا ولا اعرف اين اجده،
الوالد يصر: “الحداد سيدلك”، الوالدة تضيف: “ربما يدلك على البوابة”، الفتى الذي عاد خائبا اخبرني: “من الصعب معرفة شيء محدد، لكن املي ان تجدي بعض اصحابه، هم كثر. سترين ذلك، كل شاب يعرف السر لكن لا يبوح به، مدينة كالطلسم، يعدون خطوات الغريب، من اين وفد وأين يقضي وقته وبمن يلتقي، اواه.. وجع مخ”
ليست المرة الاولى التي ازورها، اذ ترددت مرات عدة في اوقات متباعدة، لن تضيعني السليمانية قط، حدثت الوالد بهواجسي، لكنه غضب: “كيف تكونين بنت المختار وتضيعين”. له العذر، فهو يعد نفسه ممن ساهم في اندلاع الثورة. كان واثقا ان اسمه سيشق الدرب لي، كالعصا السحرية التي فلقت البحر،
انتشي، بعدما ذهبت الام تعد العشاء الاخير، لقد اسر لي عدة اسماء للاستعانة وقت الضرورة، انا ايضا لا تخلو جعبتي من سهام، اتذكر جيدا احاديثه ووصفه المسهب عن الاماكن التي يرتادها،
– اه، اين انت؟
الى مدينة نائية الحنين يحملني، الوجع في العروق يتخثر، اجاهد المشقة كيما اصل، بدات المسافة تقصر، قطعت شوطا طويلا، اهبط من شاحنة لاخرى، سرت مسافات راجلة.
بعدما خرجت من القرية صباحا، الوالدة تلقي تعليماتها الاخيرة، سلسلة من النصائح، “لا تضيعي نقودك.. ان سرقت…”. مثل كيس تبغه اعلقها بين النهدين، خيط ومحفظة ينامان بجوار رمانتين لم يفدعا بعد، حرام ان يظلا حبيسين.
هما ينابيع ماء زلال، إن عطشت تعال، ساطعمك الشهد، ألقمك الحلمة اولا، ان خدرت سيهطل المطر، وجودك بقربي سيجعل لسني العشرين معنى.
تعال حل وثاقي، كنت قريبا وانا بجوارك،
تحنو حتى طالتك، هل تذكر؟ مربوط الى البغل وتابى النزول، كانت تتحرق للقائك، لم تبخل ولم تمهل ولم تجعلها تدرك كنه ما طلبت، لكن لبت، بكل المحبة التي تكنها لبت، رغم غرائبية الوضع تشهيت فعلا ان تفعلها، وهي في داخلها تسال عن الكيفية، مربوط الى بغل وتتشهى امرأة تقف بجوارك، طلبت ان تحل وثاقك عن البغل لكنك ابيت، “ان ذلك اجمل والبغل صاحبي، لا استحي منه”، وضعت الفتاة ذراعها مسندا ليرفعها اليك،
لم تتخيل جنسا يمارس بهكذا وضع، انت غرائبي وهي غضة لا تعرف، “علمني، كيف اصعد اليك”. كنتما تتقاطعان مع الحيوان، انت معلق من وسطك وهي تبذل جهدا لتصل، وكان لا بد ان تتدخل، ما زالت الفتاة لحد الان لا تعرف كيف جرت الممارسة، كنت تتشهاها وتصرخ لوعة من حرقة اللقاء وهي الاخرى تتأوه تحتك وعيناها تائهتان في الافق، الذي كان طرف وادي واشجارا تهتز مع صراخها.
تلك الممارسة الغرائبية صارت حكاية، وطافت على القرى كلها، هي سردتها لصاحبتها، من فرط دهشتها بما حصل لم تستحي، قصت الحكاية كاملة، ولان الاخرى احتارت ايضا بالكيفية التي وقعت بها، راحت الحكاية تتناقل حتى غدت اسطورة وانت بطلها.
كل القرى التي وصلتها الاسطورة حملتني نساؤها السلام لك، لم يصدقن ان من خلق ملحمة بهذا الجمال يطعنه ملثم،
– اه، اين انت؟
اتهيب لقاء الحداد، يقولون: “دكانه في الطرف الاخر”، تمتد شوارع المدينة باهتة، الضجيج يأتي من الازقة، يتحول الهمس بالمنعطفات الى همهمة وعيون شاخصة، الشوارع مقفرة، وحدي اسير، تطالعني النظرات بشكل منكر، بمحاذاة الرصيف الثاني يسير شاب بمعطف ثقيل، يده اليمنى تقبض على شيء، حين وصلت ابتسم مودعا، فرحة لمرافقته، مرحى ايها الشباب، سارقص لكم ان وجدته. خطوتان وبان الدكان وسخا.
– مساء الخير.
بذات النبرة خرجت التحية، التفت الحداد مذعورا، أدركت انه يطلب اعادتها، جاءت ايضا بنفس الطريقة. كمن عثر على بغيته، قدم كرسيا. مسرعا جلب شايا، لماذا تنصهر الخردة و”القوري” لا؟
اطالع محتويات المحل، متناثرة.. ربما في هذه الزاوية كان ينام، أراه يفتح ذراعيه، يقبلني مرحبا، ثم مثل طفل صغير يضع راسه فوق الكتف، يتشمم العرق المتساقط بين الخصلات، دائما يقول: “هنا رائحة الارض”. يسأل: “ما الذي أتى بك؟” أصرخ: “انت”.
يجفل الحداد، عذرا سيدي فالنار تحرق الضلوع، اهيم خلف حلم، كان عند باب دارنا.
– لا تجزعي، سنجده.
تجوال ثلاثة أيام خلق دوامة، طفت المدينة وقصباتها، الحداد يقودني واسم ابي يشرع الابواب، احد الرفاق قال: “ذهبنا به الى كهف للشفاء”. آخر رآه في المدينة يطارد دبا. آخر يصر: “لم يك يطارده، بل يركبه، وملابسه ملطخة بالدم”. فتاة قالت: “منذ أيام دعوته ليأكل سندويشا”.
الحداد يسجل كل الاقوال ويعلق: “سأكتب سيرة حياته”. المسؤول الذي استقبلنا في مقر الانصار لم يدل بشيء: “مثلكم اتمنى رؤيته”، اصدقاؤه هنالك يقولون انه حي، شاهدوه في طرف الجبل، كانوا يشيرون الى الطرف القصي من الافق، صديق ثان أضاف: “كان يحفر الحجر، يصنع مقاتلين رابضين عند القمم،”
اذن ما رواه المهرب في قريتنا صحيح، يضيف مقاتل، صادفه منذ أيام، : “حالما ابصرته صعدت، كانت يداه ماهرتين، تحيلان الصخر الصلد لاشكال جميلة، مقاتل عنيد رابض فوق قمة، كأنه راية”.
بان لي الان ان خياره صار يقينا، لقد اكتسح بثورته حتى الصخر، ولم يعد ثمة مندوحة من القبول بتسربه كالهواء من الاصابع، صنع اسطورته الخاصة في قريتنا وها هو يصنع اخرى لاصدقائه،
في الليل يراه الناس في المدينة، يتجول كسائح، يطالع الابنية، يحك تعرجاتها،
– هو مثلنا لا يختلف، تصوري مدى تعلق الناس به، لقد صار حلما لهم،
الحداد الى الجوار يمشي ويحادثني في طريق العودة:
– إنزرع في العقول، يعلقون الامال الكبيرة عليه،
يكمل بقهر يتشرب الكلمات:
– ليس ساحرا هو، أشتاق اليه وابكي فراقه.
ممكن أن ألخص ما مر بي منذ دخلت المدينة، لن أراه، هذه النتيجة الحتمية التي تتراءى امامي جلية. هو صار في الكل، الحداد يدعي ربوبيته، الاصدقاء يتمثلون احاديثه، البنات يأخذنه الى مشاوير الفرجة،
من الصعب علي تجسيد الحلم بشخص، كون هذا الشخص خاصتي،
– أين تذهبين الان؟
الحداد بقهر يطرح السؤال وكأن ثمة املا في الامساك به، هو يأمل ان أحثه بهذا الاتجاه، لكني في منتصف الطريق اقف:
– لم يعد مجديا، سأعود صباحا الى القرية.
انحدرنا، الازقة تهبط الى قعر المدينة، الاسواق ما زالت تفتح ابوابها، اسراب من الشباب يتجهون الى الوسط، بعض البيوت ترفع رايات، تذكرت راياته الخضراء والصفراء عند الجرف، لطالما حدثني عن الواقعة تلك،
– ماذا يحدث؟
– كل سنة وانت طيبة.
ياللرب، لقد نسيت، أعياد الربيع تحل اليوم، قبلني الحداد، كان يتشمم في الرائحة الغائبة لشخص عزيز،
الرايات تزداد، هابطة الى القعر، جمهور يزحف، رددت فتاة نشيدا معروفا، خافت صوتها ثم علا تدريجيا، النشيد عم فوق الجميع، تفتح الازقة ابوابها، يخرج الناس الى الشوارع، سيل بشري نحو المركز يسير،
– ها، ما الذي حصل؟
شاب يلهث ويعدو، لم يجب اولا، ثم التقط انفاسه من اللهاث:
– اطلقوا النار على الطلبة، سقطت فتاة ميتة.
ركض الناس، المدينة تصير مظاهرة، يمسك الحداد يدي، يدي الاخرى على الزناد، ايها القصير ما فعلت بي؟ كل الفتية يشبهونك، من يحتضن من؟
2- المطاف
الحزن ينخر العظام، لا يقوى على النهوض، يرسخ في القعر وساعة الوحشة يطفو، كموجة تجتاح كيانه فيرتعش، كشيخ جاوز السن المقرر يسعل، تأتي خافتة وتطفئها ذرات الرمال التي تنثرها الريح،
يقاوم الالم ويكابر، كان يعد نفسه لأيام اخرى. قد تقدم حينما تهب الرياح من مدينته. في واديها ساكنة، كالنسيم الذي يحلم ان يشفيه من وجع الخاصرة.
كان يحسب النجوم تقف في مداراتها ان بلغ الحزن مداه، لكنه ظل يراقب بعضا مما تحمله له الريح ذات يوم.
هب انه مات، لم ينعيه شخص، هب انه عاش، السحاب يسير وراء موكب عرس، لم ينغرس في رمل ويعبر الوديان.
سيظل منفردا، لا تضمه لغة، ولا تحفظ الذاكرة له تاريخ ميلاد، كالذي نسيته امه وهي تركض بين الفسحة والرايات. إرتصف الجدران والقمم، حلمه قاده، حيث أبتدأ الأمر اصلا.
طريق العودة الى القرية، التي هي آخر القرى والقريبة من الحدود، صار شاقا، فقررت ان تطرب على بعض من أغانيه:
“طلقة هذه الروح
كم دفعنا الى حجر، كي نطوف دهرا به..
ايها الحجر النيزك، الحجر الابيض، الحجر الملون: اي زمان قطعنا معا؟
اي ارض حللنا؟”
الكويت – 1986
للمؤلف :
– تل حرمل ، قصص قصيرة
– رواية تعالى وجع مالك 2012
– – رواية جدد موته مرتين 2012