حسين سرمك حسن : محيى الأشيقر .. فاكهة الحكاية العراقية المسمومة

# تذكير وتمهيد :
قلت في دراسة سابقة عن مجموعة “سوسن أبيض” للقاص “محيي الأشيقر” نشرت على صفحات ملحق ألف ياء الزمان الغراء، إن قصة “فاكهة الغرباء” هي من عيون الفن السردي العراقي في مجال القصة القصيرة، وأنها تحتاج وقفة تحليلية مستقلة ها نحن نفي بها وإن بعد سنتين من نشر الدراسة الأولى. مازال محيى حيا في منفاه المشؤوم، ولعل فيها تصبيرا وسلوانا لروحه الممزقة التي جسّدها أروع تجسيد في هذه القصة “فاكهة الغرباء”، التي من أروع دلالاتها هو أن لا نبحث عن معاني النص المستترة خارج ساحة روح المبدع. المؤلف  لا يموت. بالعكس هو الحي الذي لا يموت. ولا تصدّقوا كل ما تطرحه المدارس النقدية الأوروبية. محنة النقد في أوروبا – في مرحلة ما بعد حداثته خصوصا – هو أن العلم سحق معطياته، وهدّد أسسه، فصار لزاما عليه ان يجاريه لعله يلحق به. فحاول خطأ تقعيد ليس النقد، لكن حتى العلوم الإنسانية على اسس إحصائية ورياضية. ولا يمكن فهم دلالات هذا النص “فاكهة الغرباء” من دون أن نضع تجربة كاتبه “محيى الأشيقر” في المركز التأويلي ، فهذا النص لا يمكن أن يكتبه كاتب أميركي أو سويدي حتى لو ابيضت عيناه. يكتبه محيي الذي ابيضت عينا روحه وهي ترنو إلى تجربة ممزقة في البعيد البعيد يستحضرها بذكاء عبر حوار الناثر بعد أربع فقرات تمهيدية في القصة سنعود إليها لاحقا:
( أمام شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص بمكان عمله، ربض واحد من كاتبي النثر وهو يحاول تذكر واستعادة ما كان قد سمعه من طشاش كلمات وإشارات وتلميحات عن لقطة أو أكثر تصلح للاحتفاظ بها وتدوينها كمواد خام لنص مقترح. دوّن الناثر:
-يُقال أن اسمه مزاحم (يمكن عدم استخدام هذا الإسم أي استبداله باسم آخر)، ويُقال ترافقه زوجة نحيلة نحول الخيط صغيرة السن، تجر وراءها قطيعا من البنات والبنين. هم مهرجان من الأعمار والملامح واللهجات)
ومزاحم هذا هو الشخصية المركزية الحاضرة والغائبة في الآن نفسه على خشبة مسرح النص .. إنه لا ينطق، لكنه شديد البلاغة، ويُتحدث عنه بضمير الغائب لكنه ضمير متكلم- وحتى ضمير مخاطب- طاغي الحضور من خلال شفرة سنمسك بها ونفك مكوناتها لاحقا. وفي أغلب نصوص القاص هناك وقفة “خلاصة” وجيزة تعد القاريء لاستقبال المسارات التفصيلية المقبلة :
( قادته أعوام التهجير والغربة والتردّم والمطارات ودوائر الأمن ونقاط الحدود ومفارز الشرطة والمخبرين وحزمة اللهجات مما هو متداول على ألسنة المهربين ومزوري الوثائق وأشقائهم من الوسطاء بين حدود البلدان وعلى أطراف العواصم وفي ظلمات غرف الفنادق وزوايا المقاهي وأبواب البيوت والأوكار السريّة .. قادته إلى أكثر من بلد وقارة. وبمحاولات متواصلة التعثر كانت تنطلق من طهران أو دمشق أو عدن أو انقرة أو بيروت .. لتنتهي في روما أو مدريد أو وارسو .. وتمكن أخيرا من الفوز بالكريستالة الاسكندنافية : استوكهولم . إنه طاقة لا تُصدّق)
وهنا، وبنظرة تراجعية، تترابط حلقات دلالات الفقرات الأربع السابقة ، فكلها تتداول – وفي مدن سويدية مختلفة – أخبارا وشائعات عن “مزاحم” وعلاقته الخرافية بأفعى الكوبرا التي قلبت حياته جذريا. ففي “مالمو” المدينة السويدية الأكثر اكتظاظا باللاجئين الأجانب، يقول بقال عربي لزبونه الدائم – وبضمير الغائب أنـ “ـه” استطاع إقناع كل من يعرفونه بقدرته على تربيتـ “ها”. ولا يُفصح القاص عن هوية واسم الرجل .. ولا ما “هي” التي أقنع الآخرين بتربيتها. وهو استدراج محسوب يثير توقع القاريء واستفهامه (الفقرة الأولى – ص 105). أمّا في استوكهولم فقد كان معلم عراقي يجيب على استيضاح صاحبه مصححا معلوماته بالقول – وبصيغة الغائب أيضا – أنـ “ـه” في إحدى سفراته المتكررة لعاصمة الدنمرك تمكن من سرقتـ “ها”. وأنها أعز من أطفاله عليه، ومن كل ما يملك. ويؤكد لصاحبه أنـ “ـه” يملك ما لا يتخيله أحد (الفقرة الثانية)
ومن جديد لا يكشف القاص هوية الغائب ولا طبيعة “التي” يملكها.
نقف الآن أمام خرافة هائلة ، شائكة ومعقّدة، محورها لاجيء اسمه (مزاحم) حصل ، بطريقة مختلف عليها، على أفعى من نوع الكوبرا، لا نعلم كيف قلب هذا الكائن الحيواني حياة مزاحم ، وجعله محور حديث الساعة بين اللاجئين العراقيين في السويد.
لكن السارد الثانوي في القصة، هو الذي سيقودنا – وبتصميم من القاص طبعا- عبر طريق شائك ، وشديد الدلالات، ليس إلى فك إشكاليات قصة مزاحم وأفعاه حسب، بل إلى طرح مسارات الحكاية الأم، حكاية تاريخية دامية عن بلاد كُتب عليها التمزّق والخراب والدمار وذلك من خلال أنموذج إنساني عراقي هو خلاصة مرّة ، وبامتياز، لحالة “التيه” العراقي.
لقد التقى السارد هذا الشخص على ظهر مركب أو عبّارة في رحلة من كوبنهاغن باتجاه مدينة مالمو السويدية. كان رجلا أربعينيا لاحظ السارد أنه يتطلع إلى البحر بطريقة ملفتة هي أقرب إلى لهفة الأطفال. فهو من جيل كامل عاش حالة من “الحرمان الحسّي- sensory deprivation ” الخانقة التي تجعله يتعامل مع كل مفردة من  مفردات الحياة على أنها فريدة واستثناء قد لا يتكرر. إنه كمن يخرج من غرفة مظلمة حُبس فيها طويلا إلى النور فيحاول أن يعب من ضياء الحياة بأقصى مايستطيع. إنه يحاول الإمساك باللحظة الزمنية الجديدة وإيقافها لأنه “دُرّب” على أن اللحظة الجميلة التي تفلت  لن تعود ابدا. كان أبناء جيلنا – وهي من سمات الشخصية العراقية – يفرطون في اقتناء أي شيء جديد واستخدامه. أجيال تعيش في أرض ثمارها من ذهب، لكنها ثمار الفردوس الدامية. لقد جاء هذا الرجل الأربعيني إلى السويد – كما يقول للسارد – بحثا عن الأمان وفرصة الحياة وللحصول على جواز سفر “الله وكيلك ومحمد كفيلك”. وهو يفرض نفسه على السارد بلا مقدمات لشعوره بأن الأخير عراقي مثله ولأن (الأحاديث غير المهيّأ لها هي فاكهة الغرباء الشهيرة والمفضلة. هل سمعت بمثل هذا القول؟)
وفي علم نفس المنفى، تأخذ اللغة عموما ، والأحاديث خصوصا، حيزا مركزيا في دائرة قدرات اللاجيء على التكيّف. إنهم يتعرفون بسرعة ويتحدثون مباشرة وبلا مقدمات فهم “رفاق الزورق الواحد” . كما أنهم “يُسقطون” الوجه الاغترابي الداخلي إلى الخارج ، فيشعرون بأن كل وجه يرونه في الحاضر، إنما شاهدوه في الماضي، وأنهم يعرفونه: (وجهك ليس بغريب؛ تمام .. ألله عليك؟)
وفي حالات كثيرة يكون اللاجئون مهيئين نفسيا لإشادة تصوّرات عن البلد الذي يلجأون إليه خلاصتها أنه الفردوس المفقود. هو التعويض الباذخ والباهر عن كل الحرمانات الجسيمة التي عاناها اللاجيء في حياته القاحلة والمخيفة السابقة في بلاده الأصلية. وهي التصوّرات المنتزعة من الخيالات الطفلية عن هناءة الرحم الأمومي التي يحيا فيها الفرد طافيا ينعم بكل شيء (على سرر متقابلين). ولكن حين يجد أنه سيحيا حياة عادية، وأن عليه أن يكد لضمان عيشة كريمة مقبولة المستوى له ولعائلته، وأن عليه أن يتحرك على أرض واقع صعبة وليست سهلة .. بعيدة عن حالة الطفو الاعتمادية في الفردوس الرحمي، فإن المخيلة البشرية تنشط كآلية دفاعية لرسم حلولها البديلة تعويضا عن حالة الإحباط . تتحول المخيلة إلى “سارد” ترسم – بطبيعتها – قصّة التعويض في صورة حكاية خرافية أو اسطورية، وقد تمثلت هذه الحكاية في خرافة “مزاحم والأفعى”. هي حكاية خرافية تمثل المتنفس لكل لاجيء. ولعل اختيار الإسم “مزاحم” لم يكن “بريئا”، فهو يدل على القدرة على المزاحمة في مجتمع تنافسي جديد لم يعتد عليه اللاجيء. كما أن اختيار أفعى من نوع “الكوبرا” وهو نوع شديد الفتك والسمّية يطمئن في النفس مشاعر الإقتدار وأحاسيس القوة في التحكم والترويض. وليس بعيدا أن تكون مخزونات اللاشعور الجمعي عن دلالات رمز الأفعى “الحيّة” قد اشتغلت ولعبت دورا كبيرا في انتقاء هذا الرمز. فالحية رمز للتجدد .. هي سارقة عشبة الخلود من جدّنا جلجامش الخائب. والحيّة من الحياة والحيا هو فرج المرأة الولود ، كما أنه الطين الذي جبلنا الله منه. ومن المهم الإلتفات إلى عملية الإكتساب السحرية التي يقرها اللاشعور كجزء من (منطقه) الذي يناقض منطق الشعور، فمن يمتلك القدرة على التحكم بأفعى يكتسب قدراتها . وضمن عملية الإمتلاك السحري تأتي مسألة “الوشم” حيث لا يمكن فهم الأوشام التي يرسمها الفرد على جسده بالمسألة الجمالية فقط .. إنها تُفسر بسحر الإمتلاك الخرافي لطاقات الكيان الموشوم على الجسد . وصاحبنا يكشف صدره أمام السارد فيظهر وشم لأفعى أنيقة رُسمت أو غُرزت بروح الكحل والنيلج، زُيّن رأسها بوردتين ناعمتين وبعينين ذات ملامح بشرية، وعلى طول جسدها الراقص وُشمت كلمة “ضيّعوني”.
واختيار مزاحم جاء وفق سيرة حياتية مذلّة عاشها أغلب اللاجئين. يقول الرجل الأربعيني:
(ما تصدق ما كان عليه مزاحم هذا، صحيح هو خوش ولد، بس عاش عيشة الـﭽـلاب السائبة في إيران وسوريا. حظوظ، الحياة حظوظ أخي)
إن اللاجئين الذين يتداولون خرافة مزاحم والأفعى، إنما يرسمون على جدار مخيلتهم المتقرّح ، الحكاية التي اكتووا بتفاصيلها المعذبة. وها هو صاحبنا يشير إلى الوجوه ذات الملامح الشرقية على سطح العبّارة :
(وجوه حليقة، وأخرى ملتحية.. عيون تبحلق بتيه، وأخرى بسعادة مؤجلة . ثمة ابتسامات مغدورة واستغراقات أقرب لوجوه جنود عائدين لجبهات حرب من إجازات قطعت أو ألغيت فجأة، أو لملامح أولئك المحمولين في سفن وقوارب التهريب)
هذه الوجوه المتعبة .. بنظراتها التائهة الحائرة.. وبأحلامها المجهضة .. تريد ترميم واقعها النفسي الداخلي المخرّب، والنفس البشرية حينما تُحاصر وترتهن إرادة وواقعا ، فإنها قادرة على أن تخلق أساطير خلاصها الخاصة، وفي أغلب الأحوال ترتفع بأنموذج الخلاص المرتجى إلى أقاصي سماوات الرهاوة التي تلخص العذابات التي تجرعها أصحاب التخييل الاسطوري ممزوجة بالسعادات المرتجاة والعصيّة على التحقق :
( لا تقلق أخي. الكل يحلمون به وبأفعاه وبالمستقبل الذي صنعه وأمّنه لنفسه وأولاده. لقد اشتغل بتهريب جلود الحيوانات النادرة من روسيا. كان دائم التنقل بين اسبانيا وإيران ودول الخليج للتجارة بالزعفران. ناس تقول أن هذا غطاء لعقد صفقات الأسلحة والنفط غير المرخّص بها)
لكن الأهم في سمات مزاحم هو أنه أفلت من قبضة الحرب الرهيبة .. ليست حربا ولكن سلسلة حروب أحرقت الزرع وأيبست الضرع، ونشفت رؤى أبناء هذا الجيل من طراوة الحلم المنعشة. لم تحترق آمال جيل بلهيب لا يرحم لثلاثة حروب مثل هذا الجيل. وأخطر ما فيها هو أنها حروب أسست لقيم جديدة غريبة .. أو بالأحرى أنها خلطت كل القيم المعتادة لتصنع منها “حساء ” قيميا لا يمكن أن تجرعه أي نفس. إن مفردة “ضيّعوني” المكتوبة على جسد الأفعى الموشومة على صدر الرجل تلخص تجربة. إن الوشم هو لغة خطاب .. حكاية .. سرد .. هو لغة الروح الحائرة بمحدودية طاقاتها على التواصل اللغوي “الشعري” المفصح:
( وبهدوء مباغت لطم صدره بكفّه ملتفتا بصوته “هذا هو حبي” ضاربا صدره مرة ثانية على موقع الوشم : لقد لدغتني عندما قررت ما تريده . كنت أقول لها لابد أن تنتهي الحرب يا بنت الحلال . كانت تقول: لا أستطيع الإنتظار أكثر، والحرب لن تنتهي)
إن فقرات ومقاطع أو فصولا أحيانا ، يمكن أن تكون من غرر الإبداع في التعبير عن صراعات النفس البشرية المهضومة .. وعن الحال الإنساني الممزق المستديم بين الخير والشر والذي يحاول الفلاسفة وعلماء النفس تلخيصه بشكل شاف أمام البصيرة الإنسانية فلا يفلحون. وعبر أربعة عقود حافلة بالقراءة المنظمة والمراجعات والتلخيصات المدروسة كنت أبحث عن جملة أو فقرة تعبّر عن محنة العراق التاريخية ..
محيي الأشيقر يقدم مقطعا يلخص كل عذابات العراق وتناقضاته .. بلد يطفو على بحيرة من ذهب وفيه أكبر عدد من الشحاذين . وليس الأمر مرتبطا بالقرن العشرين فقط .. حتى في عصر هرون الرشيد الذي كان يخاطب الغيمة ويقول لها خراجك لي أينما أمطرتِ .. كانت بغداد مختنقة بالشطار والعيارين والجربان والبرصان والعميان. وعبر كل عصوره كان العراق يُقطّع كل لحظة ويؤكل لحمه الحي بلا رحمة وبلا هوادة .. أحرقت بغداد بعد حريق هولاكو خمس عشرة مرة .. ويصرح صحفي أميركي مبررا احتلال العراق : إن في العراق عسلا كثيرا ، ومن الطبيعي أن يجذب ذبابا كثيرا. على أي متن دلالي نتكيء ؟ ومن أي نواة غائرة نستل خيط المعاني ..
خلاصة محنة العراق:
أنا شخصيا لم أجد تعبيرا هائل الأبعاد شديد الأذى .. مبك .. وحارقا .. يصف حال العراق المجرّح والمحطم ، في حياتي النقدية، أكثر بلاغة في تدمير المشاعر من هذا المقطع الذي قاله الرجل الأربعيني للسارد بعد أن حدثه عن المعاني المتخيلة لشكل خارطة العراق: (قال: انظر إلي، تخيّلني أنا العراق بدل الخارطة والخيّال، سترى إن رأسي مقطوع ومعلق على الباب العالي، وأقدامي مهروسة أسفل دبابة بصحراء الجزيرة العربية، وذراعي الأولى مركبة على بدن شحاذ تدور في شوارع طهران بحثا عن صدقة، والثانية مقطوعة ايضا ومحفوظة بثلاجة جثث برقم خاص في مستشفى حيفا بإسرائيل)
إن تقطيع الجسد العراقي ليس عملية أسطورية وخرافية متخيّلة كما في أسطورة دموزي الذي مزّقت جسده الغيلان .. إنها واقعة مادية فعلية لصيقة بتاريخ هذه البلاد.. فالرأس المقطوع لم تنته حكايته عند رأس الحسين بن علي عليهما السلام .. بل امتدت حتى يومنا هذا بعد الإحتلال الأميركي القذر .. لقد شاهدنا أمهات يخرجن من دائرة الطب العدلي يحملن “فلّينات” فيها رؤوس أبنائهن ، محسودات من قبل الأمهات اللائي لم يعثرن على شيء من أجساد أبنائهن المقطعة .. مثلما لم تتوقف حكاية قطع الذراعين عند فاجعة العباس بن علي عليهما السلام ، فجاء الأميركان الخنازير الغزاة ليقطعوا ذراعي الطفل البصراوي (علي عباس) بعد أن قتلوا جميع أفراد عائلته بفعل القصف الوحشي .. ركّبوا له ذراعين معدنيين في أحد مستشفيات الكويت .. ووجدوا له عائلة تتبناه في لندن !! والعراق قطعت ذراعاه ولكن لا أحد يتبناه.
ونفس هذه المخيلة تحاول الإنفلات لتداري انجراحات الشخصية الذاتية .. وهي داخل بلادها تبني تصوّرات فائقة عن جسم وطنها على الخارطة .. وتشكل الأحلام الجمعية عن منافذ الخلاص .. وهي خارج بلادها ترسم حكايات عجيبة غريبة هي أقرب إلى الخيال .. في المنافي حكاية مزاحم والأفعى .. بل حكاية “فاكهة الغرباء” التي تقدم لك أنموذجا لا يُصدّق عن مسيرة الشتات العراقية التي كادت تشمل كل الكرة الأرضية (تصوروا عراقيين يحصلون على اللجوء في جبل طارق !! لم يصله من قبل سوى السبع طارق بن زياد!!).. وصاحبنا الذي جعله القاص من دون إسم كي يعمم أنموذجه علينا ، هرب من الحرب إلى الجهة الأخرى .. تزوّج .. واشتغل بالتهريب وزاد حمله العائلي فصاروا يبتزونه عندما فكر بالإنسحاب والهرب .. حجزوا زوجته وأطفاله كرهائن مقابل أن ينفذ عملية أخيرة .. أن يجلب لهم أفعى .. فسافر وعبر ثلاثة بلدان في رحلة من رحلات ألف ليلة وليلة .. وجلب الحيّة موضوعة في سفط .. وعند إحدى القرى في طريق العودة، سلب عقله ديك غريب الحجم عجيب الألوان اشتراه كي يفيده في مراهنات عراك الديكة !! ولو رفعت اسم محيي الأشيقر عن هذا النص لاعتقدت أنك إنما تستمع إلى حكاية من حكايات شهرزاد عنوانها (الليلة الثانية بعد الألق : حكاية الأفعى والديك).. وليس عبثا أن تظهر سيدة الحكايات:ألق ليلة وليلة ، في بغداد .. فيغداد هي الحاضنة التاريخية لكل ما لا يصدقه العقل.. وفي إحدى نقاط التفتيش المشتركة لفوضى حدود البلدان والولايات كما يقول أصر أفراد الشرطة على فتح السفط .. وحين فتحه وظهر رأس الحيّة المثلث انرعب الجميع ، وباغت الديك الأفعى بضربة من منقاره قلعت إحدى عينيها، فقفزت وسط الهياج واختفت. وسُجن صاحبنا بعد انكشاف المخدرات المخبأة في السفط. وفي السجن الذي هو مدرسة كما يقول أصبح صاحبنا شخصا آخر: (لقد جعلني السجن شخصا آخر، وقررت الحياة بأي ثمن. قلت نعم بكل المناسبات ، ولكل شيء ، نعم للدين، وأخرى للشيوعية ، وثالثة للقومية، والرابعة للديمقراطية، نعم للكذب والصدق والمشروب والنساء والكره والحب والضحك والضمير والنصب والصداقة والإيمان والكفر .. المهم أن أعيش وأعيّش الخمسة الذين صاروا سبعة، كلابي وقططي، أقصد أولادي. فعلت كل شيء تتخيله ، لا تستغرب. عندما يكون الإنسان بعيدا عن مجتمعه وأهله وذكرياته وفرص حياته العادية، يفعل كل شيء. أنتم هكذا تحللون وتقولون، أقصد هم من يقولون ذلك بالكتب والجرايد. هل في كلامي مبالغة؟)
# حكاية الغرباء تتناسل:
لكن هل انتهت حكاية الغرباء وفاكهتهم عند هذا الحد من العذاب المميت؟
بعد السجن بدأ صاحبنا رحلة تيه جديدة ، فعلى مدى عام ونصف سافر إلى إسبانيا والنرويج ورومانيا والدنمرك وفنلندا. وفي كل مطار كانوا له بالمرصاد. وأخيرا، وفي مطار استوكهولم، سكب الكحول النقي على أطفاله وهدد بإحراقهم .. فجاءت النتيجة إيجابية.. وحصل على اللجوء في السويد.
ومن جديد ، هل انتهت حكايتنا- وخصوصا في روحها المتعلقة بمزاحم والأفعى/ الكوبرا- عند هذا الحد المربك والمشبع؟
يعود القاص المقتدر إلى الضرب على أوتار الحكاية الخرافة بأبعاد نفسية جديدة وثرة. أفعى الكوبرا الآن هي رمز للنفس العراقية المكلومة التي ما أن “تمتليء” حتى تستقر وتستكين، بل ترقص للحياة والأمل والنماء. ولكنها عندما “تفرغ”- والساتر الله- تبدأ بإطلاق زعيق العذاب. ولا تكتفي بتدمير الموجودات حولها .. ولكن- وهذا هو الأهم والأخطر الذي عرضه القاص- تدمّر ذاتها ، وقد قدم تورية محكمة على لسان صاحبنا الذي وجد في ألمانيا حصالة نقود عجيبة على شكل- من جديد- أفعى الكوبرا:
( سافرت إلى ألمانيا، ومن سوبر ماركت مشهور يبيع لعب الأطفال ، اشتريت حصالة نقود عجيبة الهيأة، تتسع لكميات كبيرة منها، خاصة القطع المعدنية، هذه الحصالة ما إن تمتليء بما يوضع بها تبدأ بالرقص. هكذا! وما إن تفرغ أو تكون قطع النقود قليلة، تبدأ بين آونة وأخرى بإطلاق أنين مفزع يشعر السامع بوجود كائن ما معطوب بمرض خطير. تجاهلها يعني تصاعد الأنين واالتضرّع وتفشّي رائحة مرض، هي على شكل افعى من نوع الكوبرا ، لها مكّوك يشغل ببطارية)
وبهذه الخاتمة التي تنتهي بالأفعى ، والتي تعود بنا إلى نقطة البدء التي انطلقنا منها من موضوعة الأفعى، يغلق القاص دائرة القصّة ، دائرة حكاية العذاب العراقية التاريخية الخرافية المميتة، تنغلق على نفسها مثلما تنغلق دائرة محيطها الحيّة التي تعض ذيلها.
تحية لمحيي الأشيقر

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *