نعيم شريف : الإرسي : القفز من بين أصابع الموت

المفتتح في رواية سلام إبراهيم الجديدة (( الأرسي )) الصادرة حديثاً عن دار الدار المصرية ،هو و صفٍ تفصيليٍّ لحيثيات حياة الراوي وهو مُجبرٌ
على العيش في مكان ضيّق ، رطبٍ ومظلم كقبر ، يستخدم في البيوت العراقية كمكبٍ لحاجياتٍ بَطُلَ استعمالها ويسمى الأرسي .
يعيش ( الراوي – البطل ) في الأرسي كخيارٍ لابد منهُ لتجنّب الموت في حربٍ عبثية وخشية الوقوع بيد السلطات وكلا الاحتمالين موتٌ مُحققٌ وهما احتمالان قائمان في الوقت نفسه. وهو لهذا يرضخ لشروط عمته الأرملة بأن يعيش في الأرسي كالأموات ، بلا حركةٍ ولا إطلالة من نافذةٍ ولا تجوالٍ في باحة البيت . هذه الشروط لها حديّة الحكم بالموت ، كونها إيقافٌ متعمدٌ للحياة من أجل الحفاظ على تلك الحياة ، وتلك مفارقةٌ مرّةٌ تعكسُ لا معقولية العيش في ظلّ النظم القمعية .
يُصوّر الراوي ، بضمير الغائب ، في الصفحة 9 ، حالهُ في الإرسي ، (( …. في استلقائه الساكن في حلكة المستطيل العريض جهة الرأس ،والضيّق جهة الأطراف والباب …)) الوصف الآنف يُشيرُ تلميحاً إلى الشكل الذي يكون عليه التابوت ، وهذا إسقاطٌ نفسي يعكسُ الحالة النفسية المتأزمة للبطل، فالإسقاط النفسي هنا هو المعادل البلاغي للمأزق الوجودي والذي تتقلّب في شراكه شخصية البطل ، وكونها هاربةٌ من قدر الحرب المحتوم ،تنصاع الشخصية إلى شروط الواقع الضاغط الذي وجدت نفسها فيه والتي تنطوي على قدرٍ مماثل من القسوة ، ومنصاعة لتلك الشروط ، تجد الشخصية نفسها في وضع يُعطّل شروطها الإنسانية مُخضعاً إياها لقوانينه .ولعل ذلك يُفسّر إحساس الشخصية بالموات والعجز ، على الرُغم من محاولات تمردها على محيطها القاسي بتلك اللحظات من الحرية المُختلسة والتي تتيسّر لها حين تكون العمّة خارج البيت . نقرأ في صفحة  12 (ولكن حينما يخلو البيت وتعوي في صمته الوحشة ، يتسللُ إلى نافذة الدنيا وصباح الأزقة المشمس وبشرها ليعبّ من  الضوء والضجيج والوجوه ما يُصبّره على انتظار المجهول.)
إنّ  الأرسي بوصفه مكاناً معزولاً غير مُفكّرٍ فيه من قبل الآخرين ، لدواعي السلامة ، ووفقاً لحدوده الواقعية، يسلبُ حاضرَ الشخصية ، ونعني بها هنا ( الراوي -البطل ) نفسهُ ، نقول :يسلبُ حاضر الشخصية ويُسقطها في لُجة ذكريات الماضي بكل زخمها وألمها ، تُستعادُ الذكريات هنا ليس كفعل تذكر  ولكن كرد فعلٍ لإثبات وجود ، محاولة لاستعادة الذات المهددة بالنسيان الكامل ، يُكسرُ جدار العزلة إذن باستدعاء الذكريات والتفاصيل الحياتية من الماضي للبرهنة على وجود حي لكنّه محاصر .
تستعرض الرواية بشكلٍ فريد أزمة الفرد المُستلب الواقع تحت آلية قهر مرعبة ينتجها ويعيد إنتاجها نظام دكتاتوري دأب على خلق حروب خارجية ليُبرر قمعاً داخلياً لعامة الشعب . إن عسكرة المجتمع تعني فيما تعنيه أن يموت الجميع من أجل بقاء فئة قليلة ومستفيدة ، وهذا لابد أن يقود الى تجنيد الكل لخدمة النظام . تغدو حالة الحفاظ على الحياة الشخصية عن طريق الهروب من الحرب فعل خيانة يستحق القتل ، ولذلك كثُرت فرق الإعدامات في الجبهات الحربية وفي المدن وصارت متابعة الجنود القادمين من الحرب في إجازاتهم مهمة أجهزة الأمن والمخابرات وأعضاء الحزب الحاكم ، سلسة طويلة ومرعبة من العوائق القاتلة . كان التفكير فيها من قِِبل الجندي العراقي ، مجرد التفكير ، هو كابوسٌ مرعب . ووسط هذه الظروف تفضل الشخصية العيش في   الأرسي أملاً في خلاص مؤقت ، لكن هذا الخلاص لا يأتي سهلاً ميسوراً بل إنّه مغمسً بالرعب والموت حدّ الهلوسة .
نقرأ في الصفحة 102((…. أصبت بتشوش ذهني تام في انزوائي المستلب في بيت أصبح شبه مهجور وتنتابني المخاوف والهواجس والظنون نهاراً ، ورعب الصمت والكوابيس المهولة ليلاً)).
إن حالة العزلة والانقطاع تفعلُ فعلها في تكسير قدرة الشخصية على العيش داخل واقع له هذه الخصوصية ، عن طريق خلق واقع بديل أكثر قبولاً وأقل قسوة تجود به المخيّلة ، فالشخصية هنا تدرك فداحة اختلاط الواقع مع الوهم لكنها لا تستطيع الإفلات من هذا الشرط المخيف (( ما جعلني أكتب لك بصراحة هو استفحال الاختلاط ذاك ، عدت أعيش الواقع وكأنني في أمكنة الكابوس والخيال وأعيش أمكنة الخيال وكأنها الواقع …. )) ص 103 .
وكقراء نعاني نوعاً من الحيرة في مسيرة قراءتنا فالأحداث المُستعادة كذكريات تجد لها طريقاً إلى ساحة الحلم أو الرؤيا أو الحدث المؤثث وفق المخيلة، إنّ السرد الروائي الذي يحفلُ كثيرا بالتفاصيل يأخذ القارئ إلى أمكنة مُعلّقة بين فداحة الواقع المعاش وسماوات الحلم المُشتهى وبالأخص الوصف الجنسي الجريء الذي تحفل به الرواية والذي يُشكّل محوراً رئيسياً ومهماً في بنائها ، لوجدنا أن الشخصية تُعاني ، نتيجة لوضعها كسجينة في (( الأرسي )) ، حرمانات يأتي في المُقدمة منها الحرمان الجنسي ، وأثره المدمر على التوازن النفسي للشخصيّة . فالرواية ترفدنا بتفاصيل هي خليط من حقيقة وخيال تُسرف الشخصية في سردها وإعلامنا بها ، ونحن إذ نُلاحق السرد تختلط علينا الأشياء فلا نعرف هل هي حقيقة أم خيال ، كانت الشخصية تتابع من مخبئها في (( الإرسي )) ابنة العمة التي تزور أمها رفقة زوجها وأولادها ،ثم تتابع الشخصية زوج بنت العمة وهو يُواقع زوجته (( الوحشية الجمال )) في باحة الدار ليلاً ، ولا نعرف كقراء إن كان ذلك قد حدث حقيقة أم أنه فعل من نتاج المخيلة ، فقد كان الوصف التفصيلي الدقيق لما يجري كما لو أن الشخصية تشاهد فلماً سينمائياً من مخبئها لكننا هنا نشهد ما يشبه التشفي والفضح في هذا الجزء من السرد، والذي ليس الغرض منه مداعبة القارئ غريزياً ، بل هناك غرض ربما يخفى على الشخصية نفسها ، لكنه واضح الدلالة فمن غير المعقول أن تقبل إبنة العمة المواقعة الزوجية بهذا الشكل السافر في باحة الدار المضاءة سيّما وإن أمها تنام في غرفة مجاورة ووفق تلك الطريقة المثيرة عينها إلا إذا تجردت تماماً من وازع الخجل الاجتماعي واستسلمت كلياً لنداء الغريزة ، بيد إن إمعان النظر في الواقعة يُشير إلى أن الشخصية المُراقبة ( الراوي – البطل ) يذكر معلومة ذات دلالة موحية بأن زوج ابنة العمة هو مدير ناحية وعضو متقدم في الحزب الحاكم ، إذن؛ هو في نظر
الشخصية ينعم بلا حساب في شباب ابنة العمة (( .. ذات الجمال الوحشي .. )) وهو وإن كان زوجها ، فهو بشكل ما مغتصبٌ لهذا الجمال، ولتبيان ذلك يُصوّر  الفعل الجنسي بشكله المُقزز الفاقع والذي لا يًقيم وزناً للأعراف الاجتماعية لأنه يصدر عن فكرٍ فاشي ، وهذا يُذكرنا بشخصية عدنان في رواية (( الرجع البعيد )) للكاتب الراحل فؤاد التكرلي ، فعدنان البعثي يُفسر الروح المرحة لخالته ((منيرة )) وهي تمازحه في إحدى البساتين تفسيرا يُعارض المشاعر السوية من أبن أخت حيال خالته فيغتصبها بشكلٍ وحشي في إشارة من الكاتب الى أن القادمين الجدد عندما يرتكبون فعلا بشعاً كالزنا بالمحارم فإنهم يؤدونه بشهية حيوانية لأنهم عاطلون عن أي قيم أو أخلاق وسيغدو من تحصيل الحاصل اغتصابهم للوطن وناسه على حدّ سواء .

البناء السردي في رواية (( الإرسي )) قائم على معمار فني يستندُ إلى استخدام ضمير المتكلم في حالات البوح والإفضاء والى استخدام ضمير الغائب في الإخبار والإعلام ، وهذا بدوره يؤدي إلى مستويين من الرو ي الذي انقطع في مواطن كثيرة مما سبب إبطاء في إيقاع السرد لأن الكاتب فضل أن يقطع تواتر السرد برؤى أخذت مساحة كبيرة من حجم الرواية ولم تضف توتراً درامياً لأحداث الرواية .
تنطوي رواية الكاتب سلام ابراهيم على وجعٍ ممضٍ يتجسدُ في تلك الجمل الطويلة واللغة الحية والصدق الفني وذلك الاستعمال الفصيح للمحلي من القول والوصف، تلك الجرأة التي قلّما تضمنتها رواية عراقية ، ولعل الجمل المتراكبة تشي برغبة عميقة في قول كل شيء دفعةً واحدة كونها تصدر عن تجربة كبيرة وعميقة .
تحكي الرواية رحلة الألم والأمل الإنسانيين ،فقد نجحت الرواية في إبراز أدق التفاصيل والصراعات والمشاعر الإنسانية لمقاتلي الأنصار (( القوى اليسارية الوطنية التي قاتلت النظام البعثي الفاشي في فترة الثمانينيات )) وأعطت صورةً مختلفةً وقاسية لكنها صريحة عن الضعف الإنساني في حومة الظروف القاهرة ، وكيف تُسحق المبادئ والمثل أمام الرغائب والشهوات ، كيف يخون الرفيق رفيقه ولكنها بالمقابل صوّرت من ضحّوا بحياتهم من أجل ما يؤمنون به من قيم ومبادئ .

تبرز (( الارسي )) دور الحب الإنساني العميق بين الراوي وزوجته خلل الصعاب والمحن التي واجهتهم ولعل أقساها جريمة القصف الكيمياوي وأثره المدمر على الراوي الذي أُصيب به بين من أصيبوا في ذلك اليوم ولقد كان ذلك من بين أروع مشاهد الرواية ، فقد صوَّر بشكلٍ فني الآلام الفظيعة التي عاناها الضحايا جراء الغازات السّامة وذلك التشبث الإنساني الحثيث بالحياة كخيارٍ وحيدٍ وثمين .

عاشت جميع الشخصيات ، المُخبر عنها ، في الرواية هاجس الموت المُلازم وحياة تتأرجح على إيقاع الموت وتتقافز من بين أصابعه ، لكنها عاشت لتروي .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *