يُصدّر وارد بدر السالم روايته ( عجائب بغداد/ دار ثقافة.. بيروت 2012 ) بهذه الحوارية الافتراضية مع هتلر؛
“من هم الذين تكرههم أشد الكره؟
ـ أولئك الذين ساعدوني على احتلال بلدانهم”.
وبها يضيئ، منذ البدء، الموجِّه الإيديولوجي العميق للرواية. مفصحاً عن موقف الراوي الأول ورؤيته إلى الحدث الذي يعالجه، ويتمثل تاريخياً بسقوط نظام صدام واحتلال العراق نيسان 2003. وما أعقبه من متغيرات دراماتيكية دامية. ويمكننا أن نفترض أن هذا هو موقف المؤلف ورؤيته في الوقت نفسه. فالرواية تمثيل سردي فني لوجه من تاريخ العراق المعاصر، من منظور خاص يستعين، غالباً، بالنسق التتابعي لحركة الأحداث وتبلور صور الشخصيات، ينكسر أحياناً بنسق استرجاعي ( فلاش باك ) لخلق نوع من التضاد الذي يعطي النص الروائي حيويته. والنص مكتوب بالأسلوب الواقعي المشرّب بما هو غير معقول وعجيب لتعميق الدلالات التي يريد الروائي بثّها عبره.
تحكي الرواية بضمير المتكلم عن صحافي من أصل عراقي يعمل في مجلة نسائية بدبي يُكلّف من قبل رئيس تحريرها بالتوجه إلى بغداد مع احتدام الحرب الطائفية.
“عدت من دبي بعد مقتل أطوار بهجت” ص9.
ولأنه لم يكن قد رأى بلاده من قبل، هو الذي ولد في الخارج، فإن كلمة “عدت” لا تستقيم مع وضعه ظاهرياً إلاّ إذا قلنا أن بلاده كانت تعيش في ضميره ووعيه ويكوِّن الجزء الأهم من مخياله على الرغم من أنه لن يخبرنا عن هذا؟. أما الإشارة إلى مقتل أطوار بهجت فيمكن تأويلها بخطورة ما هو مقدم عليه، فضلاً عن روح التحدي التي تلبسته:
“وهذه أطوار بهجت ميتة في سامراء، أطوار التي حفّزت روحي الغريبة كي أكون هنا، فتاريخي الشخصي بدأ من لحظة ذبحها البشعة” ص 173.
غير أن ما يبحث عنه الراوي هو أناه، نفسه العائمة في الأمكنة من دون وجود أرض صلبة يقف عليها بثقة.. من هنا تكون إشكالية الهوية هي هاجسه، وربما هي الثيمة الرئيسة للرواية. لتنطوي على صراع غير معلن مع شخصية الأب ذاته.
أبوه بحّار، جوّاب آفاق، مزواج، ترك بلاده منذ زمن بعيد يائساً، وسينعكس حالة اليأس هذه التي لا يخفيها على أفكار ابنه المتوجّه إلى عاصمة بلاده المحتلة:
“أيقنت أني أذهب في الوقت الخطأ إلى المكان الخطأ والحالة الخطأ والوطن المحتمل” ص10.
وهذه السلبية الصارخة لابد من أن تنعكس على تصوّره عن المهمة التي دُفع رُغماً عنه لتأديتها: “إنني كنت أجرّب لساني وصوتي ولهجتي وثيابي وفصولي ومدينتي التي أعود إليها مكرهاً، كما لو أن القدر منحني فرصة أن أدوِّن خرابها الأكيد وأكون شاهداً على زوالها” ص43. فيما يبدو رئيسه في العمل ( بو حمد ) وكأنه أكثر وعياً منه لما يجب أن يقوم به، حاثاً إياه على المضي بمهمته: “ولولا الاحتلال وتداعياته لما كنت تعرف بغداد.. أبوك مهاجر لا يستقر. وهذه فرصتك أن تعيد الأب إلى حاضنته” ص31. وفي مقاطع كثيرة يكون بو حمد هو المخاطَب كما لو أنه المروي له الرئيس في الرواية. وهو الذي سينبِّه الراوي إلى المعضلة النفسية والذهنية والوجودية التي يعيشها بسبب هويته الملتبسة.. يقول له بصدد الوطن: “هذا هويتك فلا تكن مثل أبيك عاقاً له” ص117.
يستخدم المؤلف الهوامش كتقنية سردية للتخلص من العوالق الزائدة التي تكون ضرورية في الغالب لإشباع صورة الحدث لكنها تثقل متن الرواية، وقد تُعرِّض تناغمه الفني للاختلال. ففي الهوامش يتحدث عن أشخاص، ويدوِّن حوارات عابرة، أخباراً، معلومات سياسية وتاريخية، ذكريات، ونصوصَ رسائل متبادلة بينه وبين الآخرين بالبريد الإلكتروني.
إن جزءاً مهماً من رؤى ومواقف الراوي/ البطل يتجلى في رسائله التي يتبادلها مع صديقته المسيحية في دبي ( ميريام )، وزميلته الصحافية الإنجليزية ( لورا ). وعلى الرغم من إشارات الراوي المبعثرة إلى أنه لا يهتم بالسياسة غيرَ أن له موقفاً سياسياً واضحاً من الحدث الذي لم يكن شهد تفاصيله، قبل وصوله بغداد، إلاّ من خلال وسائل الإعلام. يقول لرئيس التحرير قبل توجّهه إلى بغداد: “المجلة لا تحتاج إلى قصص حرب مقرفة وبشعة عن همج يتقاتلون من أجل لا شيء”. أهو قتال من أجل لا شيء، أم أن الغاية هي السلطة والثروة والنفوذ، فيما الوقود والضحية هي الوطن وناسه الأبرياء؟. لعل الراوي لم يكن ناضجاً كفاية وكان بحاجة إلى التجربة على الأرض ليبلور قناعاته برسوخ. يقول في واحدة من رسائله للورا:
“لا أحفل بالسياسة كثيراً، بل لا تهمني مطلقاً. أعترف لك أني لا أعرف بغداد ولا صدام ولا أعرف ما الذي حصل ولا أدري لماذا أبي سرق مني حلم انتمائي. وما أقوله لك بدأت أعرفه الآن لأني هنا وأسمع منك ومن الناس” ص71.
لكنه بدا من فحوى رسائله الأولى إلى ميريام وكأنه يمتلك رؤية مسبقة عمّا يجري، وكنت أتمنى أن يمضي بعملية الاستكشاف وبناء الأفكار والقناعات شيئاً فشيئاً. وهذا ما سيحصل في النهاية حين ستنقلب سلبيته إلى موقف آخر مضاد، سنبيّنه في حينه.
يحيل عنوان الرواية ( عجائب بغداد ) إلى ما هو غير اعتيادي وخارق وباعث على العجب، وهو ما يجري في ضمن مكان متعين جغرافياً ( بغداد ) في المدة التي تلي احتلالها وتغيير نظامها السياسي ( بعد نيسان 2003 ). وهنا يختلق ثلاث صور سوريالية؛ الأولى صورة الرجل المقطوع الرأس الذي يتحرك ويروي قصته؛ “حبه للحياة جعله يفر من قاتليه.. شعوره بالظلم في لحظة حز رأسه أبقاه حيّاً.. هذه هي حكايته” ص181. وصورة الإصبع المنتصب بغضب في وجه العالم “إصبع يعود من قبره إلى بيت ذويه” ص79. هذا الإصبع سيدّل الناس إلى الأعجوبة الثالثة: “ألح أخي الإصبع أن يكتب شيئاً. امتزج إصبعه بإصبعي وخط أن هناك رماداً في الأعظمية لم يمت بعد اسرعوا قبل أن يدفنوه” ص125. وسيوضع الرماد وهو لفتاة ذبحوها وأحرقوها في زجاجة ثقبوا سدادتها لامتصاص غضبها، فرمادها يلوب ويرسم خطوطاً دالة مفهومة لذويها.. هذه الصور الثلاث لا تبدو مقنعة تماماً لأنها غير معقولة وغير واقعية وترد في سياق شديد الواقعية، وتبرز على حين فجأة من غير مقدمات يهيئ القارئ لتقبلها. أما الإشارة إلى منطقة الأعظمية مكاناً لذبح فتاة وإحراقها فقد توحي للوهلة الأولى بانحياز الراوي، في التنازع الطائفي، إلى جهة ضد أخرى. غير أن قراءة الرواية بكاملها تُظهر أن الراوي هو ضد الطرفين المتقاتلين معاً، وأن القرية اليوتوبية التي سيبتكرها هي الوطن البديل للضحايا المنتمين للطوائف والملل كافة، والذين ينشدون السلام والوئام الاجتماعيين ويتطلعون إلى وطن يسع الجميع. ولتخطي هذه النقطة الحساسة التي قد تفضي إلى سوء فهم كان الأحرى بالروائي أن يشير إلى الجهات ( شمال، جنوب، شرق، غرب، وسط/ بغداد ) بدلاً من تحديد بعض الأماكن، لتفادي الوقوع في مطب التأويل السيء.
يسوِّغ الراوي وجود هذه المشاهد على طريقته؛ “حالات خرجت عن الخيال الروائي ودخلت في مجرّات العبث الخيالي حينما يكون هذا الأخير ورقة عبور لدهشة القارئ” ص114.. وفي موضع آخر يقول عن رماد الفتاة في الزجاجة، مخاطباً بو حمد: “لم تتشكل بالسحر يا بو حمد.. لقد تشكلت من بشاعة الحرب وقسوتها” ص126.
وربما أراد الروائي تعميق البعد السوريالي للوقائع التي يحكي عنها. وكان يمكن أن يكتفي بمشاهد تنتمي إلى العجيب وغير الاعتيادي والكابوسي رسمها في روايته، ولا تخلو من نَفَسٍ سوريالي مثل: مشهد رأس مقطوع في يد أطفال.. مشهد الطفلة مع الرجل الأعمى المتسول والقاتل.. مشهد بطاقات الهوية التي يستلّها الصياد من ملابس جثث الضحايا المرمية في النهر، ويعرضها على حائط المقهى في القرية. وعشرات المشاهد المرعبة الأخرى.
ثمة شخصية مثيرة في الرواية هي شخصية الأستاذ المقيم في قرية فقيرة بنيت عشوائياً بعد الاحتلال في ضاحية من بغداد ولاذ بها الهاربون من تهديدات الحرب الطائفية وشناعتها، يحوِّلها الأستاذ بحكمته وإصراره إلى ما يشبه اليوتوبيا البديلة.. وفي كل يد من يديّ الأستاذ إصبع زائد، ولم أفهم دلالة وجود هذين الإصبعين سوى أنهما يوحيان بفرادته.. هذه الشخصية تكاد تحاكي شخصيات معروفة في عالم الأدب والفكر؛ ( سدهارتا؛ هيرمان هيسه، زرادشت؛ نيتشة، النبي؛ جبران خليل جبران ).. يعرِّفه مراسل إحدى القنوات الأميركية بالعبارات التالية؛ “مؤسس حي من الصفيح في بغداد.. مفكر غير معروف يخلط الأديان في دين جديد قوامه شخصية بوذا وأفكاره.. أكاديمي سبعيني يعد أستاذ الأجيال في العراق.. مؤسس حركة اجتماعية تأخذ من الأديان جوهرها وترمي بتفاصيلها في قاع النهر.. رجل الساعة في بغداد يقود حركة تصحيحية ضد رجال الدين المتزمتين” ص185. ولا أدري كيف سيقع الأستاذ في المقابلة التلفزيونية ذاتها، هو الداعي إلى وحدة الأديان، بمطب نعت بريمر/ الحاكم الأمريكي في العراق باليهودي، باخساً من قيمته لهذا، وليس لأي شيء آخر، وهو ( أي الأستاذ ) الرجل المثقف الذي يتقن الإنجليزية ويخاطب جمهوراً أميركياً وغربياً. وأعتقد ان المؤلف كان يُسقط كثيراً من قناعات إيديولوجية على شخصياته، ويضع على ألسنتهم ما لا يتوافق مع أفكارهم وثقافاتهم وأمزجتهم.
وأمثلة أخرى بهذا الصدد: ما يقوله الأب للراوي حين يحصل الأخير على جواز جديد، وهو في دبي؛ “دعني أرى توقيعاً كردياً على جواز عربي.. هههههه” ص183. وبطبيعة الحال لا يمكن إخفاء دلالة هذه العبارة.. ما تقوله لورا الصحافية الإنجليزية، مراسلة قناة البي بي سي عن الجنود الأميركان؛ “هؤلاء غزاة ومرتزقة. هنود حمر. ميتو قلوب” ص71. أيعقل أن تصفهم بالهنود الحمر ( ميتو القلوب )، إلاّ إذا كانت تحمل روحاً عنصرية، ولا أظنها من خلال طبيعة شخصيتها التي رسمها الروائي بأنها كذلك؟.
وحين يوضع الإصبع ( الإعجازي ) على يد مراسل صحافي أميركي ينتصب متوتراً ويترجم ( أخو الإصبع ) حركته هكذا؛ “لقد بصق عليك أيها الأميركي” ص196. وكان يمكن أن يكون هذا التصرف مقبولاً ومسوّغاً فيما إذا كان المبصوق عليه جنرالاً أو سياسياً أميركياً، لا مراسلاً صحافياً.
يتعلق الراوي بالقرية العشوائية وناسها حتى ليشعر في لحظة تجل كما لو أنه ولد فيها، فحين يغيب عنها لبعض الوقت يهاتفه الأستاذ؛
” ـ لا تغب هكذا.. وينك؟
ـ سأغيب عنكم يومين يا أستاذ وأعود.. أعود إلى.. الأبد” ص164. ويقول لأحد الصحافيين: “ولدت هنا.. هذا مسقط رأسي” ص169
ففي هذه القرية يحدث التحوّل الحاسم في وعي الراوي وقناعاته، ويكون قد عثر على نفسه وهويته ومعنى وجوده. وفيها سيساهم بإقامة مهرجان ذي طابع حضاري يدعو إليه زملاءه من مراسلي الصحف والقنوات الفضائية، وخلال ذلك تُقدم مسرحية القرية البوذية، يلخص الأستاذ مغزاها بهذه العبارات؛ “تعالوا بقوة وانهضوا من رمادكم وقولوا للعالم لن نموت بطريقتهم”. فالقرية تسعى لتكون خلاصة للتمدن والثقافة الرفيعة، وللوئام والسلام الاجتماعيين، بوجه قوى الجهل والطائفية والإرهاب.
ويستمر مسلسل الموت المجاني في البلاد، ويزداد عدد الآباء والأمهات المفجوعين باختفاء أبنائهم.. يحضرون إلى القرية ليتأكدوا فيما إذا كان الصياد قد التقط بطاقات الهوية الخاصة بمفقوديهم ( من جيوبهم )، ولا يهم إن كان قد ترك الجثث طعماً للأسماك. ويرسم الروائي واحداً من أكثر الصور فجائعية حين يقبل الأستاذ من جهة النهر:
“ويعود ( الأستاذ ) رافعاً إحدى يديه بأصابعها الست بحفنة جديدة منها ( الهويات الشخصية ) وعشرات الأكف والوجوه تشكِّل خطاً طويلاً من الأجساد المتراصفة تنتظر ولادة الموت الجديد بين يدي الأستاذ الصاعد إليهم بملابس مبللة ووجهه السعيد ينشر أمل العثور على موت لم يجف دم الجريمة عليه بعد.
ـ كونوا بأمل دائماً” ص219. ولا ندري لِمَ هو سعيد، وأي أمل هذا الذي يتحدث عنه سوى أن يكون متهكماً يائساً. ويبلغ الحدث ذروة التراجيديا ( هل نقول؛ الكوميديا السوداء ) مع مقتل الصياد نفسه في نهاية الرواية؛
“لقد قتلوا الصياد
قتلوا
الصيااااااااااااد” ص222.
شخصياً كنت أتمنى أن يكون فصل الإقفال في الرواية أكثر تفاؤلاً ( جعل الفصل الخاص بعرض مسرحية القرية البوذية هو الأخير ). ولكنه اختيار المؤلف وعلينا أن نحترمه.
سعد محمّد رحيم : “عجائب بغداد” إشكالية البحث عن الهوية
تعليقات الفيسبوك