كثيرا ًما يُتهم الأديب الذي يكتب للصحف اليومية في القضايا العامة ـ من قبل أقرانه الأدباء ـ بالعمالة للصحافة والانسياق وراء مغرياتها وأكاذيبها ، والتفريط بالعباءة المقدّسة التي أورثها للأدباء نبيُّهم الضال المتنبّي مزركشة بثقوب العثـّة والغبار من أجل الإستمتاع بالنوم في جيوب رؤساء التحرير ومسؤولي الصفحات .
إن مجموعة من التهم الفرعية ستتفرّع عن هذه التهمة الأساسية وستلصق جميعها بوجه الأديب كما تلصق الإعلانات بالجدران فلا نتبيّن من وجهه سوى عينيه ، وفي مقدمة تلك التهم الفرعية وصمه بخيانة نفسه وخيانة الأدب معا ً خيانة مؤسفة لا تعالج أثارها إلا بقرار من محكمة جرائم الحرب الدولية .
من الواضح إن هذا النوع من الاتهامات مبني على قناعات إستعلائية مفادها إنّ الأديب هو شيخ الشيوخ في عشيرة حَمَلة الأقلام وليس من الحكمة أن يفرّيط بمنزلته العشائرية السامية ويترك مجالسة أقرانه الشيوخ في مضيفه العامر بحجّة التواضع ليتناول قهوته المُرّة على الرحلات المدرسية الخشبية مع طلبة الصفوف الأولى الإبتدائية ، أضف إلى ذلك إن هذا النوع من الاتهامات مبني على قناعة ضالة اخرى مفادها أنّ أبانا المِزواج ( الأدب ) لا ينجب سوى الشعر ، والنقد ، والسرديّات ، وإذا ما حدث أن أنجب مولودا ًأخر من غير تلك الأجناس فانه لا يتحرّج أن يلقي به إلى قطط مستشفى الولادة ، متنكرا ً له ، وغير آسف على انتظار ومعاناة تسعة شهور من الحمل .
أنا متأكد بأن هذه الاتهامات القاسية الجاسية التي يوجهها زملاؤنا الأدباء لمن يمتهن منهم في الصحافة ويكتب في القضايا العامة وينخرط في صفوف الإعلاميين جامعاً في موهبته صفتي الإعلامي والأديب معاً هي إتهامات كيديّة ، لا تؤكدها القرائن ولا الشهود ، كما أنني متأكد بانّ الأدباء الذين يكتبون للصحافة صادقين في ولائهم وحبّهم لها سيبقون في الوقت ذاته صادقين في ولائهم وحبّهم للأدب ، وإنهم لم يغترّوا بالرغم من المغريات الكثيرة بالتجسس على الغرف السرية للأدب لصالح رؤساء التحرير ، وأنهم لم يتسلموا من مدراء التحرير أي جهاز للتنصّت أو التفجير عن بُعد ، وانّ فنجان القهوة الذي سيشربونه في غرفة سكرتيري التحرير او مع أيّ من مسؤولي الصفحات السياسيّة أو الاقتصادية أو الرياضيّة سيخسرون في مقابله من جيوبهم ثمن عشرين فنجانا .
إن مغازلة الأديب للصحافة ، وانضوائه تحت فستانها القصير لا يعني بالضرورة ألتفريط بعِشرة الأدب وخيانته له ، لأن شريعة الكتابة تسمح بتعدد الزوجات ، وان الشرائع التي تسمح بتعدد الزوجات لا تجد ضيرا ً أن يشطر الزوج قلبه بسكين الحب ما بين زوجاته بالتساوي .
لعل الأفاق الواسعة التي فتحتها التجربة الديمقراطية في العراق أمام الصحافة ، والفرص التي وفـّرتها أمام العاملين فيها للعمل والإرتزاق جعلت الكثير من الخُطـّاب يتردّدون عليها ويخطبون ودّها ، والأدباء هم في مقدمة أولئك الخُطـّاب الواعدين ، بل ربما يرى بعض أولئك الأدباء بأنهم أحقّ ببنت عمّهم ( الصحافة ) من باعة الخضار واللحوم الذين تدافعوا إلى المطابع ليلطـّخوا أوجههم وأثوابهم بالحبر ظنا ً منهم بانّ ذلك التلطيخ هو خير شفيع لهم عندها .
كما إن تجربة الانفتاح الإعلامي ذاتها في أجواء الحريّة والديمقراطية جعلت الأديب يتذكر بأن للأدب أبناءا ً شرعيين آخرين من زوجته الأثيرة ( الإبداع ) وهؤلاء الأبناء هم غير أبنائه التقليديين ( الشعر والنقد والسردّيات ) وفي مقدمة أبنائه الآخرين كريمته الصغيرة المدللة ( المقالة الإبداعية ) التي لا تكتفي من اللغة بمفردات قاموس الخطاب اليومي المباشر فحسب ، ولا تكتفي من الواقع بالصورة الفوتوغرافية فحسب ، ولا تكتفي من الخبر باللحظة التي تمرّ بها عليه العين ، ومن ثمّ تهضمه الذاكرة وتنساه ، وأن المقالة الإبداعية حين تتجاوز كل تلك المحدّدات فإنها ستدخل في حدود منطقة الإستكشافات الإبداعية وستُمنح عمرا ًمضافا أطول هو عمر الإبداع الذي لا علاقة له بعمر الحدث .
إن المقالة بهذا المعنى جنس من أجناس الأدب ، وولد شرعي من أولاده تتجمّع فيه كل الصفات الوراثية التي تؤكد شرعيّته ، وصحة نسبه ، وصدق انتمائه إلى الأب .
أما الذين يشككون في صحة هذا الانتساب فما عليهم إلا أن يجمعوا عيّنات من المقالات التي سبقنا إلى كتابتها أدباء عراقيون وعرب وأجانب وأن يحرّضوا مختبرات النقد لأجراء فحوصات الحمض النووي عليها ، وكلـّي ثقة بأنّ نتائج الفحص والتحليل ستؤكد إن تلك الكتابات تنتمي إلى أب واحد هو الأدب .
ليث الصندوق : ملاحظة في الكتابة ..
تعليقات الفيسبوك