6

مع بدء مغيب الشّمس. بعد السّابعة بقليل. دخلت سيّارة (البيك أب) القامشلي. شارع الثّورة مزدحم بشكل لا يصدّق. يبتسم ذنّون: باب الطّوب.
بيوت شبيهة ببيوت الموصل القديمة، لكن بعضها محاط بحدائق صغيرة زاهية. أزقّة معبّدة. متربة. مليئة بالأوساخ. رائحة الطّعام تفوح في كلّ مكان، تهيّج المعدة. ينظرنور الدّينإلى السّائق: تفضّل معنا إلى أيّ مطعم تختاره. نحن جائعان.
– لا أستطيع. أهلي ينتظرونني في القامشلي. لا أريد أن أضيع أيّ دقيقة. ابنة عمي تنتظرني.
– أتعيش مع عمك في بيت واحد؟
– لا. لماذا؟
– تقول ابنة عمي.
يصمت لحظة. ثمّ يقهقه: ابنة عمي يعني زوجتي.
يحسّ ذنّون بالخجل. يشير السّائق إلى باب صغير. فوقه لوحة صدئة”فندق الأفراح”: هذا هو الفندق.
بضع عشرة درجة.التفتا نحو اليسار. قاعة كبيرة. مفتوحة على بضع غرف موصدة. ضوء شاحب. منضدة يجلس وراءها رجل نحيف. عينان صغيرتان. شاربان كثان ينزلان نحو الجانبين. ملامح عابسة. ترى أيعرف كيف يبتسم؟
– أبو فادي. هذان صديقان عزيزان علي.اعتنِ بهما.
لم تنفرج تقاطيع أبي فادي. نهض بصعوبة. صافحهما السّائق. اختفى بلمح البصر. سار أبو فاديأمامهما. فتح باب إحدى الغرف.أشار بيده أن ادخلا.لم يفه بأيّ كلمة، ثمّ سألهما: ستبقيان؟
قال نور الدّين: نعم.
شباك بعرض ياردة واحدة إلى اليسار. يطلّ على الشّارع المزدحم. ستارة من (الشّيت)الرّخيص. ضوء خافت. حرّ شديد. سريران حديد.ابتسم نور الدّين، الحمد لله.الشّراشف نظيفة.
كرسي خيزران واحد قديم. منضدة حديد صغيرة. بحجم قدم واحد مربّع، اقحل صبغها. فوقها منفضة سيكاير من الفافون. تنكة صغيرة للأوساخ. أدار المروحة السّقفيّة. أخذت تدور. جاء الهواء ساخناً مصحوباً بفحيح خفيف كنشيج حزين.
تمتم ذنّون بسرعة: لنذهب نأكل بضع لقيمات وننام.
– هيا. لكن أنستطيع أن ننام في هذا الحرّ؟
-سنفتح الشّباك. فربما يتغيّر الجو.
لم يستطعنور الدّينالنّوم بسهولة. كما فعل ذنّون. الحرّ مزعج. جسده يعرق. رأسه مشوّش. يذوّب الحرّ كلّ ما هو جميل في الحياة. سمع من بعض أصدقائه أن أصحاب الفنادق الرّخيصة في العراق يضعون أسرة في السّطح صيفاً. لم لا يفعلون هنا ذلك؟ربّماهذا مكلّف.ربّمالا يعلمون! من يدري! أوّلمرّة في حياته ينام في غير بيته! ترى ماذا سيقول أهله بعد النّظر إلى رسالته القصيرة؟ ترك غرفته الجميلة. بيته. عائلته. رمى نفسه في بحر المغامرّة. من أجل جواز.من أجل حلم بالحريّة. بالتغيير. سيرى ما لم يره أبناء جيله.أأنت نادم؟ لا! وألف لا! مهما يحصل من انتكاسات لا تعادل لذّة اكتشاف واحد! لا يقتل الفشل متعة الجديد. هذه هي الحياة.وكما يحدث معه عندما تختلط الأمور، وتلتبس، ويسيطر عليه الشّك في كل شيء، ولا يستطيع عقله الاهتداء إلى طريق يفتح له الأمل يركن الأمر إلى القدر. عندئذ تبرز دنيا، أحياناً يفكّر لماذا لا تغادر خياله؟ ألأن جسدها كان بكراً لم يعرف المتعة من قبل؟ ثلاث عشرة سنة فقط! ما يتذكره بوضوح أنه نزل ليأتي بسطل آخر، قال عندما صعد ورآها تنتظره: سلقتنا الشّمس والسّليقة.
ضحكت بمرح. ثمّ أحسّت أنّها تجاوزت الحدّ. نظرت إلى الأرض خجلة. رجعت إلى عملها بجدّ. أسره صوت ضحكتها. موسيقى؟ أيّ موسيقى.
بعد دقائق ذهبت وأطلّت على الحوش، قالت: سننتهي بعد قليل، ضحكت فجأة مرّة ثانية، لم يكن هناك داعٍ للضّحك. ربّما بسبب انتهاء العمل. رجعت تفرش الحنطة. سألها: كم سطلاً بقي.
– نحو خمسة.
– انتهينا؟
– لنحسب إذاً.
قال ذلك ونزل. عندما رجع قال: هذا واحد.
ابتسمت، لم تقل شيئاً، وبعد قليل سمعت تصفيقه: هذا هو السّطل الأخير.
رمى الحمولة أمامها.فرشتها. بقي نحو قدمين مربّعين لم ينالا شيئاً من الحبّ. أخذت تخفّف كثافة البقع الغزيرة. تضع الحبّ السّاخن بالسّطل، ثمّ تلقيه في المكان الخالي. بعدئذ اعتدلت. زفرت نفساً ساخنا: انتهينا.
تناول السّطل. همّ بالنّزول. لكنه تسمّر في مكانه وعيناه تجولان فوق نهديها. لم تتوقّعه سيبقى. اضطربت لنظراته. ابتسم. تنفّست مرّة أخرى بعمق. كانت بعض حبات السّليقة الرّطبة قد التصقت بخصلات شعرها، ثمة حبّات عرق تتلألأ على جبهتها. أيّ فتنة! ترى ما طعمها؟ رفعتْ ذيل ثوبها، مسحت وهي تحني جبهتها. تبلّلت حافة الثّوب بالعرق. برَق كالشّهاب ما فوق ركبتها اليمنىأبيض ساطعاً مثيراً. سرت النّيران في دمه مرّة أخرى، رمى السّطل الفارغ من يده. مدّ ذراعه لينفض حبّات القمح من ثنايا الشّعر. اعتدلت. تجمّدت، حدّقت فيه محتدمة وأسنانها تلمع من فتحة صغيرة في الفم. ويدها مشدودة على طرف ثوبها، فخذاها نصف مكشوفتين. أكانت حركة متعمّدة؟ دعوة لدخول الجنّة المحمومة أم مجرد تصرّف عفويّ ذاهل؟ ثمّ فاجأته الحركة الثّانية. أشبه بمعجزة هبطتْ من السّماء. اقتربت منه كأنها آلة مسرنمة، تسير من غير شعور. التصقت به وهي تنظر هائمة إلى عينيه. أحسّ بحرارة جسدها. غمره عبق فريد، عبق مزيج من رائحة عرق نفاذ وعنفوان دم مراهق. أبخرة عاطفة مفعمة بالشّهوة مع خدر مثير.فقد وعيه كاد يسقط على الأرض. كان أطول منها كثيراً، لم يدرِ كيف حمل جسمها المتراخي بين ذراعيه وهو يقبّل وجهها. وضعها على فراشي خالته وزوجها الملموم في زاويةالسّطح الغربية.كانت مغمضة العينين تتنفّس بعمق. “هل فقدت وعيها؟” لم يفكّر في ذلك! لم يدرِ ما الشّيء الذي دفعهليفعل ذلك. كلّ ما يذكره أنّ تلك اللحظة أشبه بدوامة جنون فجائي انتابته. طفق يتصرّف رغماً عنه. لم يسيطر على أعضائه. يداه تحرّكتا بالرّغم منه. سحب ثوبها “الكودري”الرّقيق إلى ما فوق سرّتها.لم تمانع. تمثال عجين. “ما بها؟” مخدّرة؟لا مقاومة، لا حركة، مغمضة العينين، تتنفّس بعمق وبصوت عالٍ مصحوببلذّة، مستسلمة كأنها متّفقة معه. كان يقبّل وجهها، خديّها، شفتيها، عنقها، ينزل إلى صدرها، مرّة أخرى تساءل لماذا لم تدفعه، لم تحتّج؟ فخذاها عاريان كلياً بشكل كامل. نزل بشفتيه إلى سرّتها، بطنها. كان يعلم أنه يقوم بعمل خاطئ ويلوم نفسه، ويردد في داخله: “أجننتَ أجننتَ؟” “ما هذا؟ ما هذا؟” لكنّه لم يستطع أن يتوقّف. ما يتذكّره إلى حدّ الآن أنّه أحسّ بمقاومة واحدة تصدر منها. يده مشدودة على قطعة المثلّث الأبيض في وسطها، يريد سحبها إلى الأسفل، ويدها عليها تشدّها إلى الأعلى. لكنّ مقاومتها انتهت بعد ثوانٍ. أفلح بجذب قطعة القماش إلى قدميها، رأى عري القسم السّفلي كاملاً، آسراً. جسد أبيض عارٍ ساخن مع لمّة شعر خفيفأسود في الوسط يزيده فتنة ولهيباً. حينئذ بدأ محاولة التخلّص من سرواله.فجأة دوّى صوت الخالة قوياً، غاضباً، حاداً، عاصفاً يمزّق السّكون: ماذا تفعل يا وكيح. (وقح)؟
شُلّت يده، اختلطت ألوان الرّعب، حمراء، صفراء، مضطربة في وجه دنيا، اعتدلت تغطي جسدها بثوبها بسرعة، ثمّ التقطت تبانها الأبيض،والدّموع تملأ عينيها، فيما اقتربتْ خالته، ضربتْه على صدره بقوّة، هتفتْ: اخرج.”“سرسريّ””، لا تدعني أرى وجهك المسخّم هنا مرّة أخرى.
مدّت يمناها إلى دنيا. تختض بكاءً ورعباً، شدّت أذنها بقوّة، هتفت وهي تكاد تجن: أيها المسخّمة، لو عرف اخوتك الثّلاثة ذبحوك، كيف سمحتِ له!
حقد على خالته، ودّ لو ذبحها، لم يطأ بيتها قطّ، حتّى عندما كانت تزور أمّه، وتسلّم عليه، وفي عينيها نظرة عميقة، هادئة مع ابتسامة غفورة تطمئنه إلى أنها لن تكشف سرّه أو تلمّح إليه، كان يتهرّب منها ومن نظراتها. الآن وهو يحاول أن ينجح عمليّة الهروب أقرّ في نفسه أن خالته أنقذته. ماذا لو حملت دنيا، كان قتل معها، أو في أحسن الأحوال سيضطرّ إلى الزّواج منها. وربما كان لديه الآن أكثر من طفل، من يعيلهم؟ طالب فاشل في الثّانيّة والعشرين في وطنه، ومشرّد خارج وطنه يبحث عن المغامرّة والمستقبل!
لم يرَ ها طيلة سبع السّنين الفارطة، لم يسأل عنها! أهي في الجامعة! تزوّجت؟ لا يدري. لكنّ خيالها أخلص له، يأتيه كلّ ليلة بالرّغم من ولوجه في دروب المبغى. تتركه دنيا يعانقها من دون مقاومة. تتكئ على درابزون حديد، يطلّ على بحيرة واسعة! بحر! مياه لا تنتهي بنهاية الأفق، يحيطها بساعديه، تذوب بين يديه، تتدفّق دماؤه لذّة صافيّة لا حدّ لها، يشدّها نحوه بأقصى قوّته، ينحني الدّرابزون بقضبانه الحديد تحت ضغطهما، يسقطان كلاهما في الفضاء نحو الماء، تنفلت من بين ساعديه، تطير، تنظر إليه، تقهقه بصفاء، تلوّح بيديها، تتجاوب أصداء ضحكتها برنين عذب، تبتعد، تهتف: تعال، اتبعني، اتبعني، اتبعني.
لكن هل سيساعدهما نبيل الأسديّ كما أخبره خاله. أو غانم كما وعده! هل سيكون الطّريق آمناً من هنا إلى حلب. فدمشق؟ لا أحد يدري! لا رجعة. لا ندم. لا تأرجح. إصرار على الاستمرار. ليكن ما يكن.يبتسم نبيل الأسديّ. أهلاً وسهلاً. وصلتما في وقتكما. لم يبقَ عندي سوى جوازي سفر أثنين فقط. هات الصّور. من أين حصلتما على صور ملونة كهذه؟ هه.هه. يقلّب الصّور على ظهرها. يبلّلها بلعابه. يلصقها على غلاف الباسبورت.يهتف نور الدّين بغضب: لا يضعون الصّور هاهنا يا نبيل! يضعونها في الصّفحة الأولى.(جوازاتنا هكذا. على الغلاف. هاكما. تفضلا. تستطيعان الآن السّفر بهما إلى كلّ بلدان العالم. حتّى إلى المريخ.) يرقص ذنّون. يقبِّل نور الدّين نبيل الأسديّ. أنت واللهِ نبيل على اسمك يا أخي. لو كلّ النّاس مثلك. يختفي نبيل تظهر دنيا. ألم تنسني؟ كيف أنساك! أنت أوّلوآخر من أحببت. لا تكذب. ذهبت إلى السّحاجي. عند الغجريات. من أخبرك؟ أعلم كلّ شيء. ثقي بي. أنت أجمل منفتيات السّحاجي؟ من فتيات الدّنيا كلّها. فتيات السحاجي قذرات. وسخات. تعافهن نفسي. ما أن أرى واحداً قبلي حتّى أكاد أتقيأ!أتأتين إلى بيتنا لتساعديننا في السّليقة. نعم. هيا. تمسكه. من يده. يطيران فوق الغيوم. شعرها الأبنوس طويل حتّى قدميها. يتطاير في الهواء. يكون مظلّة تظلّلها إلى السّطح. تعال ننام فوق الحنطة:قل لي ياحبيبي. أجئت تبحث عني؟ أم عن المغامرّة؟
-لا بل عنك أنت.
تعانقه: يا حياتي. ضمّني بقوّة. أذبني بنارك.
-اقعد.نور الدّين. أقعد.
يفركنور الدّينعينيه الوارمتين من الأرق. ينظر إلى السّاعة: لم أنم سوى ساعتين. حرمتني من أجمل حلم.
يضحك ذنّون: إبق إن أردت أن تحلم سأذهب أنا؟ أتعلم كم الساعة؟ الثّامنة صباحاً.
– حسناً أنك أيقظتني. هيّا.
يبتسم صاحب الفندق. تنفرج تقاطيعه المتجهّمة ما إن يراهما يدفعان الحساب. كيف ابتسم؟ معجزة! نعم.
-ألم تعجبكم القامشلي؟
– بل أعجبتنا. لكنّا على عجل.
ينظر ذنّون إليه:كيف يسافر النّاس إلى حلب؟
– بالقطار أو الحافلات.
-والأرخص؟
-القطار بالطّبع، ربع الثّمن، لكنّه بطيء، وخالٍ من أيّ تفتيش على الهُويّات.
يهتفنور الدّينوهو يصافح موظف الفندق: هذا هو المقصود.
يغادران الفندق فرحين، خفيفين، استقبلهما الشّارع بازدحامه المعهود، وتنوّع المارين فيه، لكن أهمّ ما جذب انتباههما رائحة الباجة، شمّا الرّائحة ما أن غادرا الفندق. حدّقنور الدّينفي المطعم الصّغير: تعجبني لكني لم أشتهها الآن! وأنت؟
– مثلك.
-ترى على ماذا يفطرون هنا غير الباجة؟أعندهم قيمر؟
– لا أظن.
– لندُر على المطاعم.
وجدا بعض النّاس يأكلون “حمص بطحينة” مع البصل والشّاي، في مطعم صغير، وقربه آخر يقدم باقلاء مسلوقة مع اللبن، احتارا أين يتوجهان. اختارا الأوّل، جلسا إلى جانب شاب أسمر في نحو الثّلاثين.شارب خفيف. ملابس متواضعة، بعد أن انتهيا استعلما من نادل المطعم عن محطة القطار. ثمّ اتجّها نحوها، التفت ذنّون وراءه، رأى الشّاب الأسمر يسير خلفهما، لكنّه لا ينظر إليهما، لم يأبه له، لم يخبر نور الدّين عنه، لماذا يقلقه؟ ثمّ شاهده في محطة القطار وهو يقطع تذكرة إلى حلب مثلهما. يتوجّه خلفهما إلى العربة نفسها شبه الخالية، ثلاثة أشخاص، فلّاح، ورجل وامرأة، يحتلان مقعديهما في المقدمة، يجلس الرّجل الأسمر وراءهما، على بعد بضعة مقاعد، عندئذ يهمس ذنّون بأذن نور الدّين، يخبره عن الرّجل: أنا أيضاً لاحظته منذ أن غادرنا المطعم، لكنّي لم أشأ إزعاجك، لنفكّر بالتّخلّص منه. لنغادر العربة، لنتمشى، ما زال عندنا نصف ساعة.
المحطة متواضعة، مبنىً صغير، غرفة الإدارة في غايّة الضّيق، رصيف من بضعة أمتار، لكنّه مليء بالمودّعين، وباعة الأطعمة، والعصير، والفاكهة.
وقعت أعينهما على فتاة جميلة جداً، شعر قهوائي فاتح يميل إلى الصّفرة، عينان خضراون، تعانق فتىً وسيماً أكبر منها لسنوات عدة، عيناها تدمعان، الشّاب يهمس لها، وهي لا تتوقف عن النّشيج، صفّر القطار، ملأ الكون زعيقه القويّ،رجعا إلى العربة، رأيا الرّجل الأسمر يشيح بنظراته عنهما بشكل مفاجئ فعلما أنّه كان يراقبهما. تضايق نور الدّين:لنغير العربة.
في العربة الثّانيّة نحو عشرين راكباً بينهم الفتى الوسيم، علق نور الدّين: سيتذكر الوداع الباكي حتّى الموت.
ضحكا، جلسا، رأيا الرّجل الأسمر ينتقل إلى العربة عينها.
– علامَ يراقبنا؟ألأننا بلا أوراق؟ أيجوز أن صاحب الفندق أخبر الشّرطة؟
-لا أعتقد. وإلا جاؤونا في الفندق!
-سيحرمنا الكلب من التمتع بجمال الطّبيعة.
الهواء معتدل لذيذ، قرىً متناثرة، أرض بور، مزارع، أشجار، تلال جرداء إلا من صخور متفاوتة، جداول ماء.
-خيّو عندك نار؟
يقدم لهما كهل فلاح علبة السّيكاير، يجلس عبر الممرّ الفاصل بين المقاعد.
-العفو، لا ندخن.
-تفضل.
تعطيه علبة ثقاب امرأة خمسينيّة تجلس وراءه، يحاولنور الدّينأن يضيّع الوقت بأيّ حديث مع أيّ كان ليتخلّص من وطأة المراقبة، ينظر إلى الرّجل:كيف الحصاد هذه السّنة خيّو؟
-الحمد لله، لا هيك ولا هيك، هذه ثلاث سنوات ما جاء مطر كافٍ في الجزيرة كلّها.
-صدقت، والحلال ؟
-الحمد لله، ذلك ما يساعدنا وقت الجفاف.
يلتفت ذنّون إلى الوراء:ما زال الحقير ينظر إلينا!
-ليفعل ما يشاء، سنفرّ منه في حلب.
-وإذا استدعى الشّرطة؟
-لن نمكّنه من ذلك؟
-كيف؟
-تخفّض كلّ القطارات في العالم من السّرعة قبل الوصول إلى المحطة بمئتي متر، سنقف في الباب، نرمي أنفسنا قبل أن يتوقف القطار بمئة متر، وقبل أن يتزاحم النّاس للنّزول، لحسن الحظ يجلس في نهاية العربة، سينزل الجميع قبله، فيتأخر عنا، آنذاك نكون قد هربنا.
-أفسد علينا الكلب لذّة التمتع بالطّريق.
-حاول أن تنام.
-عندما أكون متوتراً لا أستطيع، أتستطيع أنت؟
-سأحاول، لم أنم كفايتى البارحة.
حاول أن ينام، لكنّه لم يستطع، انقضت بضع ساعات، توقّف القطار عشرات المرّات. ملّ النّظر إلى البريّة اليابسة، أراد أن يلهي نفسه بالكلام مع ذنّون لكنّه لم يجد موضوعا يطرقه، وحينما كاد العصر يحلّ، أحسّ بالنّعاس، قال لذنّون: أيقظني قبل أن نصل حلب.
– نعم.
حاول أن يستعيد حلم البارحة، لم ينس نبيل وهو يسلّمهما الجوازات، كم كان لذيذاً، ركّز فكره على جلب الحلم، لكنّه لم يستطع، بدل ذلك رأى الطّفلين الذّين التقاهما في ربيعة، يرتديان ملابس جيدة، يقفان على تلّة في طريق القطار، يلوحان له:شكراً هذه الملابس من فلوسك.
-كذّابان.
-لا.واللهِ نقول الصّدق.
-ملابس بعشر ليرات؟ يا كلاوجيّة (نصابين)، يا “سرسريّة”!
يركضان على التلة، ليبقيا قريبين منه:نقسم باللهِ.
-كفى، أنتما صغار، القسم حرام.
-أقعد، أقعد.اقتربنا.
يفرّك عينيه، يبتسم الفلاح:نمت أكثر من ساعتين.
-لم أنم البارحة.
نظر إلى ذنّون، رأى تقاطيعه مجهدة،ربّمالأنه لم يستطع النّوم، سأله: أما زال يراقبنا؟
-نعم.
-هيا.
يريان مقعدين قرب الباب، يحتلانهما، ينهضان عندما يقترب القطار من المحطّة، لكنهما يريان الرّجل الأسمر يقف وراءهما مباشرة، يحتدّنور الدّين، يهمس في أذن ذنّون:سأدفعه.
-أنت مجنون! ماذا لو سقط تحت العجلات ومات! ركاب العربة كلّهم ينظرون إلينا، سنثير انتباههم بوقوفنا هنا.
– هيا لنجلس.
-لا سنبقى واقفين هنا، سنكون أوّلالنّازلين.
-لم لا نتخلص منه بوساطة الرّشوة؟
سنحاول، بعد أن ننزل، ليس عندنا ما نفعله غير هذا.
طفق بعض الرّكاب يضعون حقائبهم قرب الباب استعداداً للنّزول، بينما كان القسم الآخر يخرج رأسه من الباب باحثاً عن مستقبلين.
يضطرب ذنّون ونور الدّين. يضبّب الخوف والانفعال الرّؤيا بغمامة سوداء تلتصق بالحدّقات، تمسخ الموجودات، تحتفي الملامح الجميلة للمستقبلين في طيّات التّوجّس والحذر، تعلو الضّجة في محيط كابوسيّ،هتافات التّرحيب بالقادمين، منبّهات سيّارات الإجرة الصّاخبة، العتّالون، لغط النّاس، ما العمل؟ يهمس نور الدّين: أفقدنا الكلب لذّة اكتشاف الجديد، لم نرَ شيئاً، وسيفقدنا لذّة التمتع بجمال الانطباع الأوّللحلب.
يتعقبهما الرّجل بعد النّزول من المحطة عن بعد والشّمس في طريقها للمغيب، القلب يدقّ بعنف. البال مشغول، لا يعرفان ماذا يفعلان.
– لننسه، مادام تركنا نغادر المحطة من دون أن يخبر الشّرطة، فهذا يعني إنّه يريد أن يعرف أين نتوجّه، دعه، سنتعبه، سنذهب إلى كلّ مكان تستطيع أرجلنا أن تحملنا إليه، وليفعل ما يفعل.
– لنكن على حذر. كلّ شيء إلا التّوقيف في سوريا، سمعت أن الموقوف يبقى سنين إن لم يدفع عشرات آلاف الليرات.
يركب الشّاب الحافلة نفسها إلى مركز المدينة، يترجّل، يدخل في الزّقاق الضّيق وراءهما، حتى الفندق. يصعد بعدهما درجات المرمر الذّي تآكل في الوسط،يقف على بعد قليل منهما داخل الفندق، يطلب منهما صاحب الفندق الجوازات، يسألهنور الدّينبدوره، وهو يجاهد ليخفي انفعاله: ألا تكفي البطاقة الشّخصيّة؟ المعذرة، لم نأت بالجوازات.
هزّ الموظف رأسه بالإيجاب، ابتسامة عريضة تنطبع على وجه شديد البياض: بلى، خيّو تكرم، كافيّة ونصّ.
لم يُزِل جواب الموظف المرِح انفعالهما أو يقلّل منه، كانا يغليان من الغيظ، تركّز همّهما كلّه على ضبط أعصابهما. أسينهي هذا الحقير عذاب الرّحلة! كلّ ذلك التعب، تحطيم الأعصاب، التّفكير، المعاناة إلى لا شيء؟ سيتحمّلان وجوده الكريه، لكن للتحمّل حدّ. همّنور الدّينبضع مرات أن ينفجر به، لكنّه كان يهدئ نفسه، حتّى تراءى له سؤال واحد: إلى متى؟ لم يبق إلا أن يدخل معهما إلى غرفتهما! ثمّ خطرت له فكرة أرعبته، ماذا لو جلب الشّرطة إلى الفندق؟ لا، لن يمكّناه من ذلك، سينتظرانه يدخل غرفته ثمّ يهربان من الفندق، لا حلّ غير هذا!
ما إن انتهيا من عمليّة تسجيل الأسماء حتى تقدم الرّجل الأسمر، إلى موظّف الفندق، وبلهجة عراقيّة مضطربة:أنا أيضاً عندي بطاقة شخصيّة.
– تكرم خيّو.
يحدّقان به برهة، ثمّ ينفجران بقهقهة قويّة، يهتفان بوقت واحد:مادمت عراقيّاً فلماذا لا تعرّف نفسك؟
يبتسم الرّجل، ينظر إلىنور الدّينوذنّون ومسحة خجل تغطّي ملامحه: التردّد، لا شيء آخر، رأيتكما في القامشليّ، في المطعم، تتكلّمان اللّهجة العراقيّة، قلت نعم الرّفيقين، أريد الوصول إلى دمشق. كنا ثلاثة، جئنا من البصرة، اعتقل اثنان في بغداد، هربت، تركت حقيبتي في الفندق، التقيت شخصاً في الكاظميّة، اتفقت معه أن يوصلني إلى الحدود بخمسين ديناراً، ظلّالشّك يلازمني، اطمأننت حين رأيتكما، علمت أنّكما تتجهان للغايّة عينها، تبعتكما.
– اطمأننتَ أنت لكنّك قتلتنا من الرّعب.
-العفو، أنت على حقّ، كان عليّ أن أعرّف نفسي.
-رحيمشخاتي.
-نور الدّين، هذا ذنّون عبد العظيم.
– العفو.
– حطّمت أعصابنا، لكنّنا أشبعناك سبّاً، أتعرف أنني قرّرت أن أدفعك من القطار، لكن ذنّون منعني؟ الحمد لله، كنت ارتكبت جريمة بحق هارب مثلي!
يضحك: يعني كنت في القبر الآن!
– لا، في المشرحة.
– المرحوم رحيم.
قهقهوا جميعاً: مسامحان، كم ستبقيان هنا؟
-ثلاثة أيام، وأنت؟
-سأرتاح بضع ساعات فقط، ثمّ اذهب اليوم إلى دمشق، أتعلمان أين يقع “كراج” دمشق؟
-نحن مثلك هذه المرّة الأولى، سل صاحب الفندق، أيّ إنسان تصادفه، الكلّ يعرف، مع السّلامة.
يخرجان من الفندق، ونشوة البهجة لا تكاد تسعهما، أعينهما تتألق فرحاًًَ، زال الكابوس، دحسا نفسيهما في النّاس، توجّها نحو وسط المدينة، تسكّعا ما أمكنهما، الشّوارع، الأسواق، الأزقة الضّيقة التي تشبه أزقة الموصل، تعشيّا الكباب في مطعم شعبيّ. ثمّ سمعا صدى أغنيّة سعدون جابر: يردلي، يردلي سمرّة قتلتيني.
تتبعا الصّوت. مقهىً صغير بضع مناضد، ينهمك فوقها كهول، شباب، يلعبون الورق، الدّومنا، النّرد، لا منضدة خالية. هناك على قارعة الشّارع واحدة يجلس عليها رجل بمفرده، توجها نحوها. استأذناه، جلسا، يغمضنور الدّينعينيه:لنتمتّع بالحريّة! أشعر بأنني أسعد أهل الأرض والسّماء، لنرَ كلّ ما نستطيع رؤيته في حلب، فقد لا يواتينا الحظ في رؤيتها مرّة ثانية.
-بالضّبط، هذا رأيي، لكن علينا أن نمدّ أرجلنا على قدر بساطنا كي لا تنتهي فلوسنا.
-أيوجد أبسط من حياتنا؟ لا تخشى شيئاً! إننا نقيم بأرخص الفنادق، نأكل أكلات شعبية!
-الإخوان من العراق؟
يلتفتان. عينان رماديتيان فاتحتان، في الخمسين، متين البنية، مربوع، في شعره شيء من شقرة.
-نعم.
-أهلاً وسهلاً، أهلكم ومكانكم.
يجلس على نفس التخت، قرب ذنّون، ابتسامة هادئة على ملامحه، قال:معظم الموجودين هنا عراقيّون.
– حتّى كبار السّن؟
– نعم، أصلهم من العراق، لهذا يدير صاحب المقهى أغاني عراقيّة، لابد أنّكم جئتم تبحثون عن عراقيّين هنا؟
-لا، لم نفكّر في ذلك، مصادفة لا غير.
– سمعنا أغنيّة “يردلي”، جئنا.
– أصبحت الأغاني دِعاية للمقهى.
– بالضبط.
-لماذا يكثر العراقيون التّردد على سوريا بالرّغم من الخلافات بين الحكومتين الآن؟
– لا ندري! نحن أوّلمرّة نأتي إلى سوريا.
سأل ذنّون: قبل الخلافات الأخيرة؟
-نعم. كانوا يأتون بأعداد كبيرة، فجأة نفتح أعيننا نرى الأسواق مليئة بهم، بحيث ظننا أنّه لم يبقَ أحد في العراق! ما السّبب؟
فكّر نور الدّين:ربّماللتبضّع، حرمونا من كلّ شيء، وربما للتّنفيس،أعندك رأي آخر؟
– التّهريب.
– تقصد تهريب البضائع!
– نعم.
يضحك نور الدّين: والبشر!
يشاركه الرّجل الضّحك:يعني أنتما هاربان؟
– نعم.
– لماذا؟
-ألف سبب وسبب، الجنديّة، الحريّة، الاحتقار، اختفاء المواد الضّرورية!
– الجنديّة، الحريّة، مفهومان، لكن ماذا تقصد بالاحتقار؟ المواد الضّرورية، بلدكم زراعي مثلنا؟
– اختفاء المواد الغذائيّة الفجائيّ، هل تصدّق أنّك إذا أردت أن تحصل على قطعة جبن، حليب مجفف، “شوكلاته” للأطفال، قطعة غيار سيّارة، الخ، عليك أن تقف في الدّور بضع ساعات، وكثيراً ما تنتهي البضاعة قبل أن يحين دورك، فوجئنا هنا بتكدّس الأجبان، الحليب المجفف، الصّابون، قطع غيار السّيّارات، ووو
– يعني وضعنا أفضل.
– ظاهرياً، إلى حدّ الآن، لم نقضِ في سوريا سوى ليلة واحدة، لم نطّلع على خبايا الأمور لنصدر حكماً.
-ما دمتم جدد هنا فأنتم مدعوون عندي غداً، أراكما هنا في الظّهيرة.
-لا داعي لذلك، لا نعرف أين سنكون.
صافحهما، قدّم نفسه:عبد الكريم فخر الدّين، أبو عامر.
-أنا نور الدّين، وهذا صديقي ذنّون عبد العظيم.
ينظر إليه ذنّون بتردد، ثمّ يمسك زمام شجاعته:عفواً، لا أريد أن أكون فظّاً، لكن لماذا هذا الاهتمام بنا؟
ينظر إليهما بتمعّن، ثمّ يبتسم: سؤال جيّد، شككتما بي؟ أليس كذلك؟ حقّكما إن تشكّا! العالم مليء بالمخادعين، لكنّي “تلمع عيناه” أصلي من العراق.في زمن الدّولة العثمانيّة لم تكن هناك حدود بين الأقطار العربيّة، كنا شعباً واحداً، ناسب الكثير من عائلات حلب ودمشق بالذّات العراقيّين، لهذا أتردّد على هذا المقهى. معظم روّاده عراقيّون. حتّى أوعيّة الشّاي من استكانات وصحون، كما في العراق، أزور أهلي في الموصل كلّ سنة، أعرف مشاكلهم كما تعرفونها، أتعاطف معكم لا أكثر ولا أقلّ، أيّ مساعدة تأمروني بها أنا مستعد.
دفع لصاحب المقهى عنهما، وخرج، تاركاً إياهما ذاهلين، ينظر أحدهما بعيني الآخر.
* * *
أيّ مصادفة رائعة جعلتهم يلتقون شخصاً طيباً بسيطاً مثل عبد الكريم! ائتلفا معه من دون أيّ اعتبار لفارق السّن، لا بل ظنّاه في نفس عمرهما، عرفا عنه كلّ شيء. مدرّس اختارته إحدى اللجان التعليميّة للتّدريس في إحدى دول الخليج، ظلّ هناك بضع سنوات قبل أن يتزوّج، جمع مبلغاً من المال مكّنه من بناء عمارة ذات أربع شقق، تزوّج في واحدة، أجرّ الأخريات. رجع إلى عمله الذّي لا يكفي راتبه لسدّ قوائم الكهرباء والتّدفئة ووقوداً لسيّارته اليابانيّة الجديدة. بذل لهما في أوقات فراغه كلّ ما في وسعه. أقلّهما في سيّارته إلى أماكن لم يحلما برؤيتها. الضّواحي الرّاقيّة في المدينة، البساتين، الغابات، الأسواق التّأريخية، أذهلتهم أقواس الأبنيّة القديمة، زخارفها، التعشيقات الخشبيّة فيها، تمتعا بجمال السّاحات الواسعة، المزدانة بالنّافورات على الطّريقة الأندلسية، الحدائق النّظيفة، الزّهور المتنوعة. ثلاثة أيام في حلب هي من أجمل، أمتعما مرّ بهما طوال حياتيهما, قال ذنّون: مع الأسف مرّت مرور السّحاب.
7.
انتظرا نحو عشرين دقيقة ليحين موعد تحرك الحافلة إلىدمشق، المسافرون يتوافدون باستمرار، تترجّل من التّاكسيّ، على بعد بضعة أمتار امرأة على شيء من البدانة، ملفّعة بالسّواد، لا يظهر من وجهها سوى عينيها، ترافقها فتاة في الثّامنة عشرة، لم يستطع الحجاب إخفاء إشراقة ملامحها الجميلة. بشرة بيضاء صافية، عينان صفراوان، فم ممتلئ. شفتان غليظتان بحمرّة طبيعية في فم ملموم صغير، أنف صغير. تمسك يد طفل سمين بعض الشّيء، في السّادسة، يفلت يدها، يقفز على الرّصيف. يحاول أن يقفز ثلاث بلاطات مربّعة مرصوفة في الشّارع، عندما يفشل، يقفز بلاطتين، يقف فرحاً بإنجازاته. يصفّق. يدور حول نفسه بضع مرات من دون توقّف. يفتح سائق التّاكسي الكهل صندوق السّيّارة. ينزل حقيبة جلديّة كبيرة بشقّ الأنفس. يردّد بسخط، وبصوت عالٍ: ماذا فيها لخاطر “دينكن”؟ حديد؟ رصاص؟
انحنت الفتاة نحو الحقيبة تهزّها، ترفع رأسها، توجّه كلامها إلىأمها بسخط:قلت لك في البيت، نقسم ما فيها إلىقسمين! من يستطيع نقلها الآن، هه؟
تسكت الأمّ برهة، تحاولالفتاة تحريّك الحقيبة مرّة ثانية، لكنّها لا تفلح إلا في زحزحتها بضعة سنتمترات:ما ضرّنا لو قسمناها؟
يخرج صوت الأم حانياً، رقيقاً: رجاء، يا حبيبتي لا تتعبي نفسك، أخاف عليك، حبيبتي شوفي، هنا، هناك، لا بد من وجود عتّالين.
تتحرّك الفتاة غاضبة، تنظر في أرجاء ال”كراج”، أبواب الغرف، في الممرات، تمشي نحو عشرين متراً، يركض الطّفل وراءها، وهو يقفز في الهواء ليقضي على أشباح وهميّين بمسدس يطلق رصاصاته من فمه. تختفي الفتاة برهة، تأتي ويدها بيد الطّفل، وهو ما يزال يقفز، عينا الفتاة ما زالتّا حانقتين:لا يوجد أحد.
يندفع ذنّون:خالة، تحتاجون مساعدة؟أنقلها لكم؟
-تسلم يداك يا ابني.
تبتسم الفتاة: أخاف عليك. ثقيلة.
يفلح ذنّون في حملها نحو نصف متر فقط، ثمّ يسقطها، يلهث، يراقبه نور الدّين، يبتسم متلذّذاً بفشله، ينظر ذنّون إليه بتوسل. يسيطر عليه الخجل، يغمز لنّور الدّين. يضحك هذا. يتقدم منه. يهمس:تجعل من نفسك عنترة العبسي؟ ما رأيك لو تركتك من دون مساعدة؟ هه! ستتحرك الحافلة والحقيبة في مكانها!
-أهذا وقت المزاح؟
لم تكن للحقيبة يد تحمل منها،ربّماكانت كأيّ حقيبة، لكنها انخلعت لثقل ما فيها من محتويات، لهذا لجؤوا إلى لفّها بحبل متين، ثمّ عقدوه. سهّل هذا على ذنّون وصديقه حملها. وصلا مخزن الحافلة. لم يستطع مساعد السّائق وضعها فيه، تطايرت عيناه شرراً، انتصب وهو يلهث، خاطب المرأة صارخاً: لابد من دفع إجرة إضافيّة عليها.
احتد نور الدّين:لا. ولا ليرة. إنها لخمسة أشخاص، ليست لشخص واحد أو شخصين.
-أين الخمسة؟
-أحصنا.
وقف وذنّون قرب المرأة وولديها.
أنهى مساعد السّائق امتعاضه بشكل مفاجئ، كظم غيظه:تكرم عينك خيو، العراقيّون أهلنا، وإخوانّا.
ينبرينور الدّين وذنونلمساعدته، يدفعون الحقيبة إلى مكانها، يلتفت ذنون إلى الفتاة، تبتسم له، تلمع عيناها: شكراً.
– عفواً.
تنظر وأمها إليهما بامتنان، ثمّ تخصّذنّون بنظرة عميقة، يشعر بالفخر، يرخي نظره، وإذ حان وقت تحرّك الحافلة فوجئا بأنهما يجلسان على صف واحد، لا يفصل بينهما سوى الممرّ، جلست المرأة قرب الشّباك، وأجلست الطّفل في حجرها، وجلست الفتاة في المقعد الثّاني، لا يحجزها أيّ حاجز عن مقعد ذنّون سوى فراغ الممرّ، وإذ سارت الحافلة نحو دمشق لم يكن لهما من همّ سوى تأمّل الطّبيعة الجميلة، الأعشاب، السّنابل المحصودة، السّهول الصّفر، البساتين، أشجار الزّيتون التي لا نهاية لها، القرى، المطاعم السّياحية.ولّد شعور الحريّة لديهما رغبة مستمرّة بالحديث. لذّة لا غور لها في استرجاع ما حدث لهما منذ أن فكّرا في الهرب قبل أشهر. كيف أخذا يشتغلان أيام العطل! نهاية الأسبوع! حرما نفسيهما من كلّ شيء! كيف سيصعق الانضباط العسكريّ باختفائهما! كيف سلّط الله لهما الطّفلان! الشّرطي الذّي اكتفى بمئتي ليرة! الشّاب الوسيم الذّي أوصلهما بسرعة لكي يرجع لابنة عمّه! قهقها:رحيمشخاتي. المسكين الهارب الخائف الذّي أرعبهما! أبو عامر، عبد الكريم فخر الدّين. الحمد لله! اختفت مصادر الخوف والتّوجّس. الآن يتنعمان بنعمة الأمان التي سُلبت منهما. لا سؤال عن الهُويّة! لا خدمة في الجيش، لا تطوعفي الجيش الشّعبي! لا هروب من الانضباط العسكريّ، لا تدقيق بالتّجنيد.حريّة تامّة، تفكير في المستقبل فقط.تشعّ عينا ذنّون سعادة ضافية. ما إن يلتفت إلى اليسار حتّى تلتقي عيناه عيني الفتاة الصّفراوين الفاتنتين. يهمس لنور الدّين:لا يهمّني أن أموت الآن، أنا حرّ، أنا سعيد، أنا أحبّ.
يضحك نور الدّين: كلّ شيء إلا الأخيرة، الحريّة تتعارض مع الحبّ، إمّا الحبّ أو الحريّة.
– لا أصدق أنني نجوت، عندما كنت أسير في الشّوارع كان الخوف يشلّني، يدي على قلبي، أتوقّع بين لحظة وأخرى من يصرخ ورائي: قف. انضباط عسكريّ، تفوعلى حياة كتلك.
ضربة قويّة على فخذ ذنّون، يجفل، يلتفت، يرى الطّفل فرحاً بفعلته. تصرخ أخته به: لماذا؟
ينظر إليها ذنّون:دعيه.
– ماذا تريد؟
– ما اسمك؟
– ذنّون؟
يضحك الطّفل، يمطّ شفته، يفتح عينيه، يهزّ رأسه ساخراً: ماذا؟ ذنوووووون؟ اسمي أحلى.
ينظر إليه ذنّون:ما اسمك؟
-أحزر!
-بامية!
ضحك الطّفل: لا، اسمي نور الدّين.
-لا صديقي هذا اسمه نور الدّين، أنت بامية.
-واللهِنور الدّين.
ينظر إلى أخته مستنجداً:قولي له ما اسمي!
تبتسم، يضربها الطّفل على فخذها: قولي له اسمي نور الدّين.
-نور الدّيناسم لشخص كبير، ليس لطفل.
يبهت الطّفل، يفكّرلحظة، يهزّ أخته، تضحك الفتاة:صح، نور الدّين.
-إذاً فأنت حراميّ، سرقت اسم صديقي.
-لا واللهِ لم أسرق سوى الملبس فقط، اسمي نور الدّين.
تنفجر الفتاة وأمّها ضاحكتين.لم يدريا كيف انتهى الوقت! تلتفت الفتاة إليه، وهي تؤشّر بيدها وبفرح: تلك هي دمشق، وذاك جبل قاسيون.
همسذنّون في أذن صديقه: لماذا أرى كلّ شيء جميلاً، الشّوارع، الأزقة، قاسيّون، نوعيّة البناء؟ أهو الشّعور بالحريّة؟ أم هي الحقيقة.
-لا أستطيع أن أجيبك، دعنا نساعد رجاء وأمها في نقل الحقيبة أوّلاًَ.
انتظر حتّى ينتهي الجميع من جذب حقائبهم من مخزن الحافلة التحتيّ، ثمّ تعاونا على سحب الحقيبة الكبيرة، تركاها على الرّصيف.
بدأت الأم بلفّ وجهها ببرقع إضافيّ أسود، يخفي عينيها أيضاًً. وجّهت كلامها إليهما:تسلم (إيديكن)، شكراً.
– سننتظر حتّى تنادون على تاكسيّ، لنساعد السّائق لعله لا يستطيع حملها.
تبتسم الأم، في الوقت الذّي تشير رجاء إلى باب حديد ذي فلقتين، مصبوغ بالأصفر عبر الشّارع: نحن هنا في مكاننا، سيأتي إلى هناصناع الأسطى مأمون يحملونها.
تنظر الأم إليهما:أتعملان؟
– لا،ربّمانذهب إلى أوربا.
-لماذا لا تعملون معنا؟ عندنا في حلب غرفة زائدة، نعطيكماها، عندنا ماكينة تريكو إضافيّة، أنتما قويّان، ذكيّان، تستطيعان إجادة العمل خلال أسبوع بسهولة. كان أبني يعمل بها قبل ذهابه إلى ألمانيا، كان يحصِّل أكثر مما يحصِّل الطّبيب، العمل بالتريكو مجزٍ. أبعدا فكرة الغربة عن رأسيكما. أنتما مثل ابني. أهاجر، أهاجر، صدع رأسنا، تركناه: اذهب، الله يوفقك. راح قبل خمس سنوات. أعطاك أبوه عمره بعد ذهابه بسنتين.لم يحصل على أوراق رسميّة إلى هذا الوقت. يعمل بالأسود . كلّ يوم عمل جديد. كلّ يوم في مدينة. يقول إنّه يعمل ليجمع مبلغاً يكفي للزّواج من ألمانيّة، لكي يقيم بشكل شرعيّ هناك، ويحصل على إقامة، جواز. لكنّه لم يستطع أن يجمع ذلك المال خلال كلّ هذا الوقت. تروحون، “تتبهدلون”، لماذا؟
أشارت إلى دكان في الزّاويةتتصدر واجهته قرعات زجاجيّة ضخمة مليئة بعصير التّوت، هتفت: تعالوا نبلّل ريقنا.
الشّمس ترسل أشعتها السّاخنة. الشّارع مزدحم. وقفت أمام البائع الكهل: خمسة كؤوس عصير توت رجاءً.
مدّنور الدّينيده إلى جيبه، فلحظت رجاء حركته. صرخت: لا. واللهِ لن تدفع. نحن دعوناكما.
هتفت الأمّ: ما هذا؟ لا تسبونّنا.
ناولت الأم طفلها الذي كان يقفز بانتشاء وترقب وصول العصير، قالت: يحبه كثيراً.
بينما قدّمت رجاء الكأس الباقي لذنّون وهي تخلط العصير بابتسامة شائقة: تفضّل.
وعندما أمسك بالكأس. شعرَ أنها لم تفلته. ظلّت ممسكة به، زاحفة بأصابعها لتستقرّ فوق أصابعه برهة، والوله يذوّبها. ارتعد. انتقلت نظراته إلى عيني أمّها ونور الدّين. بينما اصطبغ وجهه بحمرّةالدّم القاني.
وإذ أفلتت أصابعه، لم تتناول كأسها، بل أخرجت ورقة وقلماً وأخذت تكتب، ثمّ مدّت بالورقة الصّغيرة لتجعل منها واسطة كي تلمس يده من جديد، ابتسمت:هذا رقم هاتفنا في حلب.
أمالت رأسها إلى اليسار والشّوق إلى عناقه يدوّمها. تسلّم ذنّون الورقة، وضعها في جيبه. نظر إليها بضياع. ماذا يجب عليه أن يجيبها، أخيراً وجد نفسه يقول:غايتنا أوربا. لا أدري إن كنّا ننوي الرّجوع إلى حلب أم لا!
أحنت الفتاة رأسها بحركة أليفة، ووجنتاها تتضرجان:لو رجعتم! لو شرطيّة غير جازمة.
يقهقه نور الدّين:ذكّرتني بالدّراسة، أما زلتِ تدرسين؟
-يا ليت.
تكمل الأم:إضطررنا لسحبها من الدّراسة للعمل معي في التريكو، بعد وفاة الوالد.
يفارقانهما، يبتعدان، ينظرنور الدّينإلىذنّون:لقد أحبّتك يا رجل.
– حتّى أنا أحببتها.
نغمة صوتها الرّقيقة لا تفارق أذنيه، ملامح فاتنة، هيفاء، كل ذلك مطبوع في أعماقه: أيمكن أن ينشأ حبّ بمثل هذه السّرعة؟
ضحك نور الدّين: ألم تسمع بالحبّ من أوّل نظرة؟
هام في داخله، لم يجب، وبعد بضع ثوانٍ قال: لولا أملي بالحصول على جواز يحرّرني من العبوديّة لبقيت هنا، رجعت معها، لن أجد زوجة تكافح في سبيل العيش أفضل منها.
توقّف، حدّق بنور الدّين:أرأيت في عمرك أجمل منها؟
– نعم دنيا، عرفتها قبل سبع سنين لبضع ساعات، ثمّ افترقنا، تأتيني في النّوم ما إن أغمض عينيّ.
– متْ في أحلامك المجنونة.