مهدي شاكر العبيدي : التخلف والحضارة

الروائي الراحل عبد السلام العجيلي

إثر حركة انفصال سورية عن دولة الوحدة مع مصر ، واسترداد الشعب السوري لمقوِّمات كيانه المستقل ، في غير مجافاة لروابطه القومية لا مع وادي النيل فحسب ، بلْ مع أيِّ جزءٍ من البلاد العربية ، أزمَعَتْ السلطة الجديدة في الديار الشاميَّة على الإطلاع بمشروع ثقافي ، وعملتْ لإنجاحه بكلِّ وسيلة ، ودأبَتْ على استمراريَّته ، بحيث كفلتْ له مداومته وبقاءه صُـنوا ً مُحَالفا ً ومتزامنا ً مع كلِّ الأجيال ، فما تزال مجلة ( المعرفة ) وهي عين ذلك المشروع الموضوع على صعيد التنفيذ والإنجاز والتطبيق ، توالي الصدور وتلتقي على صفحاتها أقلامُ كـُتـَّاب العربية من مختلف بيئاتهم ومواطنهم ، مع تواري نتاجات الأقطاب المؤسِّسينَ وانحسارها نتيجة دخولهم في حالة الإعياء والجهد والمرض ، وانقطاعها أخيرا ً بعامل الموت المُحتـَّم والمقدَّر لكلِّ مخلوق في دنيانا ، لتتغاير الموضوعات والكتابات التي تنشَر فيها ممَّا يكتبه أدباء السنوات اللاحقة ممَّن كانوا قبلا ً في طور التنشئة والإعداد والتهيُّؤ ، ليحلوا في مكان الصدارة والتوجيه فيما لو فرغ الأسبقونَ من أداء مهمَّتهم وقالوا ما عَنَّ لوجدانهم وخطر في بالهم من رأي وفكر ، يبغونَ فيهما ومنهما تجميل حياة الناس وخيرهم ، مستوحينَ في ذلك ظروف مرحلتهم وطبيعة الحوادث المستجدَّة زمنهم ، فتتبدَّل تبعا ً لذلك معالجات أولاء الأدباء والكـُتـَّاب التالين لجوهر مشكلاتنا المحلية والخارجية ، وتختلف الحلول والمواضعات التي يرتؤونها للنفاذ والانفلات من أزماتنا ومعضلاتنا ، وتتباين وفقه أيضا ً أساليبهم الكتابيَّة وتعاملاتهم مع الحرف الأبجدي والكلمة المتكوِّنة من تراصف هذا الحرف مع نظائره من الأحرف ، ويكفي كدليل على ذلك تصفح الأعداد الأوائل الصادرة عام 1962م ، وهو عام تأسيسها ، ونقارنها بمثيلاتها المطبوعة في نهايات الأشهر الستة من عام 2012م ، فقد غابَتْ عنها وانحجبَتْ بالمرَّة أسماء : فؤاد الشايب ، وخليل الهنداوي ، وعبد الكريم زهور ، وزكي المحاسني ، وعبد السلام العجيلي ، وحافظ الجمالي ؛ وما زالتْ ذاكرتي منذ عام 1962م ، مبقية على تلك الأسارة التي استولتْ عليَّ يوم طالعتني المقالة الموسومة : ( الشوق إلى الوجود ) للكاتب الأخير من هذه الصفوة المبجلة ، فقد نظر عبرها إلى مايسود حياتنا اليومية في جميع مرابعنا وبلداننا من أوضاع يشوبها التدهور والتخلف والفساد في هذا المرفق أو ذاك من مرافق الحكم وطبيعة الاجتماع وظروف العيش التي لا حاجة فيها للإيماء والإشارة إلى ما يكتنفها من حالة السَّغب والإملاق والاحتياج إلى الكفاف والغالبة على حياة الأكثريات الساحقة وعموم ناسنا ، فإنْ تشكوا من سوء أحوالهم وطالبوا مسؤوليهم بأهون الوسائل والسبل لتعديلها ، عَجَل نحوهم شُرَطهم وأجَراؤُهم بالتأديب والردع ، وجاوزوهما إلى تلفيق التهم الباطلة وفبركة الوشايات المزوَّرة ، فيسلمهم ذلك لشرِّ النهايات من التنكيل والاقتصاص والحبوس ، ليُعلِنَ الكاتب ويفصح عن استعداده للتعايش وتكييف وضعه في ظلِّ سلطة على رأسها حُكـَّام غرباء هيمنوا عليها باحتلالهم بقاعها ، إذا ضمنوا له كرامته الشخصية وأعفوه من عسفهم وجورهم ، مفضِّلا ً إيَّاهم على ابن بلده ، إذا تكشَّف عن مُكابر مُسرفٍ في غوايته ، متناهٍ في بطشه ، متمادٍ في إذلاله واستهوانه ؛ وكذا فتنتُ وقتها بهذا التسويغ الموحَى به من الخيال والوهم ، فقد كنتُ متأثرا ً من تردِّي حالتنا وقتذاك ونحن نعيش في ظلِّ العهد الوطني الذي جاءتْ به حركة 14 / تموز / 1958م ، التي ناوأتْ المستعمر ونصلتْ من محالفاته وتفانتْ في تقديم خدماتها ومشروعاتها في البناء والإصلاح ، غير أنـَّها من وجهٍ ثان ٍ مزَّقتْ كلمة الشعب وبعثرَتْ صفوفه وسط تسجُّر الناس وسخطهم ، فابتدر الحاكم لتسليط رقبائه يحصونَ على الناس انفاسهم ، ونفذتْ فيهم إجراءاته وتدابيره القمعية ، وكان أيسرها وأدعاها إلى الضحك والابتسام إغلاقه القهوات التي يتجمَّعونَ فيها وينشغلونَ بالثرثرة بشأن هذا التبايُن بينَ نزوعه لبناء الجسور والمدارس والمستشفيات وتوزيع الأراضي السكنية على الفقراء والمحتاجينَ ، وتحجيمه أحقية شركات النفط الأجنبية باستثمار الحقول النفطية التي لم تشمل حتى ذلك الوقت باستنزاف ما تحتويه من ثروات وكنوز ، وبين هذا الجوِّ الكالح المربدِّ الذي وضعهم فيه ، واستتبعه أنْ تتدنى شعبيَّته ، وتغدو خطبه المتوالية صباح مساء موضع سخرية وتهكم على احتوائها وحفالتها بالبشارات والوعود ، وتوزَّعتْ الأطراف والدكاكين السياسيَّة في أنظارها واجتهاداتها في النظر له وتقييمه وإحصاء ما تبقى له من رصيد الفضل وشحنات الوطنية ! ؛ فلا مراء أنْ تولعْتُ بمضمون مقالة الدكتور حافظ الجمالي عن التصالح والارتضاء بحكم الغريب الجالب والمبقِي على التصون الشخصي من أيِّ ضُر وأذىً ، وإيثاره وتفضيله على حكم الفرد الوطني الصميم ، ما دام يهدر حريَّتنا ويُضَيِّق علينا ويستبيح حرماتنا ويوغل في تدابيره الثورية ! .

ويبدو أنَّ موضوع الحضارة والإيفاء بمجتمعاتنا على معايشتها قدر الإمكان وجهد الطاقة ، هو ما يشغل بال الدكتور الجمالي ، ويستأثر بعنايته ، وتنصبُّ عليه جهوده ، ويعاود عليه بالتكرار وبالمزيد من مطالبة الناس أنْ ينأوا عن خلال الزور والمداهنة والغشِّ والخداع ، وسائر ما فتحوا أعينهم عليه فوجدوه سائدا ً ومألوفا ً في محيطهم ، بفعل أسباب وعوامل تاريخيَّة في مقدِّمتها أنَّ أسلافهم الماضينَ في ما تصرَّم من حقبٍ وأزمان مستغرقة في القِدم ، ألفوا ومارسوا في عيشهم حياة البداوة والغزو وما تتسم به ويترتب عليها من انكفاء الأفراد على ذواتهم وضيق عطنهم ، أو ما يسميه الدارس نفسه خُلق (( التركز على الذات )) ، حيث يستبيح المرء نفي الآخر وغصب ماله من حقٍّ ، ويشتط أكثر فيلغي كلَّ ما له من مشروعيَّة في التعبير عن رأيه ، ما دام يتعارض هو ورأينا الشخصي ، ونعدو هذا الحدَّ من الغلوِّ فنتوهَّم أنَّ الحقَّ بجانبنا ، وما عداه من نزعات الرأي والمعتقد مفض ٍ ــ ولا ريبَ وبدون أدنى شكٍّ ــ إلى الضلال والخبط ، وبوسعنا حمل الآخرين على التخلي عن وجهات تفكيرهم والتنازل عنها بازدرائها والترخُّص فيها دون أنْ نؤثر الاستئناء والمهاودة ، فنلفي أنَّ من الحصافة والحكمة واتزان العقل أنْ نلتقي وإيَّاهم عند حلٍّ وسطٍ يستقِي محاسنه وميِّزاته ممَّا يزين كلا المشربين ِ المتجافيين ِ ويلهجان به من دعواتٍ للتفاني في سبيل المجموع وابتغاء خير الناس ، وما هذه بأخلاق حضاريَّة مسايرة لروح العصر ، فتكريس التعنت والانغلاق وضيق الصدور في تصرُّفات الملأ وتحديد علائقهم مع بعضهم ، ينبي عن أنـَّهم ما يزالونَ مرتكسين في وهدة التخلف الذي معناه أنَّ مجتمعات غيرنا في هذا العالم الوسيع ، قد سبقتنا بأشواطٍ في تقدُّمها وتخلصها من مسبِّبات تأخـُّرها ، وظللنا ملازمينَ شقوتنا ، مستهونينَ ما تخطته أوطاننا من مصاعب وعقبات ، وبلغته من زيادة في السكان بعد تحرُّرها من ربقة المستعمر الأوربي بمختلف أشكاله وعناصره ، وأخذتْ به من وسائل ترقية زراعتها والنهوض بصناعتها ، وحاكتْ به شعوب المعمورة من الاهتمام بتوسيع التعليم وتطوير مؤسَّساته الموروثة مـن العهود العثمانية ، واقتفاء طـرائقها القديمة في التلقين ، إلى إنشاء المدارس العصرية لمختلف المراحل ، وفي جميع مدننا وحواضرنا ، وجاوزنا ذلك إلى تأسيس الجامعات لا في عواصم بلداننا والتي تعدُّ الواحدة من أزهر المدن في البلد الواحد ، وسكنتها أرقى وعيا ً واتصالا ً بالثقافة ومجتلبات الحضارة ، بل غدا كلُّ بلدٍ عربي ممتلكا ً لأكثر من جامعة في مدنه الرئيسيَّة تمارَسُ فيها التقاليد العلمية لمختلف الاختصاصات ، وليس ذلك لمجرَّد المظاهر الفارغة بل إنـَّه يؤخذ بعين الجدِّ وصولا ً بمجتمعاتنا إلى التطوير والحياة الحرَّة ، لا إلى تخريج كم هائل من المتبطلينَ والقذف بهم في الشوارع يبحثونَ عن عمل ينقذهم من تطلب الكفاف ، ويبدو أنَّ جميع ما آلت إليه المجتمعات العربية من المنجزات وظفرتْ به من المكتسبات من وراء جهد أفرادها وتوقهم ، وبفضل تأمين حكوماتها على سدادها ومبادرتها لتنفيذها جهد ما تستطيع لا سِيَّما أنَّ بيدها مصادر الصرف والبذل والإنفاق ؛ لم ترقْ لعين الدكتور حافظ الجمالي الذي يبدو أنـَّه يشوم من خلال موضوعات كتابه هذا المعنون ( بين التخلف والحضارة ) ، وهو بالأصل مقالاتٍ كـُتِبَتْ في أحايين متباعدة في بعضها ومتقاربة في البعض الآخر ، ونـُشِرَتْ في المجلات الصادرة بدمشق ، وجمَعَتْ بين توجُّهاتها وأغراضها واستدعَتْ التوحيد بينها في سِفر يضمُّ شتاتها ويبين عن قصدها ونزوعها دواع ٍ شتى ، قلتُ : إنـَّه يشوم فيها معاناة المجتمع العربي من آصار الإذلال والمهانة ، وإنَّ قطاعا ً واسعا ً من بنيه يحيا حياة البؤس والشقاء ، رغم غنى البلدان بالثروات والخامات الطبيعيَّة ، وما ذاك إلا بسبب عزوف الأفراد عندنا عن العلم والصناعة ، متبنيا ً في تشخيصه نظرية ابن خلدون ، الذي يخاله أكثر اتزانا ً وتحليا ً بالموضوعية من سائر المعنيينَ قديما ً بتعيين أدواء المجتمع العربي ومعرقلات نهوضه ، وكأنـَّه يناظر في ذلك مفكرا ً آخر سبقه في دعوته للنهوض الصناعي هو سلامة موسى ، الذي استشرف منها أنْ تعمَّ بيننا الأخلاق والعادات التي يستتبعها المجتمع الصناعي ، وفات هذين ِ المفكرين ِ الحصيفين ِ أنْ ليس في مزاولة الأفراد للزراعة وحدها ما يضير أو لا ينطوي البتة على التخلف أو يستلزم بعده عن العمران الحضري ويشي بقرب صلته بالبداوة ، وبوسع الأفراد عندنا لو صحَّتْ عزماتهم وصدق إخلاصهم أنْ ينقطعوا عن المدن ويفرغوا لأراضيهم التي يمتلكونها في الأرياف والقرى ، ويوالوا رعيها وسقيها واستثمارها لآبوا منها بالخير الوفير والمتكفل بغياث الساغبينَ وإطعام الجائعينَ ، بيد أنـَّنا لاحظنا لا سِيَّما في بعض أوطاننا التي حصلتْ فيها الثورات المُلوية بحكامها السابقينَ ، انشغال فلاحنا بمسائل التنظيم وحرصه على شؤون جمعيته الفلاحية وتوخيه جوهر هويَّتها ، مع عِيافه أرضه وجنوحه لمجالسة رؤساء الوحدات الإدارية في المدن ومحاكاتهم في ركوب السيارات الفارهة ، حاسبا ً أنَّ ذلك من عائدات الديمقراطية والمساواة وعنوان التحضُّر لا غير ؛ وأظنُّ أنَّ كلَّ عراقي صُدِمَ يوما ً أو تفرَّج على غير مشهدٍ من هذه المشاهد المقرفة ! .

وموضوعات الكتاب ذا صِيغتْ ببيان سلس وعباراتٍ في غاية الرشاقة والطلاوة ، مع احتفال بمضمونها ومحتواها ، والإفصاح عنهما بمنتهى التركيز والتحديد والدقة والخصوصيَّة ، مع استنادها واستعانتها بمجانيه من كتب السابقينَ وما خلصوا له من استنتاجات وتوصُّلات وحقائق واقعية وأخرى مكذوبة شُحِنتْ بها بعض كتب التراث ويعجل نحوها بالرفض والتخطئة والتسفيه والتفنيد ؛ فلا يقرُّ حمزة الأصفهاني ويشايعه في مقولته عن استغراق حكم بعض الملوك والسلاطين في تاريخ التتابعة أكثر من 180 سنة ، ويرى أنَّ من الأحجى أنْ لا يسكتَ على هذا في غير إنكار لفضله وفضل صنوه القلقشندي الذي جاء بمثل هذا الهراء وتورَّط بمثل هذا السخف في فصول كتابه ( صبح الأعشى ) ، وكذا يستجلي المؤلف مفارقة وبونا ً شاسعا ً ما بين سلوك الأنباري صاحب كتاب ( أسرار النحو ) ، حيث اعتاد حياة الكفاف دوما ً واعتصم بفضيلته العلمية ورفض أيَّة معاونةٍ من أحد ، وتأبَّى على جميع الإغراءات والأعطيات ، وبين ديدَن المتنبي في التنقل والارتحال من حاكم إلى مخاصمه ومنبر ٍ له بالعداوة من الأنداد ، بغية الاشتفاء من حَرَده وضغنه ، ومجتنيا ً ما طاب له من الهبات والجدى ، ليقطع ــ أي المؤلف ــ بحكمه الفصل بأنـَّهما ليسا  من فصيلة واحدة ، دون أنْ يصدُّنا ذلك ويزهِّدُنا في الاعتزاز بهما وإيلاء كلٍّ منهما نصيبه المقسوم من التمجيد والتعظيم وفاء لهذا التراث العافي اللذين ِ هما من أعلامه ومأثوراهما في الصدارة من عيونه .

حتى إذا خلص من اجتلاء هذا الحال من تردِّي عيش ذوي العقول الراجحة والمَلكات الخصبة ، استطرد بنا إلى وضعيَّة الإمام أبي حامد الغزالي مصدِّقا ً الأخبار المتداولة والمُفِيضَة حول إيثاره اعتزال مجتمعه واختياره المكان المناسب لانطوائه على نفسه وعكوفه على أوراده وتهجُّداته مدَّة عشر سنوات ، ليتدبَّر أمر هذه الفرق الإسلامية المتنافرة واكتناه مقاصدها الظاهرة وأسرارها الخفيَّة ، حتى يستقرَّ رأيه عند نزوعات واحدة منها ، ويميل لاعتناقها وتبنيها مرشِدا ً له في الحياة المضطربة من حوله جرَّاء هذه الهجمات الصليبية الوافدة بتحريض البابوات المتعاقبينَ وطوال المائتي عام ، وما كتب وما أملى سطرا ً واحدا ً في استنكارها وشجبها ، كأنَّ الحديث حول جواز انفراج ما بينَ فخذي الرجل وعدم جواز ذلك بالنسبة للمرأة أثناء السجود ، كما أسهب في شرح هذا اللون من التصرُّف ، هو أهمُّ من تحذيرهم وتنبيههم على ضرورة التجهُّز بمَا يتيسَّر من عُدَد ووسائل لصدِّ العدوان ودفع شِرَّته بعيدا ً ، عـلى نحـو ما اشتمَلتْ عليه موضـوعات كتابه ( إحياء علوم الدين ) ، وبشيءٍ من الإطناب والتفصيل ، لكنـَّنا قد نعترض على نبأ إقامته في مئذنة المسجد الأموي عشر سنين ، ولا نعترض على انقطاعه عن الناس لعين المُدَّة أو بزيادةٍ عليها ، ولو صحَّتْ الأولى في المكان المذكور ، حقَّ لنا أنْ نتساءل عمَّن يقوته ويلبي مطالبه وحاجاته الضرورية و يقوم بأسبابه .

هذا الغزالي ارتحل عن هذه الدنيا وفي ذمَّته دين مستحقٌ للذين انتهكتْ ذمارهم واستبيحَتْ حرماتهم من معاشر المسلمين ، الذينَ لم تنفعهم في شيءٍ دعوته إيَّاهم إلى التصوُّف والزهد في طيِّبات الحياة ، متمحِّلينَ في ذلك نزوعهم للفناء أو الاندماج في الـذات الإلهية ، حتى لقد بالغ واحـدٌ منهم في شطحه وغيابه عن الوجدان ، في آن ٍ من توقف مؤثري هذا السلوك عن العمل وقعودهم عن السعي ، فأطلق من عذابه الكارب حرَّ عزائه لنفسه ، سبحاني ما أعظم شاني ! .

وليس لنا رغم هذا الشطط في الفتِّ بأعضادِنا وليِّ شكيمتنا إلا أنْ نحلَّ الغزالي في مكانه الأرفع من المنافحة عن الدين والإيمان والذود عن الخير والحقيقة ، ولأنـَّه قبلاً وبعدا ً من صنـَّاع تراثنا الذي ليس هو كتبا ً ومخطوطاتٍ تحفل بالنفيس الباقي على تعاقب الأجيال بقدر ما تحتوي من المرفوضات واللا معقولات ، وتشتمل عليه من السفاسف والخزعبلات ، بل هو سلوكٌ وموقف حضاري يستوحي متطلبات عصره ويصاقب زمنه ، وكـُتِب له اليوم أنْ يزداد انتشارا ً وتقبل جمهرة القارئينَ على تداول نفائس آثاره ومصنـَّفاته المحققة وفي أوساطٍ بعينها ، متحاشية إعلان الضجيج ومتنائية عن المهاترات الرخيصة بصدد الإبداع وأبين ممثليه ووجوهه ، على نحو ما ينجرُّ إليه أدعِياء التجديد والحداثة ممَّن غفلوا عن كساد أدبيَّاتهم الحديثة من شعر ورواية وقصص ومسرح ، وبوارها في المكتبات التجارية ، وإنَّ وزارات الثقافة والتعليم العالي تولي التراث عناية خاصة إذا كان معنيا ً بفلسفة ابن رشد وابن طفيل ولسان الدين بن الخطيب والفارابي وأخوان الصفا والمعرِّي والتوحيدي ، حسبما استقراه وركن إليه وسلم به الدكتور الجمالي في جبِّه لتخرُّصهم وطعنهم بهذا الموروث الأصيل الشامخ ، دون أنْ يعني ذلك تحبيذه العيش في الماضي وادِّكار مألوفاته وأجوائه .

علما ً أنـَّه لا يعدم الجرأة في إعلانه وجهارته بارتيابه وشكه بحقيقة الدوافع والاتجاهات التي ساقتْ الخليفتين ِ الراشدين ِ أبي بكر وعمر إلى الفتوحات الخارجيَّة كونها ما جاءتْ إلا إلهاءً للعرب البُدَاة عن منافساتهم وصراعاتهم لقرب عهدهم بالجاهلية التي لم ينصلوا بصورة كليَّةٍ ممَّا أجلبَتْ به عليهم من إحن وأوتار وعصبيَّاتٍ ، وفي دحضه ما نسِبَ للإمام الغزالي من القول : بأنَّ الغريق يُنتشل من الماء بمجرَّد (( أنْ نصلي من أجل إنقاذه ركعتين ِ )) فقط ، ويعقب المؤلف : (( ولكنـَّه يُنتشل بشكل أفضل إذا نحن نزلنا إلى الماء وحملناه إلى ضفة اليابسة )) .

ولأمر ما أغضى الدكتور حافظ الجمالي عن التنويه بوصيَّة أبي حامد الغزالي للفرد المسلم ، بأنْ يوالي التسبيح والتكبير أثناء الوقاع ، ممَّا استهجنه الدكتور زكي مبارك في رسالته عن ( الأخلاق عند الغزالي ) ، أو لم يعره شأنا ً بغير التنبيه على أنَّ ذلك ممَّا يشقُّ وفوق المستطاع ساعة اضطرام الشهوة واستعار الرغبة في اقتناص اللذة .

( يا أمَّة ضحكتْ من جهلها الأمم ) ! .

ولهذا السبب وأسبابٍ غيره ريمَ الباحثُ ــ أي زكي مبارك ــ بالتحامُل على مقام الغزالي وخفض منزلته في عيون الملأ ، وغلوِّ المجدِّفينَ والشانئينَ في مؤاخذته أو إساءة فهم مراده من اعتزال الناس والتباعُد عنهم ، غير أنـَّه بعد اثني عشر عاما ً حينَ أخذ بإعداد بحثه الأكاديمي الثالث عن ( التصوُّف الإسلامي ) ، وقد تقدَّمتْ به السنُّ بعض الشيءِ وزادته الأيَّام خبرة بالناس واستكنه أطوار سلوكهم ودوافع تصرُّفهم في كلِّ شيءٍ ، استهلَّ بحثه ذاك بمقدِّمة ضمَّنها عبارته : (( إليك اعتذر أيُّها الغزالي )) ، أيقنَ فيها وسَلـَّم بأنْ لا بُدَّ للمرء من أنْ يؤثر الانسحاب والهرب ، وينأى بنفسه عن ملتقيات صنفٍ من البشر درجوا في حياتهم على التقوُّت من لحم كلِّ سائمةٍ في القفار والبراري ، دون أنْ ينتهوا منها ويشبعوا إلا أنْ يلوكوا بسمعة مَن رجح عليهم في شأوه وعلو منزلته .

ولو ذاعَتْ مثل هذه الأقوال عندنا في العراق الذي لمْ يتمرَّس أهلوه بحريَّة الفكر والقول منذ عهودٍ بعيدة ، لتداعَتْ نداءات مُدَّعِي الغيرة على الدين والأخلاق ، وأجمعَتْ على الاقتصاص من القائل والإيداء به لشرِّ المصائر والنهايات .

********

MahdiShakerAlobadi@Yahoo.Com
MahdiShakerAlobadi@Hotmail.Com

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *