بعد منجزه الابداعي الأول ، صهيل المارة حول العالم ، أفلح الراحل الكبير جليل القيسي في تخليق مستوى سردي جديد كان بمثابة تشييع للنمطية المالوفة آنذاك ، ومن ثم صياغة فضاءات حداثوية أسرت العقل والنفس استعان بها الانسان في فترة قلقة من المشهد السياسي والرؤيوي العراقي والعربي خلال العقد الستيني . وكانت لموهبته وتفاعله الخصب مع الآداب الانسانية الأثر الواضح في رؤاه ومبناه .
وعبر مؤشرات سردياته وبنى حكاياته ، ومن خلال استعاداتنا لمرجعياته الثقافية والفكرية نجد ان جليل القيسي يطابق المختلف عبر المؤتلف ، والفردية عبر الأنسانية بالجماعية ، هدوءا تارة وتلاطما وضجيجا تارة اخرى وفق مقتضيات البؤرة الشعورية وارهاصاتها وحيثياتها، ولهذا فالسكينة والتأمل والعنف والاقتحام والذهول والحكمة تجتمع عبر مساحة غير محددة من التصور ، ووفق هذا تشير ثيماته الى مسالك حية مؤنسنة عجنتها صرخات الانسان ونزعاته نحو الحرية ، فالعامل الأنساني يبقى صيرورة المسار وجدل تحولاته في معنى ومبنى القاص .
ويقينا ان سردياته هي حداثة متوافقة مع ديناميكية ونفسية وإنفعالية وتجاذب الميول والنزعات القيمية في الزمكان
فالتمرد والحلم اسئلة لأجل الوجود والحرية والجوهر الأنساني ، ولذلك نراه يبتعد عن هطول وانثسالات البؤرة المقننة وينزاح بانسيابية هارمونية تضمن التموج والضد والتناغم .
وفي استخدامات القاص لضمير المتكلم ينبغي التنويه بان هذا الأستخدام هو ليس لأشهار انسيابية تدفقات الذات فحسب بل لاستخلاص محنة الأنسان وصراخه اللاهب على اللاواقع واللامعقول ولهذا فبطله يمثل نتاج التصادم والتلاطم بين قسوة وزيف الواقع وبين الاغتراب النفسي . وعلى أساس ذلك لم يكن اغترابيا سلبيا غائرا في الاحباط والقهر المفروض بل كان إيجابيا متحديا محرضا على تعميق مسار الحرية في الوجود وعليه فهو اسثنائي ومدهش في هذا العالم الصاخب
والقاريء لقصص جليل القيسي يلمس مساحات ثقافته الواسعة من خلال الاشارة الى الأصول والنصوص والمقولات والأفكار والآراء كتضمين رافد للمعنى في البنية السردية ، وبموجب ذلك فان المنولوج الداخلي والتناص عبر استحظار تلك المقولات والرؤى كانت من بين العوامل المعمقة في التعبير عن بنية متفاعلة متناغمة .
ولعب المكان ، كدالة للأرتباط النفسي والمجتمعي ، دورا بارزا في سرده وألقى بظلاله على العلاقات الحميمة بين الراحل ومدينته إذ نجد ان توحده بأرض حاضنته والتي هي ثروة القيم والمعاني الأخلاقية ، ومسار صوفيته المدمنة على العشق والضوئية ، تشكل الدالة الواضحة التي تشير الى ان المكان الجغرافي لدى جليل القيسي لا يشكل مجرد مساحات وتحديدات مورفولوجية بمقدار ما يعبر عن تفاعل وتواصل بين قيم وأعراف وأثنيات وثقافات مجسدة بهوية معرفية حوارية جميلة إسمها كركوك ، والتي قال عنها :
– (( كركوك قصيدة ضوئية ))
– (( كركوك مدينة سمفونية من اللغات ))
– (( أنا وكركوك كحبتين من قشرة لوزة )) .
وهناك من يشير الى عزلة الكاتب في حاضنته والتي أضحت لازمته الى حد ما ، فنعتقد ان مرجعية الحالة ومردها أملتها اشتراطات الذات والموضوع ، فقد اتخذ الراحل منفاه الاختياري النسبي ( إن جاز التعبير ) بنفسه ليبقيه بمسار النزوع ضد قوانين التقنين والصراخ ضمن هذا المنظور من أجل تعزيز ملامح الظفر لرؤية الانسان والبحر والأجراس وأشياء أخر . حقا انها رائحة الرياح والأحلام المزركشة بالهدوء والحزن لأجل أن ينأى عن الشباك والمصائد ويبقى محافظا على أنهاره الجميلة المتمردة والمحترقة تطلعا .
لقد حلق القاص جليل القيسي بالمستويات السردية الى مسالك تقبر التقنين والى دلالات حية معاشة في معانيها على صعيد الواقع . وسيبقى ذلك العالم المحروس بآثاره عبر مؤلفات حية ممتدة بين آفاق الانسان وبين الرؤى المتقدة الغنية العميقة .
هشام القيسي : أشياء عن سرديات حارس المدينة
تعليقات الفيسبوك