ليث الصندوق : الشاعر عرّافاً !

في الستينات وبداية السبعينات من قرن العجائب المنصرم ، شاعت مقولة ( الشاعر العرّاف ) وتبناها عدد من الشعراء الذين يرون أن للشاعر طاقة روحية كامنة غير مشخصة سريرياً تمكنه من إختراق جدار الزمن بإتجاه المستقبل الذي هو دائماً ـ كما كانوا يرون ـ في حالة تصالح غير مسوّغة مع قضايانا القومية والوطنية بعكس الحاضر الذي هو معنا في حالة عداء مسوّغة بحكم تراصفه مع الإمبريالية العالمية في حلف ضد الأمة لا يُفضّ إلا بخنق القوى الداخلية التي تؤدّي دور العمالة للأجنبي من خلال طلباتها ـ التي لا تكلّ ولا تملّ ـ بزيادة حصتها من الهواء .
هكذا حمل بعض الشعراء ( سواء عن قناعة أو مجاراة للصرعة النقدية الجديدة ) البخور في جيوبهم وكرات السحر البلورية في أياديهم ، وجلسوا على المنابر يقرأوون الفناجين للجماهير التي كانت تعتريها نوبة من الإنخطاف وهي تصغي إليهم بأفواهها المفتوحة وليست بأذانها .
كانت القاعدة النظرية لتلك الصرعة مبنية على أساس أنَّ الشاعر ليس فناناً بل هو رسول أو نبيٌّ لا ينطق عن الهوى ، أو هو وريث الرسل والأنبياء الذي شاءت له موهبته المضادة وطبيعته المشاكسة أن لا يأخذ عنهم الورع والتقوى ما دام الشعر يقوده كل مساء إلى الحانات والطرق الخلفية المظلمة للمدن التي لا يعرفها سوى أبناء الليل .. لكنه أخذ عنهم قوّة الحدس وصدق الرؤيا وصفاء الطبع المقرون بكدر التطبّع .
لذلك فالشاعر ـ كما كانوا يرون ـ يتمتع بقدرات فوق حسية عالية تُريه من قفاه أحداثاً لم تقع بعد ، وتجعل منه النموذج المهيّأ مختبرياً لدراسة ظواهر الجلاء البصري ، والإتصال بالأرواح ، والتخاطر عن بعد ، والتنبّؤ ، وغيرها من القدرات الداخلة تحت مصطلح ( الساي ) الكامنة في عقل الشاعر ، التي تكفي لإستثارتها وتحريرها كأس واحدة من الويسكي .
كان واضحاً أن مروّجي تلك الصرعة يقرأوون نصوصهم بإعتبارها من معطيات قوى غيبيّة واعية ، وإنها مبنية وفق قواعد موازية تستعير من الواقع ، لكنها لا تتلاقى معه .. وهي قبل أن تكون نظماً من الرموز فهي محاكاة لوعي مفترض ، وإستجلاءاً لتطورات خارجية تتداعى بشكلٍ لا علاقة لهُ بالبنية التي تتشكل من داخلها .. وبالتالي فقد كان هؤلاء الشعراء يطمحون أن يقدّموا فكراً قبل أن يقدموا فناً .
لكن الفكر لديهم كان يعني قدرتهم على صناعة بضاعة ذات طاقاتٍ روحية ، إشارية ، تُأوّل من قبل القاريء على الصورة التي تتقبلها إستعداداته الثقافية والنفسية والإجتماعية ولا ترى فيها أي شذوذ عن المنطق ، أو خروج عن قواعد الفيزياء أو أحكام كرة القدم .
لقد تخلى أولئك الشعراء الموهوبون ـ دون أن يقصدواـ عن لقب الفنان ، وهو لقب لن يتحرّج أكبر عباقرة عصره ، أن يضحّي من أجل أن يناله بسمعة العقلاء وهيبتهم وأناقتهم فيكسر على رأسه عشر بيضات نيّأآت ، ويتمرّغ بالتراب ليوهم بالجنون الذي سيلحقه بالتبعية مع زمرة الفنانين ، على أساس إنَّ الفنون والجنون قرينان لا يفترقان أبداً حتى يفترق الدولار الورقي عن قوّة إبرائه القانونية ويصبح ورقَ سكائر .
وبذلك يكون أولئك الشعراء قد أكرهوا أنفسهم على حمل لقب العرّاف ، وناءوا تحت ثقله الذي يكسر الظهر ، كأنهم بذلك يريدون إستعادة وتأكيد الرواية المشكوك في صحتها عن شاعرنا (المتنبّي) وقرأنه الذي لفقه عليه كارهوه ، وإدعوا إنه تنبّأ ، واستهوت دعوته قبائل كلب بن وبرة فانقادت إليها ،وإنَّ أميرَ حمص أدّى تجاهها دور الجنرال جان فيدل بوكاسا فقارعها وقضي عليها ، وسجن لسانها .
لقد أسقط أولئك المأخوذون بالصرعة الشاعر من السقف إلى قاع البئر منكوساً على رأسه في حين إنهم كانوا يريدون أن يمنّوا عليه بأن يرفعوه بضع درجاتٍ فوق مستوى موقعه على سلم المبدعين أخذين برأي الفيزياوي الإسباني ( خوان ويرته ) في الذكاء إستند إليه شومسكي في ( اللغة والعقل ) بأنَّ أعلى المستويات الثلاثة للذكاء هو الذي يستطيع بواسطته المرء أن يتكلم عن أشياء لم تُرَ أو تسمع أو تكتب أو تخطر على بال الناس من قبل بطرق تتعدى الذكاء الطبيعي وتنطوي على خليط من الجنون .
وهكذا شاء الشاعر أم أبي فقد ألبسوه جبّة العرافين وعمائمهم وعلقوا بعنقه المسابح ، وملأوا جيوبه بالخرز والأحجار ، وحوّلوه في مبخرة النقد إلى نفخة من دخان ، مثلما حوّلوا نصوصه إلى تمائم ورقى .
لم يكن في الدور الجديد الذي إقتحم عالم الشعر وغيّر من الطبيعة النمطية للسيناريو التاريخي شبه المستقر ، لم يكن فيه من إحراجٍ لأحد من الأبطال سواء أولئك المتحرّكين على خشبة المسرح الأمامية المواجهة للجمهور أو أولئك الذين يديرون فعاليات غرفهِ الخلفية .. لم يكن هناك ثمة حرج لأحد لا للشاعر ، ولا للناقد ، ولا للمتلقي ، فقد كانت تداعيات نكسة حزيران / 1967 تسمح للعقل العربي ـ في السر على الأقل ـ أن يتقبّل عودة العرّافين مجدداً ليكشفوا ما وراء الظلمة التي بدت وكأن أمطارها الحامضية تتكلس على الحاضر والمستقبل فتجعلهما جبلين من الحجارة .
وبالرغم من إنَّ العقل العربي ذاته كان في العلن قد لبس ثياب الثوار ، وحمل أسلحتهم الأيديولوجية ، وأنكر ميراث الأجداد الذي ما عاد يتواءم مع صرعات الرقص الثورية ، وألقى إلى نيران الرفض بالتاريخ الذي تسبب في مأساة الجغرافيا .
كان من الواضح بأن هناك مبالغة في إستخدام العرافة وقاموسها العرفاني لإختراق النص الذي ظل بمعزل عن تلك الآليات ـ من الناحية التجريدية ـ نظاماً يتوالد من داخله ليكوّن قاموسه الخاص وشبكة علاقاته الخاصة ومستوياته الصوتية والدلالية والإشارية والصرفية . وإنَّ الإستعانة بقواميس ومضان الفلك والأنواء وتعبير الرؤيا يقدّم قراءات منحرفة تذهب بالقاريء إلى متون لها مرجعيات في السماء وليس بين الكلمات والأسطر .
إنَّ ترجيح البنية الدلالية واستبقائها لوحدها بميزان القراءة في مقابل تهميش وإستبعاد البنى الأخرى يؤدي إلى إخلال في الميزان وإنحراف في الفهم وهذا ما ينجم عن القراءة التاريخية أو النفسية أو الأيديولوجية أو سواها من القراءات ومن بينها ( القراءة التنبوئيّة ) التي تكتفي بالدلالة لوحدها ثم تكتفي من الدلالة بذلك الجزء الصغير الذي يدعم تصورات القاريء الذهنية المسبقة فيتخيّل بأنه يرى المستقبل لكنه في الحقيقة لا يرى شيئاً .
ربما لم يعد من حقي الإعتراض على إستثمار طاقة البخور في تطهير طيّات النص من بكتيريا التعمية .. وكذلك وربما لم يعد من حقي رفض الدعوة إلى إستثمار طاقة النجوم والكواكب لإضاءة المناطق المظلمة فيه .. ولعل تجريدي من تلك الحقوق يجد تسويغه في تخلي الشكليين والبنيويين أنفسهم عن فكرة إستحالة القراءة من الخارج فهذا (جومسكي) يتنازل عن دوغماتية النظرة الأحادية ويعلن صراحة (ظهور إشارات إلى إضمحلال الفصل المصطنع بين الإختصاصات المختلفة ، إذ لم يعد من باب الفخر أن يبرهن كل حقل إستقلاله المطلق عن الحقول الأخرى) وقبله أعلن ( جاكوبسن ) الدعوة إلى ( إستقلالية الوظيفة الجمالية وليس إنعزالية الأدب ) ولمّح ( باختين ) إلى إمكانية بدء تحليل شكلي للأيديولوجية ( حسب تعبير تودوروف ) والى عدم إمكانية فهم الكينونة الأدبية معزولة عن شرطها التاريخي ، مع الإشارة إلى إنَّ التلميحات الأخيرة ربما لا يعتّد بها ، فقد جاءت تحت ضغوطات على الرجل إنتهت بسجنه ونفيه إلى كازاخستان ، ودفعتهُ للتخلي عن أبوّته لبعض كتبه ومقالاته ونسبها إلى أصدقائه .
وبالرغم من إني خارج منطقة النقد ، إلا إني أعتقد أن أحداً من النقاد المعاصرين غير مستعد أن يقدّم تنازلات إضافية للمطالبين بإستثمار القوى الغيبية في فك شفرة الشعر ، أكثر مما قدّمهُ جومسكي ، وجاكوبسن ، وباختين .. وإنَّ الحد الأبعد للتنازل الذي بالإمكان الوصول إليه وعدم تخطيه هو : إعتبار القراءة في ضوء معطيات ليست من طبيعة النص مفيدة ، لكنها غير حاسمة حسب ( وليم راي ).
إنّ لغة الشعر تفتقد إلى الشفافية وإنها تتسبب في نوع من التداعي الذهني مما يجعل من الصعوبة إختراقها بعكس اللغة الإخبارية الدقيقة والواضحة والشفافة  والتي تمنح نفسها للقاريء دونما دلال أو تمنع لكي تتلاشى بعد القراءة في بوتقة الإستيعاب المعرفي التي لا يعرفها عالم الشعر .. وفي ضوء تلك المعوّقات التي تجعل من مركبة النقد شبه عاجزة أمام إختراق هذا الوسط ذي الكثافة العالية يصير من العسير الإدعاء بأنَّ النص الأدبي والشعري تحديداً يقدم معطيات دقيقة وقراءة حاسمة ونهائية لا خلاف عليها .
في الشعر نفترق جميعاً إلى فئتين ، الأولى : كلما إستزادت من القراءة خلصت إلى إنَّ الشعر لا يقدم معرفة ملموسة ، بل إنه لا يقدّم شيئاً عدا الشعر ذاته ، والثانية : تأخذ من الشعر كل شيء ، فهو عندها ينبوع معارف وخبرات وتجارب وعلوم وأفكار .
إنَّ الفئة الأولى هي الأكثر فهماً لطبيعة الشعر ، أما الثانية فإنها أسيرة واقع إفتراضي يتأثر بعوامل نفسية وثقافية شخصية من جهة ، وإجتماعية أيديولوجية خارجية من جهة أخرى , والفئة الأخيرة تمتلك إستعدادات للتوسع في التأويل الذهني بحيث إنها تستخرج من النصوص كل ما بداخلها هي وليس ما بداخل تلك النصوص .
وبما إننا نتحدث عن عالم التنبّؤ والعرافة ، فإن بإمكان تلك الفئة من القرّاء تحريف بوصلة القراءة والفهم بإتجاه التبصّر في أي نص إبداعي حتى وإن كان لـ( أدونيس ) ، وتكفي ثمة محفزات خارجية لتنشيط إستعدادات التبصر لديهم ولتكن تلك المحفزات بصورة وضع النص الأدونيسي وصاحبه في السياق التاريخي ـ الإجتماعي ـ النفسي للخرافة عن طريق تلفيق مقدمة إفتراضية وهمية تسهّل عليهم اللعب بنتائج القراءة .
ولا أخفيكم سراً إني حاولت ذلك يوماً فنجحت بعد إن خدعت أحد  المولعين برؤية ما يرغبون به هم أنفسهم فحسب في النصوص ، بأنَّ (أدونيس) كان رجل عرافة وتنجيم ، عاش في أواخر زمن الطاعون على السواحل الشمالية الغربية النائية للمتوسط ، وأنه هرب في ليلٍ مظلم من حكم بالحرق أنزلته المحكمة البابوية به بعد أن ثبت لها تعاطيه الشعوذة .
هذه الوصفة السحرية الملفقة لعبت برأس صاحبي وجعلته يقرأ لي طالعي بتقليب ( المسرح والمرايا ) .. وكم كنت معجباً بألمعيّة الرجل عندما تنبّأ لي بأني سأدعى لأداء الخدمة العسكرية في زمن كان فيه حتى النمل الأبيض يدعى لأدائها .
ترى هل من المعقول أن تكون رباعيات ( نوستر أداموس ) الشعرية التنبوئيّة قد قرأت بهذه الطريقة ؟ لاسيما إن سيرة الرجل كانت في الواقع ضمن السياقات التاريخية للخرافة ، وإني كنت قد إستثمرت بعض عناصرها فنسبتها لأدونيس لأنسج من تلك العناصر كيساً أغطّي به رأس صاحبي فلا يرى من الحقيقة سوى الظلمة التي ظنَّ بأنها هي الحقيقة كلها .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *