قصيدة السياب يعلن فيها ان لندن منفاه الاضطراري للعلاج ليست سوى (لندن الحديدوالحجر) ووطنه هو عراق الظلام الجميل ورفة المجداف الحالمة . استحضرت ما قاله وانا في قطار الانفاق الباريسي العتيد المحشو بعشرات السحنات والالسن والروائح الغريبة ، وهدير عجلاته يخطف محطات الوقوف خطفا – بعض الجلبه والتسارع هي مما لم نعتد عليه في بلداننا البطيئة المتسامحة – اسمع صوته وهو يهجم على رصيف المحطة كوحش معدني هائل لا يغفر زلة قدم ولا ينتظر اي لحظة تردد.
كل شيء يوصف بالجمال في هذه المدينة الساحرة وكل زائر من بقاع العالم يتمتع بروعتها عداي هل هي لعنة نحملها اينما نذهب ؟ لماذا عيني لا ترى صفاء السماء تطرزها قلائد الغيوم ؟لماذا لا أرى في تلك الحسناء الممددة على عشب اخضر بجوار خرير ماء صورة للثلاثي المعهود؟ اراها وحيدة مع كلبها ونحن نؤمن بنجاسة الكلاب ونخاف من حشرات العشب ولا نطيق التمدد الا داخل غرفنا المغلقة ,قد ياتي رفيقها بعد حين وقد تقبله ويقبلها هنا في الحديقة وقدتستبدل الرفيق في لحظات وتبكي لمرض كلبها لساعات .
ايقونة السياحة في العالم تنادي محبيها من كل مسكن غريب في بلاد غريبة واصقاع بعيدة يؤمونها لقضاء عطلة الصيف التي يحتفل بها العالم كله في مهرجان للانس حتى لكانك حسبت ان العالم مصغر هنا ,في الحي اللاتيني ومتحف اللوفر,لتكاد تسمع كوزيمودو يقرع جرس كنيسة نوتردام كانك تمشي على رصيف البوساء وترى صورراقصات الطاحونة الحمراء التي زرعت ذاكرتنا الثقافية الغضة . يتمثل تاريخ وتراث امة شاخصا وحيا متمازجا مع جاداتها العصرية الفارهة ومقاهيها اللطيفة المتشابهة تزدان طاولاتها بالوجوه الحسنة لا تسمع منهم جلبة مقاهي العرب , يحتسي قهوته ذالك العجوز وحيدا وتلك الصبية وهذه الزنجية باصوات وحديث كانه الهمس , في هذا المقهى ارى وطنهم كيانا قائما يتجلى في تذكيرك دوما بانك جاهل بلسانهم وهذا النادل تكلم النيف البسيط مما احاول فهمه وزم شفتيه وكانه يبتلع حشرة وهذه الاخرى بائعة المحل ترميني بنظرة استنكار لجهلي لغتها وطلبي منها التحدث باللغة الانكليزية – تقلب شفتيها لتسمعني تعليقا لا ادركهه .
لجأت الى ضفاف السين وتذكرت قصيدة السياب يصرخ فيها موجوعا لا اريد ان اكون (خطية) , ينادى الوطن الذي اهداه جرثومة المرض تنهش جسده الهزيل و الذي ودعه ببرود الى المجهول وبدون ان يدس في جيبه مصروفه ,الوطن الذي حفر في وجدانه الم فراق جيكور نشوة المطر ورائحة الخبز والطين لتعمل سوية مع داءه على قرض حبال ما تبقى من عافيته يحلم بساعة الرحيل اليه والى تخلفه ومجونه وهو في ايادي رحيمة لا يرى منها سوى الوحشة ,لماذا تذكرت قصيدتك والمك هنا ؟ لا ارى في نهر السين سوى ماء عفن محاط بحواف من حديد –لا ارى سوى باريس الحديد والحجر ولا يوجد مثلي . اين هو السائح العراقي من كل هذا الجمع الهائل؟ اتمشى وخطواتي لا تشبه خطواتهم وطعامي لا يشبه طعامهم وحديثي لا يشبه اي احد هنا والاشجار البااسقة والجادات الانيقة لا ترحب بي لي انا غريبة ككائن اتى من الف عام من مكان عمره الدهر وباريس . اعذري لي خيبة رجائي في عظمتك فدماؤنا قد تجمدت ولا تسرى بالفرح كما يفرح زوارك هنا وهناك ولم تذكريني سوى بالسياب ولم يخطر ببالي في هذا المهرجان من الفرح والرخاء سوى بانني (خطية) كما قال .
نكتشف نفسنا في السفر الى العالم المتحضر الذي لا يطيقنا ولا نطيقه , نشرب ماءه فلا نرتوى ونقرا تاريخه فلا نعجب لانه قد بني على استعمارنا واذلالنا ومن يقطن لديهم يبشر امه في الوطن بانه وجد وظيفة اخيرا بعد طول انتظار وانهم وجدوا من ينظف الشوارع من فضلات كلابهم .
اعد الايام الباقية لي على وداعك ايتها المدينة الساحرة التي نهشت اطمئناني وابكتني ,اعدها الساعات لاستعجل فراقك لاعود ليس الى الوطن الموصوف في القصيدة حيث لا رفة المجداف الرقيقة ، ولا صفاء ليالي الصيف المقمرة ينتظرني . وينتظرني ما اعرفه جيدا ويعرفني جيدا ,ساعود الى وطن دمر فينا حس الفرح والحماسة للجمال كما دمر الداء صدر السياب . وسافرح بلقاء تلال الازبال وطاقة جهنم ذات النافذتين المسميتين تموز واب . وسيفرح لساني بلقمتي وبكلامي ,سيرحب بي مقعدي وركن بيتي والعشب القاحل في حديقتي والطوزولهب الشمس يغطيان كل اشيائي ,ساعود الى من يمتهن النفاق ويعيش على الكذب ولا غضاضة , الى حيث سيادة القانون والعدالة بكل صورها موجودة في المتحف المغلق منذ اعوام , عزائي اني سادوس على تراب اجدادي وتراب قبري : أمي وأبي.
د. مها يونس : غربة السياب بقلب غيره
تعليقات الفيسبوك