مهدي شاكر العبيدي : تعليقات قارئ دمشقي على ( مختارات جرجي زيدان )

مِن أجمل نصائح الكاتب المصري المشهور سلامة موسى لعمُوم القرَّاء ، أنْ يُمسِكَ الواحد منهم بيده أثناء استغراقه في قراءة ما يطالعه في الصحف والدوريات من موضوعات ، قلم رصاص إنْ أمكن ، ليخط به ويؤشِّر تحت السطور التي تسترعي التفاته لمحتوياتها وما ترمز له وتعنيه من المضمونات والمقاصد والأغراض والمعاني ، ممَّا يلفيه حريّا ً بالسِجَال والنقد والمناقشة ، أو حتى التعليق والتعقيب والإضافة ، وقد وجدْتُ مثل ذلك من التقيُّد والامتثال بوحي ذينك التوجيه والنصح في صفحات كتبٍ مرصودةٍ للإطناب في أوضاع العهود المملوكيَّة التي سادَتْ في مصر وبلاد الشام ، حيث توحَّد البلدان واندمجا في كيان واحدٍ ، وانصاعا من ناحية الإدارة وتمشية معاملات الناس لأحكام جهة متنفذة بعينها لأوَّل مرَّة في تاريخهما ، إذا نظرنا للفترة المملوكيَّة بوصفها امتدادا ً وملحقة بالتي سبقتها من سيادة نفوذ الأيوبيينَ وما حالفهم من تسيُّد وانتصار على غرمائهم ومنتوينَ فرض وجودٍ لهم في العالم الإسلامي ، قلتُ : عثرْتُ بتلك المؤلفات التاريخية والأدبية الموثوقة بما تنطوي عليه وتشتمله من الوقائع والحادثات والحقائق ، في مكتبة المتحف العراقي ، ومنها مصنـَّف : ( الذيل على الروضتين ِ ) للحافظ المؤرِّخ شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة المقدسي الدمشقي ، مُهدَىً إليها من جملة تركاتِ الفهامة مصطفى جواد بُعيد رحيله ومن قبل ذويه أو عملا ً بوصيَّته ، وفي أغلب صفحاته تبيِّن تخطيطات العلامة الراحل وبجانبها في الهوامش نلحظ استدراكاته واعتراضاته على بعض ما ورد فيها من الأسرار أو أحاطتْ به من الأخبار .
استذكرْتُ هذا بمجرَّد أنْ وقعَتْ بيدي نسخة من الطبعة الثانية لكتاب ( مختارات جرجي زيدان ) ، صادرة بالعدد ( 23 ) من الكتاب الشهري لسلسلة آفاق ثقافية ، من منشورات وزارة الثقافة السورية ، بعد أنْ طبعته دار الهلال بالقاهرة عام 1937م ، بثلاثة أجزاء ، غير أنَّ الجهة الناشرة هاته ارتأتْ اليوم دمجها وحصرها واقتضابها بمجلدٍ واحدٍ حاو ٍ لأحسن ما آثره منشئو الهلال بالتفضيل والترجيح من مقالاته التي نشرها فيها منذ عام 1892م ، لغاية وفاته في 21 / تموز / 1914م .

ولا نبغي التفصيل في حياة هذا النابغة وكفاحه في سبيل النهضة الأدبية والعلمية والفكرية ، ونهوضه بواجب توعية شعوب الشرق قاطبة بوجوب التخلص من تركات الماضي ومخلفاته من التقاليد البالية والخرافات والأوهام والاعتقادات المُتعَارضَة وما رُقِي غيرها إليه من تقدُّم ومجاوزةٍ عن جميع ما يشوب حياتها من دَرن وسوء ؛ لكن يجدُرُ بنا أنْ نقتدي بسيرته الحافلة بالجهاد والعمل منذ تحسُّسه بوجوده على هذا الأديم وإدراكه لمعنى عيشه بين البشر وتكييفه لنفسه في التعامل معهم ، مراعِيا ً في ذلك ما يدنيه من صلة وعلاقة ، غبَّ تولده ببيروت اللبنانية عام 1861م ، فإقباله على الدراسة غير المنظمة ، إذ تتخللها فترات انقطاع ، أو يعافها بالمرَّة كما حصل لهجرانه تحصيله الطبي الذي لم يستمرّ عليه بعد نزوحه إلى القاهرة ، عُقيْبَ تصفية الثورة العرابية واحتلال البريطانيينَ لمصر ، حين استعان بهم الخديوي توفيق في تثبيت قاعدة حكمه الآيلة للاقتلاع والتقويض .

وهناك تجلـَّتْ عبقريَّته في نخل تراثنا العربي والإسلامي والإشادة بما فيه من رموز ودلائل على سبق أسلافنا للأمم في صنعهم ما يُشرِّف ويزين من الأمجاد والمفاخر على صُعُدٍ مختلفةٍ وفي ميادين شتى ، حيث ازدهرَتْ حضارتهم ونشطتْ عندهم حركة التأليف في العلوم المتنوِّعة ، كـ : الأدب والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والطب وتدوين الرحلات ومشاهداتهم فيها ، فضلا ً عن تفننهم وإبداعهم في موروثهم الشعري واستحداثهم هذه المرَّة الاجتهادات والمدارس النقدية والمناهج التقييميَّة ودرسه واستشراف ما يزخر به من أصالة وإبداع ، وعندي أنَّ غاية ما بذ َّ فيه مجايليه من أعلام الثقافة وأساطين الرأي ، ممَّن ناظروه وشاكلوه في كثرة المؤلفات والمصنفات ، هو : حميَّته البالغة وتقريعه الحاد وتسفيهه الزاجر للمهندس البريطاني ( وليم ولكوكس ) ، غداة إلقائه محاضرته الممقوتة على الحضور وسط نادي الأزبكية عاب فيها على فصحى العربية عدم كفايتها وجدارتها بمواكبة التطور الإنساني وتقدُّم العلوم ، وعجزها الفاضح في زعمه عن الوفاء بحاجتها وما تقتضيه من شرحها أو إجمالها أو تبسيطها للدارسينَ ، فصار من الخير لذويها في تمشية أمور حياتهم على وجهٍ أكمل أنْ يهجروها ويستعينوا بعاميَّتهم في إبلاغ حاجاتهم وأغراضهم ، كان ذلك في آخـر مقالة تضمُّها هذه المخـتارات فـي طبعتها الفريدة منها ، استقصى فيها ــ بعد رفضه دعوته المريبة تلك ــ ما عرض للعربية الفصيحة من خطوب بفعل تعدِّيات الأغراب على مواطنها في غير عصر وحقبة ، بتهديمهم المدارس وإتلافهم الكتب وتضييقهم أفق الحرية ومجال الرؤية المنفسحة بوجهِ النابغينَ والنابهينَ ممَّن يتطلعون إلى رؤياتٍ متجدِّدة من الانبعاث والتجدُّد ، فتوقف عطاؤها عن الابتكار والابتداع والنتاج الوضعي ــ إذا جاز التعبير ــ معوِّضة عنه بعكوف جهابذتها وأساطينها على إعداد الدوريات والمعاجم وأسفار المعارف العامة من وراء تفلية موروثات مَن سبقوهم في الدربة والتحصيل ، وأوسعوها نظرا ً وإنعاما ً فيما تكتنزه وتحويه من دقائقَ وفوائدَ قد تسعِف عند الاهتداء بوساطتها في اجتياز مجاهل الحياة وتخطيها ؛ وخلص من توكيده على حاجة العرب في أوطانهم جمعاء إلى أنْ ينتظموا في جامعة تضمُّ شتاتهم وتلتقي عندها مشاعرهم وإحساساتهم ، وما يقرِّبهم من هذا الهدف غير هذه اللغة العربية لفصاحة ألسنة الناطقينَ بها ، وكأنَّ ذلك الحلم المُرَاود صار في العهود الأخيرة مثل النبوءة المتجسِّدة أو المتحققة ، وما يعنيهم ما طرأ على لغات العالم الأوربي من انتشار وتداول بعد كمونها في لهجاتٍ متوارية منحسرة أمام استيلاء الرومان القدماء على أوربا وطغيان لغتهم المفروضة على أهاليها بالغلب أو بنتيجة الاحتكاك والخِلطة بالقوم العادينَ والوافدينَ ، ولا يفوته أنْ يشيد بدالة الأزهر ومعاهد النجف الأشرف والمدارس الكثيرة المنتشرة في معظم حواضِر الإسلام في الإبقاء عليها محتفظة بجوهرها ونقائها وأصالتها وبلاغة قرآنها المجيد خصوصا ً ، فغدَتْ مهيَّأة لمغالبة الجوائح والعاديات ، وذات استعداد ومؤهَّل لاستيعابِ مفردات العلوم وإيجاد البدائل لمصطلحاتها ، فإنْ لم تستنبطها أفهام حُفـَّاظِها وسدنتها وتهتدي إليها أذهانهم وعقولهم ، فلا يضيرها أنْ يلزموا جانبا ً من المرونة والمماشاة والتكيُّف هم والواقع الصارخ المقتضِي ، فيستعينوا بالمصطلح الغربي عنه في إشباع مطلبهم وتأدية غرضهم منه .

والقارئ الأوَّل لهذه النسخة التي وافتني بالشراء بأربعينَ ليرة سورية بعد تنزيل عشر ليرات من ثمنها الأصلي كونها مستعملة ، كما هي العادة الجارية بين باعة الكتب القديمة والمتاجرينَ بالمذخورات والنفائس والمقتنيات المنسية عامة ، علما ً أنَّ طباعتها ليسَتْ ببعيدة في تاريخها ومستغرقة في القدم إذ لا تتعدَّى العام 2005م ، وإلا ينسدُّ دوني أيُّ تنزيل من سعرها الأصلي ويسومني البائع بأضعاف ثمنها المرقوم في صفحة غلافه الأخيرة ، وكلُّ مَن اعتاد التعامل مع باعة كهؤلاء لا بُدَّ أنْ يكون قد خبر طباعهم وجرَّب سلائقهم في السوم وإعلانهم عن ندرة الموجود ممَّا يبتغيه طالبوه ويلتمسونه كلَّ آن ٍ من فنون الحاجات والأسباب ؛ وعلما ً ثانية أنَّ فئة الأربعين ليرة هذه تزيد أو تنقص عند مقارنتها بعملتنا العراقية تبعا ً لأسعار السوق وبناءً على تقلبات تصريف النفط الذي هو عِلـَّة شقائنا ومصدر كربتنا وسبب بلائنا لاكتناز أراضي بلدنا بأجزل حصَّة منه .

ويوحي لِيَ القارئ ذاك بأنـَّه إنسان يمتلكُ رصيدا ً من الثقافة العامة ، وبوسعه أنْ يعترضَ على ما يقرأ ولا يسلم بصحَّته ومنطقيَّته دواما ً ، إلا بعد طول تدقيق وتمحيص وتثبُّت ممَّا هو مُسَاير للشائع من المواضعات والنظم أو مُبَاين لها على طول الخط ، وممَّا يتأكد له أنـَّه موافق لنزوعه ورغبته في التأمين أو الرفض ، فيستهلُّ تعقيباته وملاحظاته بخصوص جملة محتويات الكتاب مدوِّنا ً خلاصة مطالعته في صدر صفحته الأولى التي تكاد تكون بيضاء وخالية من أيِّما كتابة سوى عنوان الكتاب نفسه ، كما جرى عليه الطبَّاعونَ واستعذبه منهم المؤلفونَ أيضا ً على امتداد الأزمان بألفة الطباعة وشيوعها ، يقول مقيِّما ً الكتاب بتمامه :

(( مقالات صحفيَّة فلا يمكن عدَّها في الأدب ، ولكنـَّها في الحقِّ أكثر فائدة من الأدب ، لأنـَّها تقدِّم الإنارة الفكرية المُبسَّطة [ لغير المختص ] ، وإنـَّنا في حاجة كبيرة جدا ً لمثل هذا النوع من الكتابة ، وأتمنى لو نملكُ صحيفة تنشرُ لكـُتـَّاب من مثل هذا النوع ، أذكر منهم على سبيل المثال : توفيق الحكيم والعقاد والشيخ الدمشقي علي الطنطاوي والمازني وطه حسين [ في كتاباتهم المنوعة غير التخصصيَّة ] ، ومنهم الدكتور أحمد زكي الذي تسلم رئاسة تحرير مجلة ( العربي ) ، لكن بالتغلغل في ثنايا المقالات أنَّ عددا ً منها بالغ الأهميَّة وذو مدلول عميق ، بل إنـَّه يكشف عـن [ إيديلوجية ] ناشئة تريد أنْ تدخل في العقول من أهون السبل ، من ذلك تحسُّ أنـَّه ينظر إلى الأمور نظرة عقلية علمية مجرَّدة وكأنـَّها بمعزل عن العقائد الروحية ، ومن ذلك أنـَّه يبعدك عن القومية العربية ، كما يبعدك برقة عن التفكير الاشتراكي ، ويقرِّبك برقة من الحضارة الأوربية ، وربَّما من الإنكليز حصرا ً … إلخ ، فليس هو كتاباً خلوا ً من الفكر )) ، 2008م .

كلِمٌ طريفٌ مصبوبٌ بلغة طريفة إلى حدٍ ما ومجانبة لعثراتِ الوقوع في الغلط اللغوي والإملائي ، وتدلُّ على استغراقه في قراءاتٍ سابقة ، بدليل عرفانه بإسهاماتِ الشيخ علي الطنطاوي في المشهد الثقافي ، وهو في مقدِّمة كـُتـَّاب مجلة ( الرسالة ) في عهدها الأوَّل ، يوم أنْ كان مقيما ً في مسقط رأسه ببلاد الشام ، قبل أنْ يستقرَّ ويلوذ بأكناف جزيرة العرب متفيِّئا ً بأفياء حُكـَّامها من آل سعود ، ممَّا لا تعرفه شبيبة الأجيال الأدبية المتعاقبة منذ عقود طِوال متصرِّمة ، رغم احتياج كتابة كهذه للاستدراك عليها بالتصويب والتوضيح أو بالإضافة ، وما ظنـَّه وخامره من اعتقاد تحمُّسه للحضارة الغربية ، وفرط الإعجاب بأحوال الإنكليز لتمتعهم بالاستقرار وتجريبهم عيش الرخاء والرفاهيَّة في بلدهم ، إلا لتشرُّبه مقالته المعنونة ( أخلاق الإنكليز ) ، واجتلائه ما هم عليه من خلال ، وتعديده لمناقبهم في الثبات والتعويل على الحقيقة ، فالكبرياء وبجانبها الأنانيَّة ثمَّ التزامهم بقواعد الآداب وقيم الصدق والوفاء مع الولاء لِمَا توارثوه على امتداد الأزمان من أعراف وتقاليد التديُّن ، إضافة إلى التزامهم بالأنظمة وتطبيقها شعورا ً بالواجب وتحسُّسا ً بمسؤوليتهم الوطنيَّة ، وذي نواميس وأصول أخلاقية ذات ضرورة وجدوى لسائر الأجناس والعناصر وشتائت الناس في إدامة حياتهم على الوجه الأكمل الذي تنتفي منه المثالب المستوجبة للمقت والاستهجان والنقد ، ولا يستدعي البتة التوجـُّس أو النفرة منهم بعامل ضيقنا بهم وحسَّاسيَّتنا تجاههم جرَّاء جنوح دهاقنة السياسة من بين رجالهم لاستعمار بلداننا واستعباد قاطنيها ، وهي ورديفتاها المقالتان المعنونتان : ( لا يصُحُّ غير الصحيح ) و ( الأخلاق الراقية ) ، أصابَتْ جميعا ً في تحليل الشمائل الفردية الجالبة لِمَن يتحلـَّى بها ويقتفيها مـن الأشخاص المزيد مـن المهابة والاحترام ، فـيجيءُ الإطناب في شرح أبعاد هذه الخصائص والميزات النبيلة أدنى إلى إسهاب الحكيم الإسلامي القديم ( مسكويه ) في كتابه الشهير : ( تهذيب الأخلاق ) ، وهو المعروف بعراقته بحياة المجتمعات ، وهذه علامة بارزة ودالة على استيعاب جرجي زيدان لمحصلة طائلة وزاد من الثقافة الأصيلة لينبري من بعد للتأليف والتصنيف في جوانبَ وأبواب وحقول معرفيَّة متنوِّعة ، مستهديا ً بمَا سطـَّره أؤلئك السلف من سُنن وطرائق تنتهج عند مزاولة البحث والانتهاء منه بتمام لوازمه ومواصفاته من التجويد والكمال ، وهو المسيحيُّ الديانة الذي أكبر الثقافة العربية الإسلامية وأعلى من شأنها وأغلى قيمتها ، فلمْ يُشَايع المتخرِّصينَ في دعواتهم المريبة لاستهوان الحرف العربي الجميل ، بلْ نصَّ بصريح القول في إحدى مقالاته : إنـَّه (( لولا القرآن الشريف والمحافظة عليه منذ صدر الإسلام وَعَودُنا إليه في إصلاح ما تفسده الطبيعة من لغتنا ، لتشتتَ شملُ الشعب العربي ……………….. ) .

وثمَّة موضوع ثان ٍ ، وأعتقد أنـَّه أزليٌ ولصيق بالعائلة العربية عموما ً والعراقيَّة خصوصا ً ، مداره على الشِقاق والتنافر بين ( الحماة والكنة ) ، إذ هما مكتسبان دوام القطعيَّة والملازمة التي ليس لها حد تقف عنده ، ممَّا حيَّر المختصِّينَ بعلم النفس في اكتناه الأسباب العوامل المفسدة والموهنة للعلاقة الطيِّبة بين هذين العنصرين ِ في فترة الخطوبة وقبل أنْ تغادر الفتاة المخطوبة دارة ذويها لتحلَّ في بيت الزوجيَّة ، حيث يدبُّ التقاطع تدريجيا ً بينهما ، وتستفحل مشاعر الكراهية والتجافي لأوهى المسوِّغات والدواعي ، وهذا الموضوع داخل في صميم علم الاجتماع ، ويجتهد لمعالجته الكاتب جرجي زيدان بحلول واهية ، ويتوسَّل لتحاميه وتلافيه بأنْ توحي لنفسها كلُّ من ( الحماة والكنة ) وتقنعها بالتسليم بالأمر الواقع ، كأنْ تدرك ( الكنة ) أنْ لا بُدَّ من أنـَّها صائرة يوما ً ( حماة ) تتنظر الرحمة والرعاية والمودَّة ومداراة أحاسيسها ومشاعرها من لدن زوجة ابنها أو ( كنتها ) التي ستساكنها وتتقاسم وإيَّاها شظف الحياة أو تتذوَّق نعماءها وطيِّباتها ، ينبغي لها أنْ لا تشتط في معاملة حماتها التي شقيَتْ في تربية بنيها وتهيئتهم للغد المأمول مثلما هي تتعب اليوم في تهذيب ولدانها الصِغار لغاية دخولهم في طور الشبيبة واليفاعة .

وأرى أنَّ هذا الحلَّ اليسير لا يؤدِّي بالمتنابذين ِ إلى الوفاق والتصالح ، فالغيرة مَن يقف أمامها ؟ ــ كما ورد بالإنجيل ــ وهي لصيقة بجبِّلات الأدباء الكمَّل المتشدقينَ بتوقهم لصلاح النفوس ، فكم كدَّروا مزاجا ً وأزعجوا خاطرا ً واستكثروا على رصفائهم حتى أنْ يوجدوا ؟ ، فكيف بالأغمار وسواد الناس وشِرار الخلق ؟ ، لذا نضحَتْ نفس قارئنا الدمشقي بالمرارة واليأس وتسخـَّط على الناس جرَّاء صلفهم وتعنـُّتهم ، فاستقرى : (( عاد المبدأ البسيط ، مبدأ اختلاف الناس ، ألا وهو نيَّة كلِّ واحد في تنفيذ فكرته لأنـَّه يراها الأصح والأجدر )) .

وقد أعجب هذا القارئ المتمرِّس بمضمون مقالة ثالثة مندرجة في ( مختارات جرجي زيدان ) ، وما أدري ما هو مبعث إعجابه وانخطافه بأسارتها ، لعله في عنوانها الطريف ( وتر الدين حسَّاس يستولي به الخاصة على العامة ) ، فتجهَّز لمعالجته بعدد جم ٍ من الأخبار والموثوقات التاريخية في العالم القديم ، وعن أحوال المتدينينَ والفقهاء والأحبار والقسوس والكهَّان في الديانات الثلاث : الإسلام والمسيحيَّة واليهودية ، وتكشَّف ــ وهو المسيحيُّ ــ عن غوصه وتبحُّره في أسرار الديانة الإسلامية ، ومعرفته بكنه السبل والوسائل التي يستعين بها بعض معتنقيها للسيطرة على عقول العامة وسواد الناس لأنـَّهم (( أتباع كلِّ ناعق ، فمَن استطاع استهواءَهم بالدين تبعوه ونصروه ، وقد يفعل ذلك دعاتهم عن تديُّن صحيح ، وقد يتظاهرونَ بالدين كما يفعل دهاة السياسة في كلِّ دولة )) ، وها هي ذي الضربة القويَّة المبتغاة من ورائها في عموم مفاصلها وأقسامها ، حيث ساق لنا وقائع غريبة وغير عادمة للتظرُّف من سيرة حاكم المسلمينَ وخليفتهم الأموي : الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان ، الذي يمضي ساعاته الطِوال مبتهجا ً ممراحا ً ومنغمسا ً في شهواته ، حتى إذا حان وقت الصلاة والتوجـُّه للعبادة ، نضا عنه أردية التبذل والمجانة ، واستعاض عنها أخرى تضفي عليه الوقار والخشوع والتضرُّع لخالق الأكوان ، وذلك استدراجا ً منه لمرضاة العامة وضمان التفافهم حوله ، وكذلك من سيرة الخليفة العباسي المهدي قاتل الشعراء والمشفق على دولته أنْ ينخر بجدارها سوس الزنادقة وأصحاب الهرطقات ، فتتصدَّع وتنهار وهو يعلم عِلمَ اليقين في قرارة نفسه مدى إيغال أخصامهم والمتزلفينَ له في الوشاية والتلفيق .

ولا يميل جرجي زيدان بصفحة وجهه كشحا ً عمَّا شهده العالم المسيحي من انتواء رجل الدين ( بطرس الناسك ) ودعوته شعوب القارة الأوربية لمحاربة الشرق واجتياحه ، فلو استنفرهم وانتخاهم باسم السياسة لمَا لبَّوا طلبه وانصاعوا لندائه ، لكنـَّه ضربَ على وتر الدين ، فأدركتْ رغبته سؤلها وأفلح في مشروعه وتصميمه ، غير محتسبٍ أو مهتم ٍ للنتيجة المُرَّة حسابها ووقعها الأليم في صفِّ كلا الطرفين ِ المتناحرين ِ : الغالب والمغلوب معا ً ؛ وكان حتما ً أنْ يتعجَّب هذا المواطن المحترف القراءة أو هو من هواتها المنقطعين لها متى يسنح الوقت ، قلتُ : يتعجَّب هذا القارئ من وفرة مجاني المؤلف من مطالعاته المستجمعة للمفارقات والمدهشات ، فيُملِي مُنجَرَّا لشيء من السذاجة هذه المرَّة : (( عجيبٌ كيف جمع كلَّ هذه الأخبار ؟ )) .

وأخيرا ً تحفل نسخة هذا الكتاب المقروءة بالتوضيحات والاستدراكات على موضوعات مختلفة ، كلـَّما وجد صاحبها نفسه في مسيس الحاجة للتبسيط والشرح ، وهو في مِلـَّتِي واعتقادي قد يفضل صنوه القارئ الثاني الذي برع في تسطير خطراته وانطباعاته عن مضمون كتاب يبحث في الفولكلور والعادات الشعبية ، غير أنـَّه لم يكن ساكن النفس هادئ البال ساعة تصفحه وتقليبه صفحات الكتاب ذاك ، فينصرف عنه مسجِّلا ً أثمان مشترياته ومبيعاته في السوق وما ينفقه أولاده من مال ٍ غير دارينَ كيف تيسَّر لأبيهم جمعه ؟ ، وتنسلك هذه الأفكوهة في الفولكلور والعادات الشعبية أيضا ً .

********
MahdiShakerAlobadi@Yahoo.Com

MahdiShakerAlobadi@Hotmail.Com

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *