مجدي ممدوح : “كتاب الوجد” لبشرى البستاني….الاحتفاء بالاختلاف

عندما يبدأ مشروع الشاعر بالتبلور,  تصبح له أبجدية خاصة به, والتي يمكن عدها من أهم الملامح التي تطبع مشروعه الشعري, بشرى البستاني لها أبجديتها, والدارس لشعرها عليه أن يلم بهذه الأبجدية حتى يتمكن من الولوج إلى عوالمها, أبجدية بشرى توظف مفردات ذات طاقة دلالية عالية, وهي في جهد دؤوب ومستمر بالبحث عن هذه المفردات ذات الجدة والتي لم تمتهن بالاستعمال المتكرر،  وتستمر بشرى في امتحان قدرة هذه المفردات واكتشاف طاقاتها إلى أن تستخرج منها كل ممكناته التعبيرية, ولا تلبث تلك المفردات أن تتحول إلى شفرات تنفتح على فضاء نصي رحب ، فجهد الشاعرة بشرى البستاني في امتحان اللغة وتطويعها كان يسير جنبا إلى جنب مع تنامي مشروعها الشعري,وهذا هو الشرط الأساسي  برأينا لاستمرار وحيوية أي مشروع شعري أو ابداعي . إن الكثير من المشاريع اختنقت بسبب محدودية اللغة وعدم مطاوعتها لخيال الشاعر, وهذا ما لاحظناه عند محمود درويش عندما صرح  بكل وضوح في ديوانه “كزهر اللوز أو ابعد” أن أبجديته الشعرية استنفذت كل احتمالاتها وتشكلاتها الممكنة, وكأني به ألقى باللائمة على اللغة العربية, ونرى عند درويش نزعة ميتا شعرية واضحة في نتاجه المتأخر, حيث أصبح يتكلم عن معاناته في إبداع القصيدة داخل فضاء القصيدة نفسها, أصبح فضاء النص مكانا للحديث عن معاناة مبدع النص, عبقرية درويش الشعرية  استخرجت كل ممكنات وطاقة اللغة القاموسية, وقد كان له نتاج شعريا نوعيا وكميا وضعه في مصاف العظماء, حتى ان الباريسيين أصبحوا يقرأونه أكثر من الشعراء الفرنسيين, لقد كان درويش من القلائل الذين نجحوا في سردنة الشعر الى جانب سعدي يوسف وغيره من الشعراء, ويبدو ان بشرى انتبهت في وقت مبكر إلى هذه المسالة وحدست بما يشبه الإلهام ان أبجديتها ستستنفذ كل احتمالاتها الممكنة, مما حدا بها إلى توسيع فضائها التعبيري عن طريق الترميز والتشفير وتطويع المفردات, ونستطيع  أن نرصد جملة من المفردات التي تتحول الى شفرات مع توظيفها المتعدد في النصوص, مما جعل هذه المفردات ملغمة بالدلالات, وهذا بدا واضحا حين اشتكى مترجموها أنهم لا يجدون مقابلا لغويا يفي بالغرض لبعض مفرداتها, فإحدى المترجمات وقعت في حيرة كبيرة عندما أرادت ترجمة مفردة مكابدات المتضمنة في عنوان ديوانها ” مكابدات الشجر” , فالمكابدة معنى مركب ومعقد تتداخل فيه جملة من العواطف والأحاسيس النادرة, فلن تفي كلمة suffering     مثلا بالغرض للحلول  مكان مفردة المكابدة, و الكلام عينه ينسحب على  مفردة “يلوب ” و”لوبان”
وهنا نتعرف على مفردة “الوجد” التي اختارتها بشرى عنوانا لديوانها الجديد والموسوم ” كتاب الوجد,  فمهما بحثنا عن مكافئ دلالي  أو بديل فلن نجد ولو بعشر معشار طاقتها , ولا نبالغ إذا قلنا أن بشرى البستاني احتاجت إلى مساحة الديوان بأكمله لكي تنجز مهمة تفكيك الوجد إلى مكوناته البسيطة القابلة للتمثل, ونحن على يقين أن بشرى ستعاود من الآن وصاعدا استعمال مفردة الوجد في نصوصها الجديدة, ولكن علينا أن نعي أن المفردة أينما ظهرت من الآن وصاعدا فهي ستمثل شفرة تنفتح على كامل فضاء النص المتضمن في كتاب الوجد , هذا ما عنيته تحديدا عندما تكلمت في البداية عن جهد بشرى الدءوب في تطويع اللغة وتثو يرها لكي تضطلع بالمهمة الموكلة لها وهي التعبير عن رؤى الشاعر . إن اللغة بوصفها نسقا محددا تميل إلى مقاومة الشعر, وعلينا أن لا ندع اللغة تسير على هواها إذا أردنا إنتاج شعر حقيقي, يجب ان نمارس عنفا ضد اللغة, ويمكن القول دون كبير خطأ أن الشعر بمجمله قائم على العنف الذي يمارس ضد اللغة وإزاحتها عن دلالتها المعهودة وجرها إلى مناطق لم تألفها, ولقد صرح الناقد التفكيكي بول دي مان في أكثر من موضع في كتاباته ان الأدب لا يمكن ان ينتج بدون هذا العنف.

بشرى البستاني أدركت بما يشبه الإلهام ان المتصوفة اصطدموا بأسوار اللغة المنيعة, وأدركوا أن اللغة بمعانيها القاموسية ستخنق كل محاولاتهم في التعبير عن الأحوال التي تصادفهم والتي تُطير الألباب وتشعل القلوب, أحوال خصبة حد التناقض, وكثيرا ما نقرأ عند المتصوفة عبارات من قبيل” تواجد حتى مات:” وهي حقيقة وليس مجازا, ولا يفهمها إلا من خبر التجربة الصوفية, ولو كان بمقدور الصوفي أن يعبر عن حالة الوجد التي تمر به في قالب لغوي يتسع لها لما مات, هذا هو الوجد الذي يشبه المرجل الذي يمور بالمتناقضات.

إذن جاء ارتحال بشرى نحو التصوف كنوع من التوسع النوعي العمودي بعد ان اطمأنت ان مشروعها الشعري قد امتد أفقيا بشكل مرض, وتذكر في مقدمة كتاب الوجد ان ارتحالها للتصوف جاء كنوع من الاصطفاف ضد الظلم, فمن المعروف إن نشأة التصوف في تراثنا جاءت كتيار زهد ضد الإغراق في الملذات والحس, لقد كان هناك نهبٌا للمال العام وحرمانا لجمهور الناس, واستخدام هذه الأموال في المتع الحسية, لقد كان الظلم صنو الحس في تراثنا العربي, وهو ترابط تاريخي وليس ترابطا مفهوميا, بمعنى ان مفهوم الحس لا يحيل بالضرورة الى مفهوم الظلم, والدليل على ذلك ان الظلم لم يرتبط بالفكر الغربي إلا بالفكر المثالي الذي تبنته الطبقة الرأسمالية المهيمنة لتغييب الواقع, وكانت مقاومة هذا الظلم ذات طابع واقعي مادي كما شاهدنا في الماركسية التي جاءت كفكر مادي بحت لمجابهة الظلم المدعوم بالفكر المثالي, هكذا جاء ارتحال بشرى نحو التعبير الصوفي كاحتجاج على هيمنة الحس وتمدده الأفقي الأجوف على مساحة وجودنا, واتجهت إلى الامتداد النوعي العمودي, أفادت بشرى من التجربة الصوفية وتقنياتها في التعبير عن الأحوال الشعورية بكثافة لا سابق لها, ونحن نلحظ باستغراب أن المتصوفة لم يشتكوا يوما  من فقر اللغة أو قصورها, بل أنهم كانوا في منتهى الجرأة حين أقدموا على عمليات نحت لغوية خاصة بهم , وأقدموا على الاستخدام المختلف وغير المعهود لللغة, لقد مارسوا العنف ضد اللغة إلى أقصى الحدود خدمة لأغراضهم, وفي هذه المسالة  نستطيع ان نعدهم أجرأ من الشعراء, إذ نلاحظ مثلا أن المتصوفة نحتوا مصطلحا من قبيل “العلم اللدني” . مستندين إلى الآية الكريمة” وأتيناه من لدنا علما” دلالة عل العلم الذي يأتي من دون كسب أو جهد, وهو من نوع العلم الذي اوتيه الخضر عليه السلام, ونحتوا مصطلحا من قبيل مرتبة العندية وهي مرتبة الجوار مع الذات الإلهية المنزهة عن كل غرض, والتي اشتقت من الآية الكريمة” قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة”, وهنا سبقت مفردة عندك مفردة الجنة دلالة على أن الجوار هو المطلوب وهو المفضل على نعيم الجنة ومتعها, وعل العموم فقد خلق المتصوفة لأنفسهم جهازا اصطلاحيا عالي التقنية , ولا يمكن فهم نصوصهم الا بالرجوع الى معجم خاص بالمصطلحات الصوفية, هكذا نرى ان نصوصهم على قصرها تضج بالمعاني والأحوال,  وهذا النزوع الصوفي والكثافة بالتعبير نرصده بكل وضوح في كتاب الوجد, ونحن بالطبع نستطيع ان ندخل مدخلا نقديا  مغايرا لكتاب الوجد عدا عن المدخل الصوفي الذي اخترناه, وهو مدخل التعبيرية, حيث أن التعبيرية كانت  من أهم الإضافات الى نظرية الفن, فلقد هيمن عنصرا المحاكاة والتطهر على نظرية الفن منذ عهد أرسطو وحتى وفتنا الحاضر, ولكن ظهور المدرسة التعبيرية في ألمانيا أدى إلى بروز عنصر جديد في مقاربة العمل الفني , فالتعبيرية تعتقد ان كثافة التعبير وصدق المشاعر هما الكفيلان بتوصيل العمل الفني, ولقد انبثقت التعبيرية بالأساس من جماليات الموسيقى, حيث ان عنصر المحاكاة والتطهر غير واضح في التعبير الموسيقي ولا يستطيع ان يفسر العمل الموسيقي, حيث يكون عنصر المحاكاة مخاتلا وغير أساسي في إنشاء العمل, فجاء مفهوم التعبيرية ليوضح  كيفية انبجاس المشاعر والأحاسيس المكثفة مباشرة من الوجدان الإنساني دون وسائط واضحة, وسواء دخلنا الى كتاب الوجد من المدخل التعبيري او الصوفي فالنتائج واحدة, ولكننا أردنا التنبيه إلى أن التعبير الصوفي ليس تعبيرا ماورائيا غيبيا بل أن له طرائقه القابلة للتحليل والفهم, وسنبقى هنا مواكبين للمدخل الصوفي  لأنه واضح ومفهوم للذائقة العربية نظرا لشهرة المتصوفة بين المختصين وغير المختصين .

كتاب الوجد يقدم مقاربة غير تقليدية للحب , بل يمكن القول بدون تعسف انه يقدم نظرية جديدة في الحب, نظرية قائمة على الاختلاف, ونحن نعلم أن الاختلاف غير محتفى به في ثقافتنا العربية, فنحن لا زلنا نعتقد أن كل اختلاف فتنة, هكذا درجت العادة منذ الفتنة الكبرى , ولكن كتاب الوجد يرى أن بذرة الحب لا تنبثق ولا تنشا إلا في الاختلاف, ومع أن الفكرة صادمة قليلا للحس المشترك , إلا أن هذه الحقيقة هي التي سيجليها كتاب الوجد, أن الحب لا ينشأ إلا بين الأضداد, حيث أن الآخر المختلف يشعل فضولنا بما يمتلك من أشياء لا تتوفر لدينا , وإذا ما عرفنا أن الحب هو في جوهره محاولة للخروج من دائرة الذات والتوسع للخارج والاغناء, فان الآخر المختلف , الضد, يشكل هدفا مثاليا لهذا الاغناء والتوسع, ولكي تكتمل دائرة الاختلاف ويصبح عميقا ومتجذرا فإننا نختار الحبيب من الجنس الأخر, أما الحب الذي ينشأ بين الأشباه ،  فهو لا يعدو كونه ألفة لا وجد فيها ولا اضطرام, وهذه النظرة للحب تقلب كافة التصورات التي وضعت منذ حوار المأدبة الأفلاطوني  والذي كرس الحب بشكل يقيني  بأنه انجذاب بين الأشباه, وهذه النظرة تم تكريسها لاحقا في الثقافة العربية بواسطة ابن حزم الأندلسي في رسالته الشهيرة” طوق الحمامة في  في الألفة والإيلاف”, ولنتكلم دون مواربة او مداهنة ونقول: ان طوق الحمامة في مجمله قدم مقاربة خاطئة ومخطوءة لموضوعة الحب وهذا ما سيقوله كتاب الوجد بكل وضوح, لقد عالج الفيلسوف المصري زكريا إبراهيم موضوعة الحب في كتابه الممتاز ” مشكلة الحب” وكان له مدخل ممتاز للحب حسب نظرية الاتصال , وتوصل الى هذا الاستنتاج بشكل او بآخر, ولكنه لم يذهب الى نهاية الشوط في التصريح بان الحب ينشا بين الأضداد, ربما وجد ان في الأمر مغامرة معرفية غير مضمونة النتائج, وهنا لا نملك إلا أن نرفع قبعتنا لبشرى البستاني لرأيها الواضح والصريح حول هذه المسالة حين تصرح بمنتهى الجرأة  :

أما أنا
فلا أدخلك جنتهم
لا أدخلك في الأشباه والنظائر
بل أدخلك في الأضداد
لا أدخلك في الائتلاف
بل أدخلك في الاختلاف
في اختلافي أنا
في توحدي
وانصياعي
وجبروت وجدي
وسطوة الأشياء  إذ تصهل داخلي

هكذا يصبح الاختلاف هو الوقود الدائم الذي  يشعل نار الحب , وهو يشبه الجدل في الفكر, الجدل الذي يجمع الفكرة ونقيضها لينتج مركبا جديدا هو المؤشر الصحي على التطور والنماء, أما عندما تلتقي الفكرة بشبيهها او بنفسها فانها لا تنتج جديدا , بل التكرار الممل والعقيم, وهذا التشابه بين الجدل والحب لا تغفله بشرى , بل نراها تصرح به :

ادخل في زمنك
في سر التناهي
في لوبان الأشياء
في جدلها
ونفيها
وانكفائها
وتشبث إرادتها بالمحال …

علينا ان نثني هنا على التوظيف الرائع والموفق لمفردة لوبان, واللوبان لا يحصل إلا عندما نجمع الأضداد في بوتقة واحدة فتفور وتمور من خصبها, أو أنها بالدقة التامة تلوب لتنتج ما هو جديد.
ولكن أليس من حقنا ان نطرح التساؤل التالي : الى متى سيدوم هذا الوقود الذي يغذي نار الحب , ويذكي نار الوجد, أليس كل وقود مصيره الى نفاذ  , هل يستطيع المحبون ان يقدموا وقودا دائما ومتجددا لحبهم  , من أين سيأتوننا بهذا الاختلاف المتجدد ، الاختلاف كان موجودا لحظة اللقاء, ولكن لقاء المحبين سيؤدي لا محالة إلى محو هذا الاختلاف, أو أن هذا الاختلاف لن يشعل فضولنا لأننا سوف نكتشفه ونتعرف عليه ونعتاد عليه مع مرور الزمن , وهذا هو في الحقيقة الخطر الداهم الذي يهدد الحب, والعشاق على دراية بهذا الغول الذي يفترس عشقهم ويتركهم حطاما  , ناهيك عن ان الاختلاف الذي أشعل فضولنا يتحول مع العيش المشترك إلى جحيم لا يطاق , لان العيش مع النقيض هو العذاب المجسد, ورحم الله سارتر حين صرخ صرخته النبوءة   ” الجحيم هو الآخر” نعم الجحيم هو الآخر المختلف عندما نعيش معه ، وهو نفسه الآخر المختلف الذي عشقناه وأشعل فضولنا في اختلافه ، وهنا  يبدو ان ما يصلح للحب لا يصلح للعيش المشترك ، الحب يزدهر بالاختلاف ويقتله التشابه , ونعيم العيش المشترك يزدهر بالتشابه ويقتله الاختلاف, هل هي أحجية؟ نعم هي أحجية , وأحجية غير قابلة للحل , وبشرى البستاني لا تنكر هذه الحقيقة ولا تميل للتدليس لتقدم لنا صورة متفائلة عن الحب  بل أنها تقول من غير مواربة او تدليس :

أهذه امرأة
أم جنة من جحيم

نعم الحب هو جنة من جحيم  , والحقيقة أن العشاق وأهل الهوى استطاعوا أن يتعاملوا مع هذا الإشكال المأساتي في الحب بطرق عديدة وغير مألوفة, الإشكال مرعب دون شك وهو يحتوي على مفارقة وجودية لا حل لها ولو بالخيال , ونحن رأينا مقاربات غريبة لهذه المفارقة, حيث اقترح البعض أن يعيش العشاق في بلدين مختلفين ولا يتقابلا  إلا لماما لإطفاء نار الشوق واللهفة, وهذا يحقق الهدفين معا لإبقاء نار الوجد مشتعلة, استمرار الاختلاف بسبب البعد ،  وكذلك الابتعاد عن جحيم الاختلاف الذي يؤدي الى الاصطدام جراء  العيش المشترك بين الأضداد, وأرجو أن يكون مفهوما أنني لا أتعمد السريالية في هذا الأمر, فالأمر في حقيقته يتعدى كل  حدود السريالية وأنا استطيع ان أسوق العديد من الأعمال الأدبية التي تعاملت مع هذا الإشكال بوعي كبير , فلقد قدمت الروائية العراقية بتول الخضيري في روايتها “كم بدت السماء قريبة” حلا غريبا يقضي بالعيش في قارتين مختلفتين للإبقاء على نار الوجد, فهي لا تريد لبطلتها أن تواجه نفس المصير الفاجع الذي واجهته أمها الانكليزية عندما تزوجت من المهندس العراقي الشاب في انكلترا وعادت للعيش معه في بغداد, لتكتوي بنار الاختلاف في العيش المشترك بعد أن اكتوت بنار الهوى مع الآخر المختلف ..

هل يقدم كتاب الوجد حلا من نوع ما؟, هل يرشدنا إلى مخرج من هذا الوضع الكارثي الذي استجلى جوانبه؟, الحقيقة انه لا يقدم حلولا خارج الحلول الماساتية التي نوهنا لها قبل قليل , ليس بسبب قصور ما أو نقص في الرؤية والاستشفاف, بل لان هذا الإشكال لا منافذ له ولا حلول , فهو أشبه بالكرة الصلبة التي لا منفذ لها ولا ممسك, ولذا فهي تظل تدور في فلكها  وتدور دون أن نستطيع الولوج إليها .

يحيلنا كتاب الوجد بطريقة ما إلى العيش خارج الزمان عندما نريد الحفاظ على الحب, إن الزمان هو ينبوع الشقاء وهو المنجل الذي يحصد وجودنا , وخارج الزمان هنا تعني الجنة في كتاب الوجد, تقول بشرى:

حبي لك..
كنعيم أهل الجنة
يتجدد ولا ينفدْ  ..

هكذا يرتئي كتاب لوجد , أن نعيش الحب في الجنة , خارج الزمان لكي لا يقضي علينا الاختلاف, ثم نعود ثانية إلى الوجود لكي نتزود منه بالوقود الضروري للوجد والاضطرام  , والذي هو الاختلاف, وما أن نتزود حتى نرتحل ثانية خارج الزمان وهكذا دواليك في رحلة سيزيفية لا وقوف فيها ، بل اشتعال فتواصل فاشتعال ، لان الوقوف فيها هو الهلاك بعينه .

ويبدو أن كتاب الوجد حدس هذا الوضع الكارثي الذي يؤول إليه الحب في كل الأحوال, فنرى أن المفتتح قدم نظرة حدسية نافذة هي أشبه بشعور الانطباع الأول والذي يكون على الدوام صادقا حيث يشي المفتتح بكل شيء  ،  تقول بشرى في المفتتح:

أيتها الحالات….
أيتها اللهفات….
أيتها المواجد….
الحب في بلاء,

اذن لا بديل عن هذا الذهاب والإياب المحير بين الوصل والفصل , وهو العود الأبدي الذي لا توقف فيه, ان نحب فهذا يعني ان نقف على صفيح ساخن, وأي استكانة او توقف ستودي  بنا للاحتراق, أن نحب فهذا يعني أن نسير في درب وعر, أن نحب فهذا يعني أن نمتثل للأوامر النيتشوية  (عش في خطر) :
واليقظة سكين بحدين :
أن تجئ  …
ولا تجئ ..
والخطر هنا فعل ايجابي خلاق يجعلك على الدوام مشتعلا متحفزا  ،  ان نحب فهذا يعني رحلة باتجاه واحد لا رجوع فيه البتة  ، بل خطر دائم يمدنا بوقود لوجودنا حتى لو حيينا آلاف الحيوات  .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *