ما زال المثقفون العراقيون ممن عاشوا مع شعبهم سنوات الحصار ، يشعرون بمرارة تلك السنوات القاسية التي أنزلت همجية العالم المتحضر بهم وبشعبهم عقابا ً جماعيا ً ظلوا يعانون منه على امتداد ثلاث عشرة سنة تحت ذريعة معاقبة النظام الحاكم آنذاك وهو الذي لم يتأثر بذلك العقاب . وما زال بعض من أتيحت له فرصة العيش خارج بلده خلال سنوات الحصار، يرى في ما تحقق له في ذلك امتيازا ً يمنّ به على من لم تتح له مثل تلك الفرصة ، وثمة من ظل يتحدث عن ثقافة الداخل وثقافة الخارج باستعلاء واضح يدين من خلاله مثقفي الداخل ويتهمهم بتبعيتهم للنظام ، ومن يتحدث عن ثقافة سنوات الحصار في العراق وكأنه يتحدث عن ثقافة هجين ، غريبة وطارئة لاتمت الى العراق بصلة . وآخر ما قرأناه في هذا الصدد عمود نشرته ” الزمان ” ( طبعة العراق )‘في عددها ليوم الأربعاء الخامس والعشرين من نيسان الماضي تحت عنوان ” يوميات مثقف في سنوات الحصار ” ظل كاتبه يتخبط فيه الى أن خرج بدرّته اليتيمة المخبوءة تحت ركام كلماته حين قال وبتعميم مطلق : ” حقا ً لقد أصبحت الثقافة في عهود الحصار مرعى للدمن والبعر تسرح فيها النعاج والخراف بحماية كلاب السلطة ويرعاها وزير جاهل يلم حوله شاحذي المكافئات والمتذللين الذين يتصيدون المناسبات ويتحينون فرص حلول يوم الزحف العظيم والبيعة الميمونة وتاريخ ميلاد القائد الضرورة عسى أن ينالهم شيء من الفتات … ” فهل كان هذا وجه الثقافة الحقيقي في تلك السنوات ؟ وهل كان الوصف الذي أضفاه كاتب العمود ينطبق على كل مثقفي تلك السنوات ؟
قلت لنفسي وأنا أقرأ العمود ان كاتبه لابد من أن يكون واحدا ً من كبار المثقفين الذين عاشوا تلك السنوات وبالمستوى الذي يؤهله للحكم على الثقافة العراقية واستخلاص رأيه فيها واعلانه على رؤوس الاشهاد دون تردد . ولمت ذاكرتي التي استبدت بها الشيخوخة لأنها لم تتذكر اسم هذا المثقف مع انني في الساحة الثقافية العراقية منذ ما يقرب من نصف قرن ، فلذت بما يمكن أن يعينني على تذكيري به . رجعت الى ” موسوعة اعلام العراق في القرن العشرين ” للباحث حميد المطبعي ( وقد صدرت بأجزائها الثلاثة خلال سنوات الحصار ) وعجبت
كيف ان باحثا ً قديرا ً مثل المطبعي يفوته اسم كبير مثل هذا الاسم فيدرجه مع اسماء مثقفي العراق التي أوردها في موسوعته ، رجعت أيضا ً الى ” معجم المؤلفين والكتـّاب العراقيين 1970 ــ 2000 ) وقد صدر بأجزائه الثمانية خلال سنوات الحصار هو الآخر وهو يضم آلاف الأسماء والعناوين ، وأثار تساؤلي كيف ان صديقنا الدكتورصباح المرزوك فاته أن يدرج في معجمه اسم المثقف صاحب العمود أو عنوان أحد اصداراته مع ان معجمه يغطي ، ضمن ما يغطيه ، عشرا ً من سنوات الحصار ؟
من هو اذن هذا المثقف من زمن الحصار والذي لا يعرفه أحد ؟ كيف يبيح لنفسه ، اذا كان مثقفا ً حقا ً ، أن يتحدث بهذا المستوى المتدني ويخرج بآراء تتقاطع مع كل معايير النقد الموضوعي والذوق والأخلاق ؟ كيف يقول ان ثقافة سنوات الحصار كانت ” مرعى للدمن والبعر تسرح فيها النعاج والخراف بحراسة كلاب السلطة ” وهي التي كانت تعج بأسماء كبار المبدعين الذين يفخرون بأنهم يحملون شرف الانتماء الى العراق وثقافة العراق : أسماء على جواد الطاهر ويوسف العاني ومحمد غني حكمت وجعفر السعدي ومهدي عيسى الصقر وكاظم سعد الدين وشاكر حسن آل سعيد ومحمود عبد الوهاب ومحمد خضير وبهنام أبو الصوف واسماعيل الشيخلي ومحي الدين زنكنة ومئات الأسماء التي يفخر بها العراق وقد كانت تمارس حضورها في الساحة الثقافية آنذاك ؟
لقد عشت أيام سنوات الحصار بكل مرارتها واكتويت بنارها وفقدت عزيزا ً بسببها ، وكنت شاهدا ً على الواقع الثقافي من داخله . لم يلذ مثقفو الداخل بالصمت خلال تلك السنوات على الرغم مما كانوا يعانونه آنذاك وكان تواصل الابداع يمثل شكلا ً من أشكال التحدي فقد صدر عدد كبير من الكتب بمختلف الاختصاصات الثقافية لا أظن ان بصر كاتب العمود قد وقع على عنوان أحدها ، وواصلت المجلات الثقافية صدورها مع تخفيض عدد صفحاتها اقتصادا ً في الورق ، وصدرت آنذاك سلسلة جديدة بعنوان ” ثقافة ضد الحصار ” أتاحت الفرصة لظهور أسماء عدد لا يستهان به من الأدباء الشباب . ان من الاجحاف الشديد وقصر النظر ربط ثقافة أي بلد بنظام الحكم السائد فيه .
يبدو واضحا ً ان السيد كاتب العمود لم يعش سنوات الحصار في العراق ولم يعان ما عاناه مثقفوه في تلك الأيام السود وإلا ً لكان قد سمع بالمثقفين الذين اضطروا الى بيع مكتباتهم وأثاث بيوتهم وربما حتى أسرّة نومهم لكي يؤمنوا لقمة العيش لأطفالهم في زمن عزت فيه لقمة العيش ، ولا عن الذين فقدوا أحبتهم لعجزهم عن أن يوفروا لهم الدواء والعلاج في وقت شح الدواء والعلاج ، ولا عن الأدباء الذين فرش بعضهم كتبا على رصيف شارع المتنبي يعرضونها للبيع لكي يوفروا ــ بشرف ــ ما يصد غائلة الجوع عن عيالهم ، لكن كل هؤلاء واصلوا عطاءهم الابداعي طوال تلك السنوات .
ان ما قاله كاتب العمود المذكور لا يدخل في باب حرية التعبير عن الرأي لأن الشتم والاساءة والاهانه لاتدخل في هذا الباب بأي شكل من الأشكال . ترى من الذي سيعتذر للثقافة العراقية في زمن الحصار عن هذه الاهانة ؟ !
ناطق خلوصي : دفاعا ً عن ثقافة سنوات الحصار في العراق
تعليقات الفيسبوك
احسنت ايها العملاق .. احسنت استاذي الفاضل . مشتاقلك ومشتاق لايام تدريسك لي بالاعدادية وكيفية قراءة اللغة الانكليزية ..
تحياتي لك ايها الكبير والمبدع دائما ..
تلميذك .. منهل الطائي