مهدي شاكر العبيدي : ذكريات صحفيّة

( 1 )
اشتهر عام 1952م ، بنشاط سياسي ملحوظ وتأثر الوضع العام بما شهدته مصر من تعاقب الحوادث المؤثرة بعد إلغاء حكومتها الوطنية معاهدة 1936م ، وما ترتب عليها من نشوب المعارك مع الجنود الإنكليز في جبهة القنال بالإضافة إلى ظهور حكومة الدكتور محمد مصدق فـي إيران وتصديها لتأميم ثروتها النفطية من استغلال الشَّركات الأجنبية واستنزافها , ممَّا نجم عنه أنْ يسائل العراقيون بعضهم بعضا ً ما لنا نحن نعنو للضَّيم وتهضم حقوقنا , وها هي الشَّقيقات والجارات قد نهضت خفافا ً ولا نستطيع نهوضا ً ونطيق مواجهة لمَنْ يتعسَّفون بمشيئتنا ويتحكمون بأمرنا ؟ ، وكذا تعالتْ هذه الصَّيحة في المجلس النيابي وبلغتْ سمع الحاكمينَ الذين ابتدروا لاحتوائها كما حسبوا , بأنْ دخلوا فـي مفاوضات مع الشَّركات النفطية أسفرَتْ عن جعل الأرباح مناصفة بين الطرفين ,علما ً أنَّ مجموع سكان البلد وقتذاك يقلُّ عن سبعة ملايين فرد بمقدار , وتكفي هذه الزِّيادة لتحسين أحوالهم وإنعاش حياتهم كما توهَّموا , ولم تقبل الصُّفوف الوطنية بهذا الإجراء الذي صودق عليه من قبل أغلبية النواب ، وكان للمسؤولين حُجَّتهم القاطعة ورأيهم الوجيه في التوقف عند هذا الحدِّ من المطالبة بالحقوق المغصوبة .

       وهذا التقاطع في وجهات النظر للمشكلات الوطنية وقضاياها استوحى منه الصُّحفـيون والكـُتـَّاب موضوعاتهم ومداخلاتهم في الشُّؤون السِّياسية والاجتماعية التي ينشرونها في الصُّحف اليومية جاعلينَ منها مدار أحاديثهم فـي المنتديات   العامة , فـضلا ً عن الكلام المملول طوال سني الحكم حول شيوع الفقر والجهل والمرض ، وتقصير المسؤولينَ وتوانيهم في اجتثاث هذه الآفات ، وحسبان مساعيهم لاستئصالها غير ذات شأن في استدبارها كليا ً ، وانشغالهم بدلا ً من ذلك بأمورهم الشَّخصية حيث النهب واللصوصية والاستئثار بالمغانم بشكل بولغ فيه بحيث خـُيِّل للمجتلي أنَّ المجتمع أقفر من العناصر النزيهة المتجرِّدة تماما ً خاصة أنـَّهم شغلوا بالتهيئة والتمهيد لإبرام المعاهدات والاتفاقيات المجحفة مع المعسكر الغربي , ممَّا يلقي الرَّوع في نفوس غالبية الجمهور الذي يتأثر ويستجيب لما يبثه التيار اليساري يوم ذاك من تحذير وتشكيك بنيَّاتهم ومراميهم من وراء تماديهم وتهافتهم بلْ حرصهم على الارتباط بهذا المعسكر في تقرير سياسة البلد وموقفه من الصِّراع الدُّولي , وكذا راجَتْ يومها صحف عديدة تخوض في هذه الدَّقائق ويفسح لها الحاكمون في البداية صدورهم , ويرهفون أسماعهم لتلقي طروحاتها وتعرف منازعها ووجهات    تفكيرها , حتى إذا جاوزَتْ الحد المقرَّر والمرسوم لها من الإعلان والمجاهرة بالرَّأي المخالف عاجلوا إليها بالتعطيل واستهداف ذويها بالمحاكمة ومحاسبتهم على آرائهم المتطرِّفة التي تشيع البلبلة والفوضى في أوساط الناس وما شئتَ من الحجج  والذرائع ، ومن هذه الجرائد التي أقبل الناس على اقتنائها بشغف زائد جريدة          ( العقيدة ) وكانتْ بالأصل مجلة تصدر في النجف لصاحبها فاضل الخاقاني , والمظنون أنـَّه ابن عم ٍ لعلي الخاقاني صاحب مجلة ( البيان ) ومؤلف الموسوعة الأدبية بأجزائها العشرة عن ( شعراء الغري ) وغيرها , وقد انتقلتْ إلى بغداد وتوقفتْ نهائيا ً عن الصُّدور بعد عددها الخامس ـ كما اذكر ـ لتبنيها الشُّؤون المتعلقة بمعايش الجمهور ، ودفاعها عن المظلومين والضُّعفاء ، وعنف لهجتها في تعرية المفسدين ، وفضح جرائرهم والتنديد بمخازيهم ، وكأنـَّها تستفز مكامن ذوي الحل والعقد وتهيجهم وتستدعيهم لإغلاقها ، وكان مديرها المسؤول المحامي محسن ناجي وهو الذي ترافع بعد سبع سنوات في قضية سعيد قزاز المعلومة أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة , ومفاد دفاعه بعد أنْ طالب ببراءته على جاري العادة انـَّه ما تبنى دعواه إلا لأنـَّه جاره في السَّكن , وهذا درس غاية في سمو الأخلاق , وقد علمْتُ بعد سنين أنـَّه توظف معلما ً في شبيبته إبَّان الأربعينيات في أحد أرياف قصبة الهندية وافدا ً إليها من الكوفة , إذ ينتمي إلى أسرة يحمل كلُّ فرد من أفرادها هذا اللقب ( ناجي ) الذي لا يعني قط أنـَّه أبوه , اشتهر منهم شاعر شعبي معروف نسيْتُ اسمه جلسْتُ إليه في السِّتينيات بمقهىً في شارع أبي نؤاس ببغداد ، وأسمعَنا قصيدته في هجاء أستاذ جامعي مشهور استوزر يوم ذاك , واجتليْتُ في ملامحه وسرائره كمدا ً ولوعة جرَّاء تغييب ولده المكنى ( أبو زمان )  في أعماق السِّجن أو التشريد ، وكان صاحب مكتبة في الحلة ، وبعد خمس سنين التقيته في شارع الرَّشيد حيث سلم عليه المرحوم سليم طه التكريتي صاحب جريدة ( العصور ) المحتجبة منذ نهاية عام 1948م ، محبذا ً قصيدته التي يندب حظه فيها قائلا ً :ـ ( يا حيف والله ما صرت تكريتي ) ، وترتب على انتشارها في المحافل والنوادي أنْ أرسل في طلبه أحمد حسن البكر , فكان جوا ً من الظرافة والتفكه فيما علمْتُ ؛ فأمَّا الجريدة الثانية فقد تمهَّل الحاكمون في مصادرتها قرابة ثلاثة أسابيع وتسمى ( الوعي السِّياسي ) أصدرها أحد أنجال الشَّاعر عبد الرَّحمن البناء , تبنتْ قضية الدِّفاع عن السَّلام العالمي وحاجة الشُّعوب إلى الدِّعة والاستقرار , ولا مراء إنْ كان من كتابها شاب يدعى حسن وداي , اعتقد أنـَّه نجل وداي العطية مؤلف كتاب ( تاريخ الديوانية ) , كان وقتها محاميا ً أو طالبا ً في الحقوق , مرَّ بعد ذلك بأزمة من أزمات الرَّأي والنظر إلى الأفكار والعقائد ، واستغرق في تمحيص التيارات والأميال ، وأطال التردُّد في ترجيح واحد منها , وانقطع بصورة مطلقة عن الأوساط العامة , غير أنـِّي أبصرته مغادرا ً سراي الحكومة بعد سنوات في قصبة الهندية بصحبة حميد خلخال فاستغربْتُ من ذلك , والأخير عُيِّن وزيرا ً في حكومة 1963م ، ثم توفاه الله .

وعن جريدة هاشم البناء ( الوعي السِّياسي ) فإنَّ محرِّرها الحقيقي كما قيل هو الرَّاحل محمد شرارة الذي يشتغل مديرا ً لإحدى السِّينمات بعد إقصائه عن التدريس , بدليل أنـَّه جازف – أي هاشم البناء – بنشر أحد مؤلفات عبد الرَّزاق الحسني كما يزعم الحسني نفسه في قائمة مؤلفاته غير مرَّة ، على أنَّ من جملة ما نشرته ( الوعي السِّياسي ) خطبة الشَّاعر رشدي العامل طالب الإعدادية في الرُّمادي الذي قصد العاصمة للمشاركة في مهرجان خطابي للطلاب أقامته وزارة المعارف يومذاك بصحبة مدرس اللغة العربية , وعنوان الخطبة ( مقبرة الأحياء ) ، وقد حازَتْ المرتبة الأولى بإجماع المحكمينَ من أدباء البلد وفي مقدِّمتهم :ـ مصطفى جواد ، ومحمد بهجة الأثري ، ومعهما المربي عبود زلزلة , تغمد الله الجميع برحمته الواسعة , وكان مقر هذه الصَّحيفة التي تعطلتْ عن الصُّدور بعد ذلك لتنديدها بالأوضاع العامة وفرط جرأتها وصراحتها خلف عمارة الرُّصافي ـ التي شُيِّدَتْ فيما بعد ـ حيث يمتهن صاحبها الأعمال التجارية والقوميسيون , وكذا يتشعَّب الحديث عن جرائد الزَّمن الماضي , فنستطرد إلى خفايا ومتفرِّعات لا تخلو من شجون وطرائف في وقتٍ معا ً  .

*********

( 2 )

أدركتُ الصُّحف العراقية التي يصدرها أصحابها بأربع صفحات من القطع الكبير غير أنـَّها تطالع قرَّاءها صبيحة كلِّ يوم مكتنزة بالأخبار المثيرة عن الشُّؤون والحوادث التي تقع في شتى جنبات الأرض ، وحاوية على التعليقات الطريفة المتصلة به إلى جانب المقال الافتتاحي المتضمِّن رأي كاتبه والوقائع الجارية على أديم الوطن وحياة الجماعات العائشة في رحابه في صفاء وألفة آنا ً أو في تباعد واختلاف في النظر إلى طبيعة الأشياء آنا ً آخر ، دون أنْ يغفل محرّرُها عن أهمية المقال المترجَم وغالبا ً ما يمسُّ المصالح الاقتصادية وقضايا السَّاعة التي يشهدها العالم ، فتستعين الجريدة بمترجم عن اللغة الإنكليزية غالبا ً ويجيد التعبير عمَّا يقرؤه من أفكار ورؤىً في الدَّوريات والمطبوعات التي ترد إلى البلاد في ندرةٍ وإقلال آنذاك .

فأمَّا صفحة المحليات فمكرَّسة لحوادث الشُّرطة أي لوقائع السَّطو والسَّرقات ممَّا لا يخلو أي مجتمع منها مهما قطع من الرُّقي والتحضر شوطا ً ، أو بلغ أبناؤه قدرا ً أو درجة من الاستقامة وزكاء النفوس ، وثمَّة إعلانات مقتضبة عن مكاتب المحامينَ وعيادات الأطباء وقدوم بعض الوجهاء والتجار إلى العاصمة لإنجاز أعمالهم وأشغالهم ، ويكلل هذا النبأ عادة بعبارات خاصة للترحيب والحفاوة بمقدِّمهم بحسب ما يغدقونه على الصَّحيفة الناشرة ويسخون به من مال ، فقد كانتْ وسائل المواصلات يومذاك ولحدِّ سني الأربعينيات ليسَتْ من الوفرة كما هي اليوم ، وحتى الطرق بين المدن تبدو متوقفة ولا تصلح البتة لاجتيازها وسلوكها والسَّير فيها بمجرَّد هطول الأمطار ، فليس في تفضيل التاجر الوجيه للإعلان عن مكوثه ببغداد بضعة أيَّام  أمرٌ باعث على الدَّهشة والاستغراب أو داع ٍ للابتسام والضَّحك .
غير ما تنطوي عليه افتتاحيات الصُّحف جملة من تحليلات وتفسيرات شتى للحالات والظروف والشُّؤون المحيطة بمشكلات الوطن وطموحات ذويه إلى الرِّفعة والسَّعادة كلّ ينطلق في تحبيره وكتابته من وجهات تفكيره هو عن مكنونات صدره ووجدانه ، مُبَرَّأ من الدَّخل والتغرُّض ، خلوا ً من الاحتذاء والتقليد والمواكبة والمسايرة والمجاراة ، يضعنا بمواجهة أطياف متنوعة من المعارضة أو مكاشفة الحاكمينَ بهناتهم وزلاتهم لا سِيَّما أنَّ تلك المقالات الافتتاحية جاءَتْ مصبوبة مفرغة في قوالب وصياغات وأساليب هي الغاية في البيان والطلاوة والقدرة على الإقناع ، وما كانتْ إلا نتيجة تأثر الصُّحفيينَ العراقيينَ الأوَائل بإخوانهم المصريينَ الذين لم يدخروا وسعا ً في تدريب سلائقهم واستيفاء أدواتهم .

فما نزالُ نستذكر كتابات روَّاد الصَّحافة العراقية على تباين منطلقاتهم وموحياتهم ، أمثال :ـ سلمان الصَّفواني ، وعزيز شريف ، وعبد الفتاح إبراهيم ، وكامل الجادرجي ، وناظم الزهاوي ، والجواهري ، وعبد الرَّزاق الظاهر ، ومحمد رضا الشّبيبي ، وغيرهم .

لكن منذ أنْ طرأ على الصَّحافة العراقية ما نسميه فن المقابلات أو اللقاءات الصُّحفية وصار الصُّحفي معها لا يقرأ ، تدنتْ لغة الصَّحافة وركدَتْ واعترتها الرَّكاكة والسَّفسافية ، وغدَتْ مقتصرة على ألفاظ جاهزة وقوالب محفوظة نلفيها ماثلة في كلِّ مداخلة أو تعليق أو تغطية لافتتاح مشروع ، وما إطناب صحفيينا في آلاء العهد السَّابق حتى أمس القريب ، بغائب عن مخيلاتنا وأذهاننا ، حيث تنافسوا وتباروا في تمجيد الطاغية الحاكم وتبرير حروبه الجهنمية مغضينَ عن أوزاره وحماقاته .

********

( 3 )

منذ أنْ أصدر الصُّحفي العراقي الأستاذ حميد المطبعي مجلته أو دوريته الموسومة ( الكلمة ) ، حتى شاع بين المثقفينَ وشداة الأدب مصطلح ( السِّتينيات ) ، ذلك أنـَّه آثر في تحريرها والكتابة لها نخبة من الشَّباب الطالع أيَّامذاك في النصف الثاني من العام 1967م ، دون سواهم من الأدباء المعروفينَ والمحسوبينَ على تاريخ فائت ومنطو ٍ قبله ، مخيلا ً لذاته أنـَّهم يحدثون نقلة ملحوظة في الآداب العربية تواكب ما تمرُّ به الأمة العربية وتتعرَّض له من رزيئات وأهوال .

والأغرب أنْ كـُتِبَ لهذه اللفظة ـ السِّتينيات ـ أنْ يولع بها ويشغف سائر المثقفينَ في الدِّيارات العربية الأخرى ، ويستدلون بها في أحاديثهم ومحاججاتهم الأدبية ، واجترؤوا منها على تصنيف عامة الناس بين رجعي وتقدمي ، خاصة المشتغلينَ بالقضايا العامة ، تبعا ً لما يدينون به من رأي ويعتنقونه من فكر ، دون أنْ يشوموا ثمَّة فجاجة في الاستفسار أو الاستفهام بشأن أفكار بعض الأعلام الذين لولا جهودهم وتضحياتهم في الفترات الماضية لما تأسَّس هذا الكيان الذي يبتغون هم بدورهم إعلاءه ورفعته وتوطيده وجعله أكثر رسوخا ً ومتانة .

ينسحب هذا الحكم على رواد الشِّعر العربي في العراق ممَّن ترجم لهم روفائيل بطي وعني بتحليل نتاجاتهم الثرَّة في كتابه المشهور ( الأدب العصري في العراق ) في جزئه الأوَّل ، وضمَّنه نصوصا ً وشواهد منه تحكي نبوغهم ومكنتهم من التصوير ، أمثال :ـ الزهاوي ، وعلي الشَّرقي ، وكاظم الدجيلي ، وغيرهم ممَّن وقفوا بوحه الرَّجعية والعادات المتخلفة وانتقدوا مفاسد الحكم ، وسوءاته فإن تسأل عن أفكارهم ونوازعهم وآفاقهم العقلية يتبدى أنَّ سؤالك في غير محله ، وجدير بالطيِّ وأنْ لا تنبس به أصلا ً .

وكذا درج الرِّجال الافذاذ في الجيل الماضي على ممارسة شتى الأعمال التي يتوخون بها نهضة بلادهم ورقي مجتمعهم ، ومن ذلك ما لجأ إليه الشَّاعر الحاج عبد الحسين الازري من تطليق التجارة وتجريب تفوقه في الصَّحافة ونجاحه في السِّياسة منصرفا ً لذلك بدوافع تصطرع في نفسه ، فاصدر صحف :ـ ( المصباح ) ،           ( مصباح الشَّرق ) ، ( المصباح الأغر ) ، و ( الروضة ) ؛ ويكتنه جعفر الخليلي ويستقري ” انـَّه من كثرة استعماله كلمة المصباح وتعلقه بالإضاءة نعلم أنَّ هنالك دافعا ً من العقل الباطن يدفعه إلى إمعان النظر في الظلام الذي يكتنف الشَّعب العراقي بحيث أصبح في اشدِّ الحاجة على النور ، فكانتْ هذه المصابيح التي دافع فيها عن حقوق المظلومينَ وشجب فتك الأقوياء من الناس والحكام بالضُّعفاء ”   .

ونعود إلى جيل السِّتينيات الذين يحرصون على المعاصرة في لقياتهم الأدبية ويزهدون في الاستدلال بأسماء الأعلام والجهابذة في تاريخهم الثقافي ، ويخالون في ذلك تخلفا ً ونكوصا ً عن مسايرة العصر بينا لا يتورَّعون عن إقحام أسماء الغربيينَ في سياق كتاباتهم ، وقد مضَتْ عليهم دهور وأعصار ولا يجدون في فعلتهم هذه إثما ً قبيحا ً وشنارا ً فظيعا ً ! .

لأنَّ أفكار بني جلدتنا غاية في الارتجاع والجمود ، ولو أنـَّهم معدودون في التراث القريب ، وإنَّ أفكار غرمائهم والذين هم أدباء الدَّرجة الثانية في ثقافة أوربا ، منتهى ما يتوق له النابتة هناك من النضج ، والسَّداد والتألق ، حتى لو درجوا منذ عصور وأزمان بعيدة ، قال الشَّاعر عبد الحسين الأزري :ـ

وفسادُ هذا الناس رؤية بَعْضِهم       للآثِمِيْنَ كـأنـَّهـم لـمْ يأثــَـمُـوا

********

ومفاده أنَّ الشَّر سيعم والبلاء سيطغى والاختلال في القياس سيغلب ما دام الناس لا يعترضون على إساءة المسيء ، ويدعونه رهن ما يجترح من إثم ٍ ، ويقترف من موبقة ، في رأي ٍ يراه أو وجهة نظر يعتنقها .

********

( 4 )

أرى أنَّ التمييز والتفريق معدومان أصلا ً بين الصَّحافة والأدب لا سِيَّما إذا كان الكاتب الأديب مواظبا ً على النشر في الصُّحف اليومية أو المجلة الأسبوعية وحتى الشَّهرية وإنْ لم يلزمه سنن في الحضور الدَّائم واللبث المستديم في مقراتها جميعا ً ، شأنه فذلك شأن الصُّحفي ، ملتقط الخبر ومجري التحقيق أو المقابلة مع الأقطاب المتمرِّسينَ بالسِّياسة والخبراء في شؤون الاقتصاد والتربية والاجتماع ، فلو احتكمنا إلى ذمَّة الحق واستندنا إلى قياس صحيح في تقييم الأشياء لعددنا كلَّ أديبٍ في هذا الخط أو ذاك الطراز صحفيا ً متمرِّسا ً كما كنتُ ألقن تلاميذي به في حجرات الدَّرس في أمس البعيد إنَّ كلَّ عثماني تركيٌ وليس كلُّ تركي عثمانيا ً ، والمقصود بات  واضحا ً في غير حاجة إلى شرح وتبسيط .

أتيح لي إبَّان فترة من الزَّمن أنْ أعمل مشرفا ً لغويا ً في إحدى الصُّحف العراقية المحتجبة اليوم وكان الأمر من اليسر والسُّهولة بحيث لا يحوجني إلى قراءة مصنفات من قبيل ( النحو الوافي ) لعباس حسن ، أو ( جامع الدروس العربية ) لمصطفى الغلاييني ، أو الاستئناس بـ ( شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ) بتحقيق المرحوم محمد محيي الدين عبد الحميد الذي وجدْتُ توضيحاته من السَّهل الممتنع بين أساليب البيان المبسِّطة لقاعدة نحوية أو صرفية ما ، ولعلَّ هذا سرُّ ما يوفق إليه نبهاء الطلاب الدَّارسين في كلياتنا الأدبية من اجتراء على مواصلة تحصيلهم الأكاديمي الذي يتطلبهم إعداد دراسة علمية بعد طول مراجعة وتمحيص في المظان والمصادر ينبرون لها وكلهم ثقة واعتداد ، علما ً أنـَّهم لا يتبَّجحون بأنـَّهم أدباء   أصلا ً ، قلتُ إنَّ الأمر استدعى منـِّي مجرَّد إطلاع يسير على مرفوعات الأسماء ومنصوباتها ومجروراتها وكذلك المبني منها ونفس الحال بالنسبة للفعل المعرب منه والمبني ، مع إلمام لا مندوحة عنه بقواعد رسم الهمزة وأصوله في وسط الكلمة وفي الطرف منها ممَّا يحتاجه المتعلم البسيط .

وعندي أنَّ أفضل من هاته المتطلبات كلها أنْ يستأنس المرء بذوقه وسليقته في فهم التعابير واكتناه المقصود منها وبها مستفيدا ً من قراءاته السَّابقة للنصوص الأدبية المتسمة بالقوَّة والمتانة والأحكام ، مستهديا ً بطرائق كاتبيها في إقامة أوضاع الكلمات في سياقاتها وتثبيتِ دلالاتها على التذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع ، وهذا المستوى من الدِّراية والفهم لا يتأتى لأحد إلا بكثرة الممارسة والاشتغال أو المعايشة بلغة المحدثينَ .

لكنَّ ما امتلأتْ نفسي فرقا ً منه ذات يوم وكدتُ أزهد جرَّاءه بالأدب وثمرات الأقلام ، وأجنح بدوري إلى توقير كلِّ مشتغل في السُّوق ، مجلا ً ما يسديه من خدمة لعامة الناس على ما يضطر إليه أحيانا ً في معرض اعتراكه على الفلس من مكر وحيلة ومداهنة ، هو أنـِّي مُنِيْتُ ببعض الأساتذة من ميسوري الحال يغشون مقرَّات صحفنا مزاحمينَ بكتاباتهم المتكلفة ذات الخط الرَّديء والأداء المسفِّ والإخلال بالقاعدة النحوية المقتضاة ، قلتُ أنـَّهم يزاحمون الأدباء الحقيقيينَ على المكافأة والشُّهرة معا ً ، وإلا يهون عليَّ مرَّة أنْ يكتب أحدٌ سهوا ً ( نساها ) والمقصود         ( نسيها ) ، أو يغفل تنوينا ً في ( عاد حزينا ) ، أو يخط ويرسم ( يبتدأ ) !! ، ولا بُدَّ في هذه الحالة من التصويب وترجيح الصَّحيح من الأصول والقواعد ، غير أنـَّي استهجن جدا ً من دافع عن أطروحته في حرم جامعي ، وهو لحد هذه الأشواط التي قطعها من العمر يرسم تاء التأنيث السَّاكنة على حرف العلة الياء في ( جاءَتْ ) ـ     ( جائت ) ! وحقها أنْ تجيءَ منفردة !! .

********

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *