د. عـاطـف السـيد بهجـات* : انشطار الذات في ديوان (تأبط منفى) لعدنان الصائغ
جَدَل الرؤية وآلياتُ التشكيل

أستاذ النقد الأدبي الحديث المشارك
بجامعتي: عين شمس والطائف

(وقال لي: “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”)
                                                                    النـِّفـَّري
الموقف الثامن والعشرون من كتاب المواقف – طبعة أرثر يوحنا أربري مكتبة المتنبي – القاهرة – بدون – ص 51.    

مقدمة
       شهد الشعرُ العربي المعاصر التفاتةً من الشعراء لذواتهم؛ استجابةً للجدل الناشئ داخلَ الذات من جهةٍ، وبين الذاتِ وعوالمها الخارجيةِ المتباينة من جهةٍ أخرى. فكأن الذاتَ الشعرية لم تعُدْ ذاتاً واحدة، بل انشطرت ذاتَين، أو توزعت ذواتاً كثيرة؛ نتيجةً للتغيرات الكثيرة المتلاحقةِ على مستوى العالَم، التي تنعكسُ في الوقت ذاتِه على بيئتي الشاعر: الخاصةِ والعامة.
     لقد أدى ذلك إلى نشوءِ جَدَلين شعريين على مستوى القصيدة العربية المعاصرة:
       – الجدل الذاتي، الذي تصطرع فيه الذات، ويتمخض عنه دفقةٌ من المشاعر المَوّارة مثل: القلق، والتمرد، والتشتت، والخوف، والانكسار، وغيرها.
– الجدل الجمعي، الذي تتصارع فيه الذات مع بيئاتها المختلفة على مستوى: الجماعة،       والعالم. وهذا الجدل ينشأ معه: تصارع، ودونية، وإحباط، واكتئاب، وغيرها. ويمثل هذان النوعان من الجدل المحورَ الأول، وهو رؤيةُ الشاعر لذاته ولعالمه، وسوف يُجرى البحث حول الجدل الذاتي فقط؛ اتساقاً مع العنوان – في ديوان (تأبط منفى ) للشاعر العراقي عدنان الصائغ.
أما المحورُ الآخر فيتمثل في آلياتِ التشكيل، وهي الإطار الشعري الذي يكتنز داخله جدلُ الرؤيةِ، حيث يعتمد الشاعر في إبراز هذا الجدل على طاقات اللغة التعبيرية المتمثلة في: ضمائرها، و أفعالها، وتراكيبها، وأساليبها. كما يعتمد على الإشعاعاتِ الإيحائية غيرِ المسبوقة للتراكيب اللغوية حسبَ سياقها.
والصائغُ صاحب تجربةٍ شعرية تفي بفكرة البحث؛ حيث خاض صراعاً مع السلطة أدى إلى هروبه من العراق عام 1993، ومصاحبتِه حياة َالمنفى في بلاد كثيرة حتى استقر به المقام في لندن*.
ويتناول البحثُ آلياتِ التشكيلِ عَقبَ طرحِ الرؤية في موضعها؛ لكونِها لا تنفصل عن أسلوبها، ولعرضِ وجهةِ النظر الشعرية كاملةً – بمظهرِها  وجوهرها -؛ عملا على عدم تفتيتها، ومحاولةً لاستقصاءِ جوانبها، وإبرازاً لوحدةِ الرؤية – جدلاً و تشكيلاً – في موضعٍ واحد.
و لمّا لم يكن الغوصُ في علم النفس، أو الفلسفة – مقصوداً لذاته، كذلك لا يجب إهمالُه؛ فقد عالج البحثُ المفاهيمَ النفسية والفلسفية في موضعِها؛ عملا على ربطِ النص الشعري بخلفيته المؤسِّسةِ له.
والديوان – في معظمه – نصوصٌ قصيرة ذاتُ رؤية عميقة، إضافة إلى بعض النصوص الطويلة، والمطولة “أوراق من سيرة تابط منفى” التي جاء منها عنوان الديوان، وسوف يجرى البحث على النصوص القصيرة، لما فيها من تكثيف للرؤية، وتصوير للمعاناة؛ انطلاقا مما قاله الصائغ عن إبداعه “أنا الميال غالباً إلى قصر القصيدة، و تكثيفها إلى أقصى حد”**
وقد أُجريت دراسةٌ أكاديمية حول شعر الصائغ بعنوان (شعر عدنان الصائغ، دراسة فنية. قدمها الشاعر العراقي عارف الساعدي لقسم اللغة العربية في كلية التربية بالجامعة المستنصرية في بغداد 2006م، ثم صدرت بعد ذلك كتابا تحت عنوان: (شعرية اليومي، دراسة فنية في شعر عدنان الصائغ) – منشورات تموز 2007م. إضافة إلى حوارات ومقالات صحفية تناولت حياته وإبداعه –  سيَردُ ذكرُها في ثـَبت المصادر والمراجع إن شاء الله.
و جاء البحثُ في ثلاثِ نقاطٍ بحثية هي:
أولاً:  مصطلحات مؤسِّسة.
ثانيا: العنوانُ بنية ُالذات.
ثالثا: جدلُ الذات، رؤية ًوتشكيلاً.
أخيراً: خاتمة.
ثم ثبت المصادر و المراجع.
والله الموفق إلى سواء السبيل..

أولاً: مصطلحات مؤسِّسة
1-    الانشطار
جرى العرفُ اللغوي على أن الدالَّ (الانشطار) محددُ المدلول في الانقسام إلى شطرين (نصفين)، إلا أنه يزخر بحمولاتٍ دلالية تربو على ذلك، فلا يقتصر معناه على التناصف، بل يتعداه؛ حيث يقول ابنُ فارس في مقاييس اللغة: (الشين والطاء والراء أصلان يدل أحدُهما على نصف الشئ، و الآخر على البعد  والمواجهة)(1)
إن الذاتَ في انشطارها ذاتين لا تعدَم أن يواجـِه بعضُها البعض الآخر. والمواجهة إن كانت تحمل قـُرباً مادياً ناتجاً عن التلاحم، فإنها تحمل بُعداً نفسياً، يتمثل في ابتعاد شطريها عن بعضهما؛ ما يؤدي إلى هوةٍ نفسية، يتمخضُ عنها قدرٌ من تنافرٍ، يؤدي إلى غربةِ الذات عن نفسها وعن المجتمعِ؛ فتؤْثِرَ الابتعادَ (الشَّطر يعني البُعْد)(2) كذلك فإن الذاتَ في مواجهتها الآخر، ربما تكون بعيدة ًعنه نفسيا  وفكرياً؛ ما يؤدي إلى حراكٍ جدلي صراعي بين الذات والآخر، حيث ينظرُ كلاهما إلى غيره، على أنه غريبٌ عنه؛ بحكم اختلافِ الذوات عن بعضها أكثرَ من اتفاقِها؛ فيصبحَ الآخرُ بالنسبة للذات (شَطِيراً)، أي غريباً – كما قال اللسان والقاموس والصحاح (الشطير: الغريب)(3).
والذاتُ في تعاملها مع الآخر، تتلاحم مع أكثرَ من شطير، الأمرَ الذي يؤدي إلى إعادة النظر في مدلول الانشطار، من حيث كونِه لا يدل على النصف فقط، ولكنه يدل على البعض أيضاً؛ حيث قال القاموس (الشَّطر: نصفُ الشئ و جزؤه)(4)، ولعلنا إن تجاوزنا الأدبَ والنقدَ إلى مجالِ العلم التجريبي، وتحدثنا عن الانشطار الذري مثلاً، فكلنا نعرفُ أنه يحمل معنى التفتت الضئيل جداً الناجمِ عن شدة الانفجار، هكذا الذاتُ تعيشُ مرحلةً من الانفجار قبل الانشطار، وإذا انشطرت تفتت ذاتياً، وتوزّعت في علاقتها مع نفسها ومع الآخرين.

2-    الجَــدَل
يُعرفُ الجدلُ في معناه العام بأنه “عملية ُصراعٍ يتبادل طرفاها المتضادان التأثرَ والتأثيرَ، على نحوٍ يُغيِّر من كليهما على السواء، ويُفضي إلى مُرَكب ثالث يصبح – بدوره – طرفاً في عمليةِ صراعٍ جديدة مع طرف يقابلُه على المستوى الفكري والاجتماعي… الخ، ومن منظورٍ يغدو معه التناقضُ بمثابة المبدأ الرئيسي للجدل”(5)
الجدلُ إذن حوارٌ قائم بين طرفين: شطرى الذات، أو الذات وغيرها. وقد لا يهدُفُ إلى نتيجةٍ، بقدر ما يهدفُ إلى إثباتِ الذات، أو تسجيلِ موقفٍ؛ لأن التناقضَ أو الاختلاف هو عمادُ الجدل. وليس المركبُ الثالث الناشئ عن عملية الصراع إلا مركبٌ متجدد، و تجددُه هو الذي يمثل الثباتَ على الموقف، والتناقضَ القائم بين الطرفين.
ومن شأنِ هذا الجدل أن يقيمَ حواراً يتسمُ بالاختلاف في  الرؤية، أكثرَ من الاتفاق بين المتجادِلِين. فالجدلُ يحمل في طياته معنى الصراع، (الجَدَل في اللغة تعني الصَّرْع)(6)، وكأن كلَّ طرفٍ من طرفي الجَدَل، أو أطرافه يريد أن يصرع غيرَه فكرياً؛ فتتولدَ ثنائيةٌ تناقضيةٌ من الغَلَبة والانهزام، يكون لها أثرُها على كلا الطرفين – إيجاباً وسلباً –.
ولو كان ذلك على مستوى الذات، فإنها تعيش صراعاً داخلياً بين ما تريدُ، وما هو كائنٌ، الأمر الذي يؤدي بها إلى حالة من الجَدَل الداخلي، أو جَدَل الذات، فتعيش لحظتي الانهزام والانتصار في آن واحد، وبذلك لا يتحقق الوجودُ الكاملُ للذات؛ لأن أحد شطريها / المنهزم قد اختفى – مؤقتاً – من ساحة الجَدَل، وأصبحت بذلك ذاتاً ثلاثية الأجزاء – بعد تولد المركب الثالث : مصطرعة – منهزمة – منتصرة، بعضُها يجْلِدُ بعضَها، ولا يخفى علينا أن حروف جـَدَل هي ذاتها حروف جَـلـْد، ويأتي تتابُعُ الحركات في الجَدَل مصوِّراً حركية َالقول، وتجاذبَ الأطراف، بينما تأتي الحركة ُالمتبوعة بالسكون في الجَلـْد تصويراً لحركية شطر الذات أو جزئها المنتصر في الحركة، واستسلام شطرها أو جزئها المهزوم في السكون.
ولا يخلو الجَدَل من لَدَدٍ و شدة، يتمثلان في انحيازِ كل مجادلٍ لرأيه على حساب رأي غيره، وهو ما لا يؤدي إلى نتيجةٍ في الغالب؛ لأن كلَّ طرفٍ يدافع عن رأيه باستماتة (الجَدَل تعني الَّلدَد في الخصومة والقدرة عليها)(7)، وبذلك نصبح أمام خصومةٍ فكرية أو صراعٍ فكري متعددِ الأطراف، كلُّ طرفٍ يحتفظ برأيه كما هو، لا يَحيد عنه، ويُحكم حجته في ذلك دون أن يخالط رأيَه رأيُ الآخرين (الجَدْل والجِدْل تعني: شدة الفتل، وعدم الانكسار، وعدم اختلاط الشئ بغيره)(8).
هذا الحراكُ الجدلي – إن صح التعبير – بين الذات وغيرها من شأنه أن يخلُقَ صراعا قد يدوم؛ لعدم تخلي كل طرف عن قناعاتِه، الأمرَ الذي يؤدي إلى صراعٍ بين الذات وغيرها فيما نصطلح عليه بالجدل الجمعي.
ولكلا الجدلين: الذاتي  والجمعي نواتجُ نفسية وفكرية تـُسيِّر حركةَ الإبداع، وإن كان البحثُ سيقتصرعلى ما تناوله الشاعر في جدل الرؤية مُعبِّراً عن الذات، وهي تعيش الاصطراع.
3-    الرؤية
تتباين الرؤية ُعن الفكرة في أن الثانية أكثرُ تحديداً في مفهومها، و تمثلُ في معناها النقدي “تمثلاً أصبح آليا، ومفصولاً عن أصله الحقيقي، نحصل عليه، ونأخذه كمبدأ أول مؤسِّسٍ للواقع في حد ذاته”(9)، بينما تتميز الرؤيةُ بأنها ذاتُ نسقٍ متماسك. والمصطلحُ في أصله يعود إلى لوسيان جولدمان، عندما قدم  في كتابه (تأصيل النص) تعريفا للرؤية، حيث قال: “إن الرؤية َالكونية هي بالضبط تلك المجموعة ُمن التطلعات والأحاسيس والأفكار، التي تجمع أفرادَ فئةٍ ما (وغالباً ما تجمع طبقة اجتماعية)، وتجعلُهم يناوئون المجموعاتِ الأخرى”(10).
إن الرؤيةَ ذاتُ صلة بالفِكرِ أكثرَ من كونها ذاتَ صلةٍ بالفكرة. فالرؤيةُ تُـبنى من مجموعة معطيات أو أفكارٍ قد تكون واقعيةً أو مجردة؛ من أجل الوصول إلى تصورٍ عام. الفكرةُ إذن أساسٌ للرؤية، أو أنها مجموعةُ أسسٍ منفصلة، تجدلُها الرؤيةُ في نسيجٍ واحد. وتبقى الفكرةُ مجردَ فكرةٍ لا قيمة َلها، إن لم تنتظمها رؤيةٌ قابلةٌ للتحقُّق، فالفكرة في معناها العام الذي يراه ديكارت “تمَثـُّلٌ ذو طابعٍ ذهني”(11)، وكل ما كان في الذهنِ يبقى حبيسَ رأس صاحبه إن لم يمتلك القدرةَ على الطرحِ، والتواصلِ مع الآخرين.
تتميز الرؤية ُبشموليةِ النظر إلى محيطها، والقدرةِ على التعامل معه في إطار من العلاقات المتشابكة .كما أنها بشموليتها، واتساعِ رقعتها ينتجُ عنها حراكٌ فكري: داخل الذات، أو خارجها، وهي بذلك أنسبُ لطبيعة الجدل، حيث إن الجدلَ الذي يهدف إلى إثبات الذات – قد تتمخض عنه رؤية ٌتعبر عن تلك الذات، وتبلورُ مواقفـَها إزاء قضاياها الخاصة، وقضايا مجتمعها، فتصبح منظومةُ أحكامها ومعرفتِها منظومةً قـِيمية، لا ترجعُ إلى شيء بقدر ما ترجعُ إلى الذات المدرِكة.
وكون الرؤيةِ مرتبطة ًبالجماعة، لا ينفي ارتباطَها بالفرد؛ حيث أشار جولدمان إلى أن “الشعورَ الجماعي لا وجود له إلّا داخل الشعور الفردي لكل إنسان”(12).
تتشكل الرؤيةُ إذن بناءً على قناعات ذاتية – قد تخطئ، وقد تصيب -، مثل رؤية الذات للمفاهيم المجردة: الحق – الخير- الجمال – الصدق -… الخ. أو بناءً على موقف جمعي يـَمَسُّ الذاتَ بشكل أو بآخر مثل القضايا المجتمعية كالفساد – البطالة – الانتماء… الخ.
وفي الرؤيةِ يمارسُ المرءُ حريتَه في التفكير، واتخاذِ المواقف، دون عوائقَ تمنعُه من ذلك في صورةٍ من صور تـَحَقـُّقِ ماهية الذات وكينونتِها، وتصبح الرؤيةُ في هذه الحالةِ مرادفاً للوجود. وهذا ما يفسر الاستماتةَ في الدفاع عنها، وحُـميا الجدلِ إزاء مناوئيها.
والتعبيرُ عن الرؤية يختلفُ باختلاف طبيعة الشخصية. وأظهرُ أشكال التعبير عن هذا الاختلاف هو الصراع: مادياً كان أم فكرياً. وفي الأدب يشيع الصراعُ الفكري، الذي يتسمُ بالجدلِ أكثرَ مما يتسم بالحوار والمناقشة، مما يطبع الأدبَ بصورةٍ من السخرية والغرور أحياناً كثيرة. ولنا فيما قرأناه، وعرفناه عن النقائض في العصر الأموي تجسيدٌ لهذه الصورة. هذه النقائضُ التي تعبرُ عن رؤيةٍ جمعية، تتجلى في رؤيةٍ ذاتية للفرد/ الشاعرالممثلِ للجماعة وينضوي تحت لوائها أكثرَ مما ينتسبُ إلى نفسه، والصراعُ فيها تجسيدٌ لفكرة المناوأة التي أشار إليها جولدمان. ولا تخفى علينا – في العصر الحديث – المعاركُ الأدبية الناشئة عن رؤيةٍ ذاتية محض، ومنها – على سبيل المثال – معاركُ طه حسين الأدبية في أكثرَ من مناسبة(13)، وكذلك معاركُ لويس عوض في أكثرَ من اتجاه(14).
وتكاد الرؤيةُ – في خصوصيتها – تتماهى مع الذات، حيث إنه من الثابت في علم النفس أن رَدَّ فِعْلِ الذات تجاه المواقف لا يتحددُ وفقاً لطبيعة الموقف، ولكنه يتحددُ وفقا لمفهوم الذات عن الموقف(15)، وما هذا المفهومُ إلّا رؤيةُ الذاتِ الخاصة لما يتحقق وجودُها به، وتقفُ على الواقع من  خلاله، وتستطيع بواسطته أن تجابِهَ العالم مِن حولها(16).

ثانياً: العنوان بنية الذات
يتجاوزُ عنوانُ الديوان كونَه تركيباً لغوياً، إلى كونِه بنية ًدالةً على الذات، تمثل إزاحة للاسم الحقيقي لصاحب الديوان، وتحلُّ محلَّه؛ ليصبحَ هذا اللقبُ علامة للشاعر، تستدعي إلى الذهن واحداً من الشعراء العرب القدماء الصعاليك من فئة المتمردين هو: ثابتُ بنُ جابرٍ الفهمي، الذي أزاح لقبُه (تأبط شرا) اسمَه؛ فصار الكثيرون لا يعرفون إلا اللقب.يقال “جاءني تأبط شراً تدعُه على لفظه لأنك لم تنقلْه من فعلٍ إلى اسم، و إنما سميتَ بالفعل مع الفاعل رجلاً فوجبَ أن تحكيَه ولا تغيرَه”(17). ولعل هذا الوجوبَ الذي أشار إليه ابنُ منظور دليلٌ على إزاحة اسم الرجل؛ فصارت بنيةُ الجملةِ اسماً بديلاً حلّ محلّ الاسم الأصلي.
وبنيةُ عنوان الديوان (تأبط منفى) تشهدُ تماسّاً مع الصعلوك القديم في ظاهر التركيبِ من ناحية، وفي تكرار الفعل (تأبط) من ناحية أخرى. هذا الفعلُ الذي يدلُّ على المصاحبة والالتصاق، وليس بعيداً في تأسيس متنه اللغوي عن تأبط شرا “تأبط الشئ: وضعه تحت إبطِه وبه سُمّي ثابت بنُ جابر الفهمي لأنه، كما زعموا، كان لا يفارقُه السيف، و قيل: لأن أمَّه بَصُرَت به وقد تأبط جَفِيرَ سِهام، وأخذ قوماً فقالت: هذا تأبط شرا، وقيل: بل تأبط سكينا وأتى ناديَ قومِه فوجأ أحدَهم فسُمي به لذلك”(18).
نحن إذا أمام شخصية تراثية ارتبط اسمُها البديلُ بالشر، واستدعاها عدنانُ الصائغ في بنية العنوان في حالةِ استبدالٍ ظاهري للتمييز، حيث استبدل (منفي) بـ (شرا)، وهذا الاستبدالُ عنده لا يعني المخالفةَ، ولكنه يعني المساواة َالدلالية بين الشر والمنفى: فأحدُ الشاعرَين صاحَبَ الشرَّ، والآخرُ صاحَبَ المنفى، وكلاهما التصق بما صاحَب.
والتركيبُ عند الشاعرين يشهد غيابا لكليهما في صورةٍ من صور فـَقـْد  الهوية / الذات. يتجلى هذا الغيابُ في غياب الفاعل المكافئِ للذات متمثلا في الضمير المستتر/ هو، الأمر الذي يوحي بانقطاعِ الذات عن عالمها المحيط، و كأن كليهما قد غُـيِّب مرتين: الأولى على مستوى بنية الجملة، والأخرى على المستوى الاجتماعي عندما طُرد ثابت من قبيلته، وعندما أُجبر الصائغُ على الهرب من العراق.
واللافت للنظر أن التمييز التراثي (شرا) إن غاب عن التركيب عند الصائغ فهو حاضرٌ في الذهن حالَ قراءةِ عنوان الديوان أو سماعه، طبقا للاستدعاء الصوتي والتركيبي، والمرجعية المعرفية. وهذه العلاقةُ أوجدت نوعا من التماثل بين الرجلين. فثابتُ صاحَبَ الشر، وخرج عن العرف، وأُخرِج من القبيلة. والصائغ تمرد على السلطة، وأُخرج من وطنه، وصاحَب المنفى.
وكأن عنوانَ الديوان يمثل إعادةَ تسميةٍ لعدنان الصائغ، أو إزاحةً لاسمه تماماً مثل ثابت بن جابر الفهمي الذي غاب وحضر بدلاً منه تأبط شرا، وكذلك يرى الصائغُ أن اسمه الحقيقي الذي يمثله قد غاب عنه يوم أُبعدَ عن العراق؛ فغابت الذات الحقيقية للصائغ، وحلت محلها ذاتٌ جديدة (تأبط منفى)، ذاتٌ مُطارَدة بائسة – مثل بؤس الصعلوك تأبط شرا -. يقول الصائغ وهو يقف على جسر مالمو في السويد:
على جسر مالمو
رأيتُ الفراتَ يمد يديه
ويأخذني
قلت أين
ولمْ أكملْ الحلم
حتى رأيتُ جيوشَ أمية
من كلِّ صوبٍ تطوقني (19)
فلم يمنعه عنف السلطة من الحياة في العراق حلماً، بعد ما صودرت حياتُه فيه، ونـُفي منه واقعاً. ولم يحُل هذا العنفُ بينه وبين الارتحال في المكان، أو الزمان إلى وطنه ممثلاً في الفرات، الذي استحضره في الحلم وهو يقف على نهرمالمو في السويد، ويتأبط منفاه.
ورحلتُه ممزوجةٌ بالحنين والشوق، الذي يماثل علاقة َطفل بأمه في قوله:
أيةُ بلادٍ هذه
ومع ذلك
ما أن نرحلَ عنها بضعَ خطواتٍ
حتى ننكسرَ من الحنينِ
على أولِ رصيفِ منفى يصادفنا
ونـُهرَعُ إلى صناديقِ البريدِ
نحضنُها ونبكي (20)
وقد أصبح الصائغُ – باسمه الجديد – يحمل منفاه / وطنَه معه أينما ذهب، كما يحمل ثابت بن جابر الفهمي سِكّينَه. وكأن الصائغَ يحتوي منفاه، ويتجاوزه، ويسيطر عليه مهما تعدد، والدليل على ذلك قصيدةُ (أوراق من سيرة تأبط منفى) التي استقى منها الصائغُ عنوانَ الديوان، واصبحت بنيةُ العنوان بديلاً عن اسم الشاعر(عدنان الصائغ)، الذي أزاح اسمَه بإرادته، متعمداً أن يقدم لنا اسمَه الجديد، الذي يجسد حالَ الصائغ في رؤيةٍ ذاتية اختيارية، على عكس تأبط شرا، الذي فـُرض عليه اسمُه البديل؛ لأنه أُطلق عليه – طبقا لرواية اللسان – من قِبَلِ أمه.
لقد جاءت القصيدة في ستةَ عشرَ مقطعاً، كتبت في خمسَ عشرةَ مدينة مختلفة: عربية  وأوروبية. فهي أوراقٌ من سيرة عدنان الصائغ الذي حمل منفاه أو وطنه، كما حمل الشعرَ معه أينما ذهب. يقول الصائغ:
أنا شاعرٌ جوّاب
يدي في جيوبي
ووسادتي الأرصفة
وطني القصيدة
ودموعي تفهرسُ التاريخ (21)
ولا ننسى أن تعددَ المنافي أو الأوطان يعني تجددَ انشطارِ الذات التي لا تلبثُ أن تستقر في مكان حتى تغادرَه، ما يعني توزُّعَها مع كل مغادرة بين ما ترحلُ عنه، وما تذهبُ إليه. وكأن الذاتَ كتب عليها، – و هي تتأبطُ شِعرا (الشعر أصبح معادلاً للمنفى والوطن / وطني القصيدة) – أن تعيش في رحلةٍ دائمة، وانشطارٍ متجدد بين الدخول والخروج. يقول الصائغ تعبيراً عن استعداده الدائم للرحيل:
كتبي تحت رأسي
ويدي على مقبض الحقيبة (22)

ثالثاً: جدلُ الذات
رؤيةً وتشكيلاً
يعيش الصائغ – في جدله – أزمةً مع ذاته، محاولاً أن يجد إجابةً لسؤال الهوية الذاتية، هذا السؤالُ الذي يصاحبُ المبدعين والمثقفين؛ لكونهم يَحْيَوْن في قلق دائم، – يرتبط بسيكولوجيةِ الإبداع و معايشةِ الحاضر واستشرافِ المستقبل، ويصبح هذا القلقُ رديفاً للمبدع والمثقف وهو يعاني لحظة َالانشطار والتفتت. يتضح الجدلُ عند الصائغ في عدة رؤى أخذت أبعاداً، وصوراً نفسية منها:
1-    الاغتراب
لا يستطيع الصائغ في هذه الصورة النفسيةِ أن يجمع شتاتـَه، في شكلٍ من أشكال الفقدِ  أصابه بالاغتراب عن ذاته. ومصطلح الاغتراب – في أصله اللاتيني – يعني الذي لا يمتلك ذاتـَه، كما أن المعانيَ المختلفة للمصطلح يجمعها قاسمٌ مشتركٌ هو فكرة الانفصال التي يصاحبُها شعورٌ بعدم الراحة.
وعند ديكارت يغترب الأنا عن ذاته، من خلال الكوجيتو الديكارتي، كما يغترب الأنا عن ماضيه عندما يشكُ في الذاكرة، ولا يطمئن إلى ما تحويه من تجاربَ ومعارفَ(23)
يقول الصائغ في نص قصير بعنوان “نَص”:
نسيتُ نفسي على طاولة مكتبي
ومضيتُ
وحين فتحتُ خطوتي في الطريقِ
اكتشفتُ أنني لا شئَ غيرَ ظلٍ لنـَص
أراهُ يمشي أمامي بمشقةٍ
و يصافحُ الناسَ كأنه أنا (24)
إن رؤيةَ الصائغ ذاتـَه في هذا الـ (نص) تسيطر عليها فلسفة الفقد،عندما يكتشف أنه (لا شئ) .  وإن حاول أن يخدعَنا بالاستثناء المتمثل في (غير ظل لنص) – فإن خداعَه يتلاشى تماماً، كما يتلاشى الظلُ مع غياب الضوء، فهو في النور مجردُ إمعة، وفي الظلام لا وجودَ له؛ حيث لا ظلَ في الظلام. و قد يكون ظلُّ النص مسودتـَه، أو النصَ غيرَ الكامل الذي لا يرضى عنه المبدعُ، ويصبح الظلُ في تلك الحالة نوبة ًمن الشعور بالنقص، وعدم الرضا عن الذات.
يعيش الصائغُ في هذا الـ (نص) أزمة َانشطارٍ مركب، تتمثل مرحلتُها الأولى في الأسطر 1: 4، عندما ينشطر ذاتيا إلى ذاتٍ و ظل. والمرحلةُ الأخرى في السطرين الأخيرين عندما ينشطر الظلُ ذاتياً إلى ذاتين: ذاتٍ مصافحة، وأخرى مراقِبة. ويصبح هذا الانشطارُ الثلاثي على مستوى النص – مجسِّداً أزمةَ انقسام الذات على نفسها في الواقع؛ نتيجة اغترابها، الذي يعود في أحد أسبابه إلى قضيةِ الحرية، وما يتعلقُ بها من مداخلاتِ السلطة السياسية               والاجتماعية( 25)، فالحرية – كما يقول الصائغ – “هي الشرطُ الأول والأساسي في كل عملية إبداعية”(26).
وعلى مستوى التشكيل يعمِّق الصائغُ هذه الرؤيةَ المسيطرة َمن خلال ضمير المتكلم/ الذات المسيطر، الذي ينشطر إلى ثلاثِ صور:
–    الأولى تتمثل في الضمير الفاعل المتصل بالأفعال الماضية: نسيت، مضيت، فتحت، اكتشفت.
–    الثانية تتمثل في ياء المتكلم: نفسي، مكتبي، خطوتي، أنني، أمامي.
–    الأخيرة تتمثل في ضمير الرفع المنفصل: أنا.
ترتبط الضمائرُ في الصورة الأولى، والضميرُ الأول في الصورة الثانية بالفعل نسيت الذي يشكل مفتاحَ رؤيةِ الانشطار، و يجسد العالـَم الخاص والذاتَ الحقيقية للشاعر في غرفة مكتبه. وتأتي الضمائرُ الأخرى في الصورةِ الثانية مجسدةً الذاتَ / الظلَ، التي تحاول أن تستعيد نفسَها في الضمير في الصورةِ الأخيرة (كأنه أنا)
ويشهد النصُ – على استحياءٍ – حضورَ ضمير الغائب في: أراه، يمشي، يصافح، كأنه.
يلفتنا توزيعُ الضمائر على مستوى النص؛ حيث نشهدُ حضوراً مكثفاً لضمير المتكلم بصوَرِه الثلاث (عشر مرات)، أمام حضورٍ خَجِل لضمير الغائب (أربع مرات): ظاهراً مرتين، ومرتين مستتراً في الفعلين.
وهذا التوزيعُ يعكس الانشطارَ المركبَ للذاتِ المنقسمةِ عموماً لذاتين:
متكلم، وغائب:
المتكلم ينقسم إلى ثلاث صور
الغائب ينقسم إلى صورتين.
فكأن الذاتَ قد انشطرت من تلقاء نفسها، أو تفتت إلى ذواتٍ سبعٍ، وهذا التفتتُ يعكس انفجارَها الناجمَ عن ضعفها في مواجهة العالَم الذي لا تقوى عليه، وتتلاشى أمامه، بينما تتحقق ماهيتُها هناك في (غرفة المكتب)، في عزلتِها عن العالم، وانكفائها بين الكتبِ والأوراق وخيالات الشعراء. أي أنها تملك شتاتها، وتصنع عالَمها بذاتها، وهو عالَمٌ خيالي هارب من الواقع، أشبهُ بعالم الصعاليك الذي هرب إليه تأبط شرا، فكأن الذات قد ارتضت لنفسها منفى اختيارياً تتحقق فيه بعيداً عن الواقع الذي تتلاشى معه.
الصائغ إذا يحيا بذاتين:
– ذاتٍ منعزلة متحققة قوية في عالم الشعر، الذي يقول عنه: “صار الشعر خوذتي في  الحرب، …، وواحتي في الهجير، ومنفاى في الوطن، ووطني في المنفى… أمارس كتابة الشعر كما أمارس التنفس، طبيعيا لا تكلفة ولا تعقيداً ولا افتعالاً. لذلك تراني في الشعر كما أنا في الحياة…”(27)
– أخرى مندمجة متلاشية ضعيفة في مواجهة العالَم. فهو يعيش صراعاً مع ذاته في مواجهة الآخرين. والصراعُ – كما يرى هورني – دفينٌ في النفس الانسانية، وعاملٌ من عوامل القلق، التي يتكيف معها البشر بطرق ثلاث “عن طريق الاتجاه نحو الناس (بالشكوى إليهم أو الحب)، العمل ضد الناس عن طريق العدوان، أو القوة والبعد عن الناس (سواء بالانفصال أو الاستقلال) “(28)، ويبدو أن الصائغ قد ارتضى الطريقة الأخيرة.
ويربط الصائغُ بين الاغتراب والتاريخ في  نص بعنوان “درس في التاريخ (1)”، فيقول:
أطرقَ مدرسُ التاريخِ العجوزُ ماسحاً غبارَ المعاركِ والطباشيرِ عن نظارتيه
ثم ابتسمَ لتلاميذِه الصغارِ بمرارة:
ما أجحدَ قلبَ التاريخ!
أَكـُلّ هذا العمرِ الجميلِ الذي سفحتُه على أوراقِه المُصفَرَّة
وسوف لا يذكرُني بسطرٍ واحد (29)
تنشطر ذات الشاعر في هذا النص بين أزمنة ثلاثة: الماضي، الحاضر، المستقبل. وبقدر توزُّعِها بين الأزمنة الثلاثة، تختلطُ مشاعرُها وتتصارع بين السعادة والحزن، وهذا التصارع ُوالتضارب علامةٌ على  ضياع هوية الذات، ورفضِها الحاضرَ، واغترابـِها فيه، وهروبـِها منه في حركةٍ عكسية للزمن تجاهَ الماضي؛ حيث تتحقق ذاتُ التاريخ.
تتجلى عبثية ُالذات وضياعُها في السطرين الأخيرين من النص في المقارنةِ بين التذكرِ والنسيان، بمقابلةٍ كميةٍ بين العمرِ- بطوله وامتداده -، وسطرِ تاريخٍ واحدٍ بفرديته وضآلته. وهذا يعني أن الذاتَ لا ترى قيمةً لما أنجزت؛ الأمر الذي يُحيلها نفساً ممزقةً، وذاتاً متهالكة لم يعُد في عمرها الكثيرُ مثل ورق الكتاب الأصفر، الذي يتداعى سريعاً إن لم نعاملْه برفق.
لقد شكل الصائغ هذا الانشطارَ ومعاناتَه من خلال توظيفِ الفعل، وأدواتٍ أخري. أما الفعل فقد جاء على صيغتين:
–    الماضي في ثلاثة أفعال: أطرق، ابتسم، سفح.
جاء الفعلان الأولان مرتبطين بضمير الغائب (هو)، بينما جاء الفعلُ الأخير مرتبطاً بضمير الفاعل (التاء)/ المتكلم/ الحاضر.
–    المضارع في الفعل: يذكر مرتبطاً بضميرين: هو/ الغائب/ الفاعل/ التاريخ، وياء المتكلم/ الحاضر/ المفعول به/ الذات. وتفصل بينهما نون الوقاية.
إن توزيعَ الضمائر مع الفعل الماضي يجسد الانشطارَ، ويصوِّرُ غيابا مضاعفاً للذات عن نفسها؛ إذ تحضرُ في موقف، وتغيب في اثنين. وهي تعاني في غيابها؛ إذ جاء الفعل الماضي الأول متعلقاً – في السياق الدلالي للجملة –  بصيغة الحال (ماسحا)، وما يتبعها من دوالٍّ توحي بمعاناة الذات، وسَجنها داخل دائرتين: غبارِ المعارك المستدعاةِ من الماضي، وغبارِ الطباشير الحاضر، وكلاهما ينسجُ غشاوة على عيني الذات، التي بدت منشطرةً بين الماضي بمعاركه، والحاضر بطباشيره. وتُعمِّق صيغة ُالمثنى (نظارتيه) – إضافةً إلى النون الفاصلة بين الضميرين – هذا الانشطار.
ويأتي الفعل الثاني/ ابتسم متعلقاً بالجار والمجرور (بمرارة) الذي يُقيِّد الدلالة، و ينقلها – في صورة عكسية لا تخلو من الصراع – من حقل السعادة إلى حقل الحزن؛ فأنشأ جدلاً نفسياً سيطر على الذات، أدى بها إلى حالة من الاغتراب.
أما الفعلُ الماضي الأخير المرتبط بحضور الذات – يقدم خلاصة َالرؤية ونهايةَ الموقف الاغترابي – بصورةٍ مؤقتة -،عندما تتخيل الذاتُ أنها وضعت حداً للجدل، وأقرّت بعدم جدوى دورها في الحياة، وهي تئنُ تحت وطأة التجاهل وعدم التقدير من البشر قَبل التاريخ، فنسيانُ التاريخ نابعٌ بالضرورة من نسيان البشر.
إن الرؤيةَ السابقة – استمراراً لحالة الجدل – ليست رؤية قاطعة؛ فالصائغ قد جاء بالفعل المضارع/ يذكر مسبوقاً بـ (لا) وليست (لن)، حيث تفيد الأولى النفي في الحاضر، كما أن النفي هو السمة المسيطرة على (لا) معنوياً؛ حيث “سيطر النفي على معانيها العاملةِ جميعاً…”(30)، والأخرى تفيد النفي في المستقبل كما قال النحويون(31)، فكأنه يسلط الضوءَ على أحد جانبي المضارع/ الحاضر، ويدَعُ الجانب الآخر/المستقبل لضميرِ التاريخِ والذواتِ الأخرى وتقديرِها. كما يعني هذا أن الذاتَ – في انشطارها بين الماضي والحاضر- تملك بصيصاً من الأمل في انصلاح ذوات البشر مستقبلاً. ويتماهى مع انشطارِ الذات انشطارُ الفعل المضارع بين النفي والإثبات.
ويمارس الصائغُ الخداعَ في السطر الأخير عندما يقول (وسوف لا يذكرني)؛ حيث إن الصياغةَ تستلزم توظيفَ لن بدلاً من لا؛ و ذلك لارتباط سوف بالمستقبل. ولكن هذه الصياغة تعني حالة من الانشطار بين الحاضر والمستقبل، وإن عددناها اضطراباً تركيبياً فهي علامةٌ على اغترابٍ نفسي، فالصائغ لا يُهمل المستقبل تماماً، ولكنه يفكر فيه ولا يفقد الأملَ، حتى وإن ارتضى أن يُزيحَه (المستقبل) – مرحلياً – من تفكيره عندما ضرب عنه باستخدام لا بدلاً من لن.
إن هذه الإزاحة إلحاحٌ ورغبةٌ في تسليط الضوء على الحاضر مرة أخرى؛ بهدف إبراز المرارة المسيطرة على الذات: بلفظها في السطر الثاني من النص، وإيحائها المسيطر على ختامِه. فبعد الاعتراف المرير المتحسر في أسلوب التعجب / ما أجحد قلب التاريخ – بما فيه من مناجاةٍ موجعة للذات – يأتي ختامُ الموقفِ الجدلى في نهاية النص حاسماً صراعَ الذات في انشطارها؛ ليؤكد على هذا الجحود بالنسيان، وكأن الذات أصبحت تحيا خارج السياق / الحاضر/ التاريخ، فأصبحت تناجي نفسها؛ لافتقادها من يحدثـُها وتحدثه.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *