عبد اللطيف الوراري* : أسعد الجبوري أو الإقامة الخطرة في قصيدة النثر

إشارة : تحتفي أسرة موقع الناقد العراقي بالشاعر العراقي المبدع “اسعد الجبوري” الذي طبع بصمته المميزة والباهرة على جسد الشعرية العراقية ، ومازال وبمثابرة عزوم يغذ الخطى على طريق العذاب الآسر هذا .. فتحية له .

* شاعر ومترجم وناقد أدبي من المغرب

1. تجربة قلقة:
منذ أن تعرّفتُ على نصوص أسعد الجبوري (1951- )، قبل نحو عقْدٍ من الزمن، وأنا أدرك حجم المغامرة التي ينصرف إليها، بلا طمأنينة، هذا الشاعر العراقي. إنّهُ يقيم هناك، في التُّخوم، بلا سببٍ وجيه يُذْكر سوى وَسْم زمنيّته الخاصة بأسلوبه هو؛ لكن، في عمل مخيِّلته ولواحقها، لا هُويّة محدّدة لكتابته التي تقف على طرف نقيض من تلك الكتابات التي تعيّشت على مضمار التأثيرات السياسية والاجتماعية المباشرة كما حصل لجيلين من شعراء بلده، في مجرى طواحين الحرب وأزيزها الذي روّع الشعراء، وجعل ما يقولونه من شعرٍ ونحوه عصفاً مأكولاً على مائدة آلام العراق. وهو إذ يسعى بكتابته، إنّما كان يسعى إلى العمل على أن يُنْهض طاقات تعبير جديدة في لغة الشعر، وأن يعالج شعراً متحرراً من نسق الذهنية، ومن لغة الذعر بلغة لا مرجع لها، أو من الغبار الإيديولوجي كما يُؤْثر أن يسمّيه. يقول أسعد: “وإذا كان لا بُدّ من الحديث عن تجربتي الشخصية التي قد تكون غائمة لدى البعض، فهي تبدأ من نقطة واحدة هي أنني مررتُ بمنازل الشعراء وأكملتُ هروبي من الجميع دون التفكير بالسكن في دار، أو الاستقرار داخل أية علبة من غرفهم”. بمعنى إنّه يرفض أن يرهن شعره بمدرسة فنية يُقيم فيها، أو يُحيله على مرجعية شعرية تُصيِّره مادة للاستهلاك السريع. تاريخٌ من رفْضٍ لتسمية ما، ومن جوعٍ إلى ما لا يَنْقال في الشِّعر وعبره. نقرأ هذا التاريخ ابتداءً من أواسط السبعينيّات، أي منذ أن خرج الشاعر من العراق ووجد نفسه في غمار الحركة الشعرية العربية الجديدة بآفاقها المختلفة في دمشق وبيروت، متعرِّفاً على شعراء الحداثة من رموز قصيدة النثر. وهو إذ يريد أن يسم توقيعه الخاصّ ويبذره في مجرى الشعر كما يتطلّع إليه، فإنّه اكتشف في قصيدة النثر آنذاك مغناطيسية خاصة رأى فيها حريّته المفقودة، فجذبت حواسّه إليها، وحرّكت في لاوعيه ماء أعماق عمره السحيقة، وقدحت في مخيّلته “بنكاً” من الصور والأخيلة الطائرة لا ينضب في أفق المستقبل. وهكذا ارتضى تلك القصيدة خياراً فنّياً وأسلوبيّاً عكسته كتبه الشعرية الأولى بغرابة عناوينها، التي خيّبت أفق الانتظار النقدي واستُقبلت بخليط من الدهشة والاستغراب والرفض، ابتداءً من “ذبحت الوردة. . هل ذبحت الحلم”، الصادر عام 1977م، و”صخب طيور مشاكسة” عام 1978، ومروراً بـ “نسخة الذهب الأولى” 1988، و”الإمبراطور” 1995، و”العطر يقطع المخطوط” 2003، و”قاموس العاشقين: 1000 رسالة SMS ” 2006، وانتهاءً ب”على وشك الأسبرين” 2011.
وكأيّ تجربة شعرية قلقة، نشعر بأنفسنا في خضمّ عالم لجيٍّ من الحيرة تجاه كتابةٍ أكثر حيرة ولا تعرف ما تصنع بنا، إلّا أننا نشغف بها بقدر ما أنّها تعنينا بحساسيّتها وملفوظاتها الخبيئة، حتى وهي في شتاء مهجرها الإسكندنافي، لأنّها تتمتع بقدر هائل من الحيرة العربية، ومن بلاغة الموهبة العربية التي لا تخلو من عفو الخاطر وافتتان اللحظة والحيدة حيناً، ومن الكدر والهذيان والجموح حيناً آخر.
2. سورياليٌّ قبل أوانه:
في العصر الذي ظهر فيه الشاعر أسعد الجبوري من سبعينيّات القرن الفائت، لم تكن الذائقة الفنّية وروح العصر نفسه يرحّبان بمثل كتابته، فقد ضاعت صورٌ وحيواتٌ وكشوفاتٌ في الهامش، ولم تلْقَ حظوة النقد الأكاديمي الذي كان بيانيّاً ومتصلّباً وغير متسامح في أكثره مع الجديد والطليعي، ولا حتى مع الحديث نفسه: جورج حنين، جويس منصور، علي الناصر، عبد القادر الجنابي، عبدالله زريقة وسواهم؛ أي مع من اعتُبروا سورياليّين تحديداً. بدا أسعد الجبوري، من خلال عناوين كتبه وعفويّة جمله وملفوظاته الصادمة وانفراط صوره وشكل تمثُّلاته للعالم وطبائع مخلوقاته النافرة، سورياليّاً قبل أوانه، غير منصرف إلّا إلى حريّته وذاته بوصفها يوتوبيا، يحفزه خياله الثرّ على ارتياد مناطق غير معهودة في خارطة الشعر العربي.  يقول أسعد ثانية: “أنا كسوريالي أو غير سوريالي معنيٌّ بالمدى الذي توفره لي اللغة لأصنع منها طيراً خارج القفص، أو سمكة بعيدة عن الاكواريوم وذكرياته السوداء. السوريالية الغربية سهمُ في هواء النص، وهي في النص العربي عربة بعجلات ما تزال مربعة أو مثلثة”.‏‏
إنّ السوريالية ـ كما فهمها الشاعر نفسه ـ ليست مدرسة انتهت بزوال أسبابها وموت روّادها وانطفاء بياناتها المدوّية، بل هي استراتيجية داخل الكتابة التي تحرّره من الالتزام بمعناه النمطي، وتبدو كما لو أنّها بدون سقف، وهو ما يجعل إقامته في قصيدة النثر كخيارٍ جماليٍّ وفكريٍّ إقامةً على حوافّ الخطر؛ وهل لشاعر وجده نفسه في الشتات الشعري داخل قصيدة النثر مخفوراً بمخلوقاته الغريبة والحيويّة، وبلا برامج معهودة، ألّا أن يلوذ بالرّيح في مهبّ أسئلة لم تحتمل تلك الصيغ التي طُرِحت بها، ولا المقولات التي سيقَتْ بها.
3. الإقامة الخطرة:
بين قصيدة النثر كخيارٍ فنّي، والسوريالية كإستراتيجية في الكتابة يُقيم مشروع أسعد الجبوري ليس في تحديث الشعر العربي فحسب، بل في الرقيّ بذائقته الجمالية، وتحرير معناه ومخيِّلته من “الدوكسا”؛ وهو المشروع الذي نجده يختطُّ مجراه في ثباتٍ ووعيٍ بمنأى عن “ماكينة” التشويش التي تُواجَه بها مثل هذه المشاريع التي يبدعها العقل العربي في فضاءات الكتابة شعرها ونثرها. وإذا كان أغلب شعرائنا ممّن كتبوا قصيدة النثر، فإنّما تعاطوا مع أدواتها في اللغة والبناء والتصوُّر بذهنيّات قديمة، مطمئنّة ومتردّدة، فيما يقترح أسعد الجبوري في إقامته داخل قصيدة النثر معماريّةً خاصّةً به، ومُفارقة لغيره بمعانٍ شتَّى. وهكذا، بدلاً من أن نضع قصيدة أسعد بجوار القصائد الأخرى كـ”مومياءات” في المتحف الذي لم يعد يرتاده أحد ولا ورثة له، يجدر أن نحتفي بها، لأنّها تريد أن تكون نفسها بلا إجماع كاذب، وأن تختطّ مسارها الغرائبي الذي يشبهنا في عصر لم يكن لنا، ولا وافقته روحنا.  من هنا، وبسبب من تهمة “الغموض وعسر الهضم” التي تُرفع في وجهها، نحاول أن نُقدّم بعض الآليّات، من ضمن أخرى، نراها متداخلة ومترتّبة على بعضها الآخر وممكنةً لتلقّي الكتابة عند أسعد الجبوري، وقد استفَدْناها من البيانات التي يُطلقها الشاعر في كلّ مفترق طرق. أهمّ هذه الآليات لتلقّي شعر أسعد، في نظري، هي:
أ ـ الرؤية إلى العمل الشعري ليس باعتباره نظاماً، بقدر ما هو فعل كيميائي يتأتّى من “شراكة أبدية” ما بين كائنات الخارج بأبعادها الأنطولوجية وبين الباطن الضاجّ بودائع وأيقونات وتعاويذ في تاريخٍ مُوغلٍ ومهموم؛ وداخل هذا العمل تشعر بذات الشاعر ليس كفاعلٍ للخطاب فحسب، بل هي أشبه بعرّافة خارجة للتوّ من أتون السحر والخرافة، ولكنّها لا تدّعي نبوءة. عبر هذا البعد الكيميائي تكون للشّعر روائحه ووظيفته الغائية في اللغة التي تنقل الملفوظ الشعري من الذهنيّة إلى المحسوسيّة، وهو ما يفسح للتجربة المعيش واليومي مجالاً حيويّاً ( الإيروتيكا، تحديداً) لتطلق الكلمات في فضاء الرؤية وأسرار لعبة الخلق.
ب ـ الانزياح عن نسق البلاغة التقليدية بما يفيد تدمير الصيغ والعلاقات وهدم القوالب الشعرية المتداولة، وإحلال بلاغة توليديّة تنشأ من صيرورة العمل الدلالي، ممّا يجعل لغة الكتابة تلوذ ببلاغة شائكة وعصية على الفهم، إلّا أنها الرئة التي تتنفس بها الكلمات، فتقدر على إنتاج المعنى عبر علاقات حركته الداخلية التي تختطّ مسار إنتاجها في غفلةٍ عن ذات الشاعر نفسه، وصولاً إلى اللذّة التي تُجسِّدها عملية التأليف.

ج ـ رجّ الذائقة الفنية للشعر من داخل اللغة نفسها، مواجِهاً  لبنية استقبال لقارئ الذي لا يزال يتعايش مع ذهنيّة التلقي السائد ومأخوذاً بتمثيلات اللغة النفسية ومُقدّسها ومحدودية مجازها، وهو ما يوقظ في ذهن القارئ ووجدانه بمدى حاجزية اللغة ويشكّكه بها ويحرّضه على الوعي بها من جديد، بلا متعاليات.

د. بعث المخيِّلة لا بوصفها خزيناً لتكرير المشترك أو مجرّد استعارات مسكوكة تتسلّى مع النظام، بل بوصفها تمريناً لغوياً ـ تصويريّاً يبثّ الحمية في طاقات اللغة ويُطلق أطراف شهوتها عبر الفضاءات المختلفة، بما يستهدف وعي الشاعر والقارئ في آن، ويخلق رؤية بديلة للأشياء والكائنات والمفردات التي لم يبق منها في حياتنا غير القليل. ذلك ما يُحرّر أوهام النفس ويُقوّي الأداء التخيُّلي لديها. ولقد فهم أسعد الشعر باعتباره “خلاصة لروح الابتكار. خلاصة اللعبة اللغوية الكبرى التي تنتجها المُخيِّلة”.

هـ ـ اختلاق طاقة شعرية تعبيرية ـ رؤيويّة بديلة تمتح من الصورة والصوت، قادرة على تحويل الأصوات والرموز والإشارات إلى حقول بصريّة ممكنة وشاسعة، وذلك بموازاة مع رقمنة العمل الشعري بتصييره نصّاً رقميّاً يأخذ طريقه إلى التحول الأتوماتيكي الذي يُجنِّح مخلوقات اللغة نحو حقولها المجهولة على الدوام، بقدرما يجسر العلاقة المفقودة إلى اليوم ما بين الشاشة الشعرية وبين المشاهد المحفوز على أن يُبْصر بحواسّه أكثر ممّا يقرأ.

لمّا سُئِل الشاعر أسعد الجبوري عمّا لم يكتبه إلى الآن، بعد أكثر من عشر كتب شعريّة كانت دائماً مثار جدل، قال: “هو الشعر بذاته.. فكلما كتب الشاعر نصّاً، خرج من غيبوبة ليدخل أخرى دون أن يُدرك ما الذي يحدث له بالضبط.. لذا أحسّ بأن الشاعر القوي هو الشاعر الذي يكتب في الريح”. أعتقد بأنّ مثل التوصيف، مع محاذيره، مهمٌّ للولوج إلى تجربة قلقة في الشعر عامّة، ومختبر قصيدة النثر تحديداً، يتحرّج النقاد من مقاربتها والدنوّ، وإلّا في ما تُفيدنا مثل تلك الشذرات التي يُطلقها شعراء سومر وأيتامها من بلادٍ كانت دائماً على حوافّ الخطر، مثلها مثل إقامتهم على حوافّ الشعر وآماله الخطرة التي “يسهر الخلق جرّاها ويختصم”، ولعلّ أقدمها وأصفاها في آن، شذرة المتنبي: “على قلقٍ كأنّ الريح تحتي!”

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *