عبد العزيز لازم : قراءة في قصيدة ” حرية”
خطاب المشاكسة عند حسين عجة

لاتستطيع الدخول إلى عالمه بطرقة واحدة أو طرقتين على الباب  .انه كالراعي الذي يراقص ذئب البراري الذي سيطلق غناءه بعد الترويض ليحاكي غناء طائر الزقزاق حين يحيق به الشوق إلى عشه . هكذا يجعل الشاعر مهمته الشاقة في التعامل مع الكلمة  فكيف السبيل إلى ” حسين عجة”؟
لاتستطيع إبعاد  لحمة حسين عجة وسداه عن لوعة الجنوب ” مضيّع الخارطة ” ” اللوح الرابع “. فهناك عاش ضوع المياه وعشق الخرير المجيد وهناك راح يذرف نزيفه ويتلو صراخه : أن ثمة خطأ في العالم ينبغي تصحيحه . سكن حسين وأبوه وأمه وأختاه وأخوه في ظل جدار لا احد يعرف متى بني ولمن بني ، فربما بناه الوالي العثماني ” عمر باشا” الذي سميت مدينة العمارة بإسمه . كان جداراً دائم الرطوبة والانتفاخ ومثلوم الحواف ، وكان واضحا إن البيت لم يكن يحظى بانتمائهم إليه حتى ولو امتلكوا وثيقة ملكية العقار . كان والده رغم خشونة وضراوة القهر المعيشي ذا صوت خطابي عالي النبرة ، وكان لا يتردد في رفع صوته على أي احد ، ومنهم واحد من أصدقاء حسين الذي نزل من الحافلة التي كانت تقلهم إلى بغداد يوما ليشتري بعض الحاجات لكنه تأخر قليلا ، صاح به : “ولك يا ابني عطلت الجماهير” يقصد ركاب الحافلة الكبيرة ، فكانت نادرة يتداولها
الأصدقاء . إذا ” الجماهير والجوع والعطش هي ثيمات طبعت حياة الأسرة ،  إلا إن حسين عجة تملّكه “الجوع والعطش” المزمنين فشغلتا مكانا أثيرا في قصيدته موضوع البحث ، بل شغلتا جميع مراحل حياته . اطلّ على الماركسية أو أطلت هي عليه  فبكى على “السبعة الذين شنقوا” ثم بكى حين لينين كان يتداول بتواضع جم مع فلاحي سيبيريا الأميين حول الخطة الزراعية وبكى على مايكوفسكي حين وضع حدا لحياته بعد أن أدرك إن الحلم الذي قامت من اجله ثورة أكتوبر قد تعرض لحصار البيروقراطية  ثم بكى على المسحوقين في بلاد الطين , بلاد قطن فيها ” صاحب خصاف” و ” ومجيد خليفة ” و” خلف جودة “وثوار آلزيرج وإضرابهم من المغادرين بسبب تمردهم الأسطوري  فتلقى السياط المريرة  . اطلّ أيضا على السريالية والوجودية وثورة الطلبة في باريس وربيع براغ ، وبكى على الفتى ” رحمن ” الذي غادر مدينته العمارة إلى بغداد مطلع سبعينيات القرن الماضي ليرتقي أعلى عمارة فيها ويغادر العالم ” فالعمارة  ليس فيها عمارات” ، وجدوا في جيب جثته ورقة تقول :” لقد قررت أن أضع حدا لحياتي لأن هذا العالم لم يعد يحتويني” .
يتكرر “الجوع والعطش” في ” حرية” ذات الألواح  الستة . كل  لوح كان استئنافا لنفث جديد لما يختزنه وجدانه . في ” اللوح الأول” يقول ذلك مقرنا إياه بالسياط : ” أي ضيم! أبيض وحاذق هو خنجر الفاقة ، جفاف الحنجرة ، وكأنه سراج بمليار شمعة تلقى بغتة على وجه امرأة في غرف التعذيب ، سراديق القلم السري ؛”. تنهض ” حرية” بشواغلها الأثيرة باعتبارها عرضا ملحميا دراميا لذاكرة المكان والأشخاص ، فالشاعر لايكف عن التغني بتفاصيل غائرة عن مدينته ” العمارة ” وأصدقائه الذين عاش معهم في كنف الطبيعة الخلابة للمدينة ، فعندما اضطر إلى الهجرة ، هاجرت معه ملامح ” .. رسام الفنارات ، صاحب السمرة الغافية والنخوة الراقصة : شاكر حمد ”  “اللوح الأول ” وسكن في ضميره ” فرد يشدني  الشوق إليه وحرقة السؤال نحوه ، وطلعته يحظران عليّ التفوه ثانية بملامح الفكرة “.  “اللوح الرابع ” وربما يقصد صديقه الذي أهدى إليه القصيدة ، كاتب هذه السطور .
كل لوح في القصيدة أشبه بالاستغراق الجديد في إضاءة صفحة جديدة من القضية التي تحملها . قبل ذلك انقسمت إلى جزءين رئيسيين يختلفان فنيا لكنهما متصلان بالشهيق ذاته . القسم الأول اتخذ شكل قصيدة النثر ذات المفردات الفخمة والثاني   الذي  احتواه ”  اللوح ” الخامس والسادس  اكتسب شكل قصيدة الوزن رغم غياب الإيقاع الظاهري المعروف ، فهي في تعريفها الفني قصيدة نثر أيضا . لكن كلا الجزءين يحتفظان بثرائهما الغنائي المضمر والمديد . انه يستنطق عزف المكان رغم إن الناس منشغلون في وظائفه ” المكان ” اليومية وقد لايسمعون غير ضجيج الحاجة وتفاصيل البيع والشراء  لكنه يسمع شيئا آخر داخل روح المكان : ” لمنخفض شارع الصاغة وجه يحاكي ويختلس ، غفلة سناء النهر ، النسائم العليلة ، بائعات القشطة ، رنة الخلخال ، الديرم والاقدام الزكية …” ” اللوح الثاني ” بذلك يمنحه حركة أسطورية تساهم في تسجيل الشغل الوجداني للمجموعة البشرية .
يصر الشاعر على التحليق فوق المألوف لأنه يعدّ إن المألوف قتل للإبداع وتعطيل لخيال وعقل الانسان . وقد أدى ذلك به إلى الدخول في مشاكسة جمالية مقرونة بجهد مصرار على اكتشاف مقتنياته الخاصة بعيدا عن ابتذال اللغة والاقتناع بالمطروق منها . لكن هذا الموقف لم يكن بدون ضريبة  تمثلت  بالعيش في حالة من الغربة حتى عن الأدباء من زملائه ، وهذه القضية الفنية تنطوي على مكابدات تعادل في قسوتها معاناته الحياتية نفسها . وقد أدى به ذلك إلى العزوف عن الكتابة والنشر في الصحف في مبكر حياته متقبلا لإمكانية أن يكون مغمورا او غير معروف في الوسط الأدبي والثقافي الذي يضع معيار انتشار الكاتب مقياسا على الانتساب لهذا الوسط دون تدقيق في أصالة الكاتب الثقافية وعمق رؤيته .انه نمط من العمى الرؤيوي الذي يشكل إحدى سمات التناقض الداخلي للنخبة المثقفة أو المحسوبة على الثقافة. إن معضلة ” حرية ” هي إنها تريد إطلاق شغلها الملحمي عبر الإشعاع الأقصى التي تكتنزه المفردة الشعرية . لكن ذلك لايمكن أن يحصل إلا عبر انتظامها في سياق جملة شعرية مخصبة كانت قد نالت نصيبها من حرارة الصهر الداخلي للشاعر. وهنا تبدأ مشكلة الشاعر التي كانت قد بدأت حقا منذ زمن سحيق كمعاناة يومية ، فالعمل لا يمس الموضوع المباشر ،” الحرية” إلا في اللوح الثاني ارتباطا بالحب والرعب : ” الحب فكرة . تتلفت دون مرايا صوب عشاقها الأربعة : الحرية صاحبة العزف الملائكي ، والمناشير التي يختلط لونها بتراتيل الاماسي ، تسارع ضربات القلب  على عتبة الخوف .. ” ” اللوح الثاني” في هذا التسجيل لتجربة شخصية شيدت نفسها اعتمادا على موقف كفاحي ضد سلطة غاشمة ، يضع الشاعر ضربات نول جديدة في جسم النسيج الذي أقام كيانه الحياتي. ولاتنفك قضية الحرية التي عصفت بحياة الشاعر عن الارتباط بقضية القهر المعيشي والاقتصادي التي عصفت وتعصف بحياة الناس ، بل إن هذا العصف الأخير قد رافق حياة الشاعر وعائلته ومدينته رغم الخيرات المادية التي تعطيها لخزائن الدولة  ، ومرة أخرى تعلو القصيدة بأوتار لغتها الثمينة فتعطي بيانا مثخنا بالصور الباذخة : “قل لي كم كان عسيرا علي انتزاع البسمة من خشب طاولة يقطنها شعب بأسره ، شممتها قبل أن يودع حرفي فوق إيقاعها أنفاسه الباذخة …”  ، في تصوير رمزي بالغ الفخامة لحالة العوز ونقص الحاجة لكتلة بشرية عايشت وتعايش ” الضيم الأبيض ” دون حل منظور .
يمكن النظر للشاغل الفني للقصيدة من خلال جزءيها اللذين يتقاسمان ظروف العصف الحياتي للشاعر ، فالقسم الأول يجد تغطيته في الألواح  الأول والثاني والثالث والرابع أما القسم الثاني فيغطيه اللوحان الخامس والسادس . في الأول تسجل القصيدة سيرة المكان والكيان العاطفي للناس والأشياء مقرونة بالموقف الوجداني منها وهي تعود إلى فترات زمنية عاشها الشاعر في مدينته وفي وطنه . إما الجزء الثاني فيحمل لواعج متزايدة في ليل الغربة عن الوطن والمرابع الأولى . وثمة حقيقة تبرز في هذه التدوينات تتمثل في أن صفحة المكابدات في هذا الجزء هي امتداد لتلك التي عاشتها القصيدة في الجزء الأول ، مع فارق المكان . فيبدو واضحا إن ارض المهجر المرفهة لم تستطع تقديم البديل المقنع للشاعر عن ارض الوطن ، بل لازال العطش يحتوي الشاعر هناك ،إضافة إلى “صمت الهاتف ” : مطلق الغيوم عطش ،/ عطش ارق الليل وسمو النبرة / مطلق هو صمت الهاتف .” ” اللوح الخامس ”  . وتشير دواعي السيرة في القصيدة إلى أن السارد بدا يتحدث عن أفول العمر دون اضمحلال الشغف القديم لديه : ” عند موتي / على حالها ، تبقى / الحدائق وعصافيرها المهاجرة ،/ أعشاشها ، وفي / المدينة ستفتح ثانية حوانيت / الكآبة ، سنوات المجاعة ..” .
لم تختتم القصيدة نفسها في اللوح الأخير رغم إن هناك إشارة مكررة للموت ،لكن الحديث عن القلق والتلوث و” المزهرية التي تحلم قربي ..” واستمرار منعطفات الذاكرة المجيدة حول الحضن الأول تعطي العمل حيوية متواصلة وتجعل الباب مفتوحا لحياة متصلة . نحن أمام شاعر مشاكس ذاق المرارات كلها فلم يجد أمّر من الابتعاد عن النبرة الشعرية  عالية الإشعاع الخاص .
—————–
* المنشورة في طريق الشعب العدد 224لسنة 77 /19/ايلول/ 2012

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *