
توافرَتْ للأديب المصري الرَّاحل يحيى حقي شهرة عريضة وصيْتٌ ذائع وإقبال منقطع النظير على نتاجاته وأدبياته من لدن القرَّاء في البلدان العربية ، علما ً أنـَّها مندرجة في نطاق الخاطرة والقصَّة الفنية المكتملة والرِّواية المستوفية لشرائطها وعناصرها ، والمتسمة غالبا ً بالاقتضاب ومحدودية الصَّفحات ، لأنـَّه يلفي أنْ لا مناص من التوقف عند حدٍ معيَّن ومناسب ، وما عداه من الاسترسال والإضافة هو من نافلة القول والتطويل الزَّائد على الحاجة وما لا غناء فيه ، ولعلَّ السِّرَّ في ذلك عائدٌ إلى انخراطه في وظائف دبلوماسية وتأديته مهامها بُعَيْدَ تخرُّجه في كلية الحقوق حتى طلبه الاستعفاء منها والإحالة على المعاش ، لينصرف بكلِّ ما أوتي من طاقة إلى المثول في الحياة الثقافية بفاعلية ملحوظة ، مكتسبا ً من طوره الأوَّل قابلية التعبير وتجسيد أغراضه بأوجز لفظ وكلِم ٍ دال ٍ ، وملزما ً نفسه بتحاشي الإسهاب والتطويل فيما لا جدوى منه وفائدة فيه ، فتجده حسن الذوق في تخيُّر مفرداته وألفاظه ، ويغلب على أسلوبه وطريقته الكتابية فرط الدِّقة وانتفاء الحوشي والغريب منه ، سوى الكلف ببعض الكلمات التي تشيع في البيئات الشَّعبية وتلهج بها أفمام سواد الناس من العملة والصُّناع والحرفيينَ ، ثمَّ انـَّه قام بترجمة كثير من روائع الأدب الغربي عن اللغات الإنكليزية والإيطالية والفرنسية ، التي صار إلى دراية بها بفضل إلمامه بالعواصم الأوربية وإقامته في ربوعها واختلاطه بسكانها بحكم وظيفته تلك التي تجعله دائم الحركة والتنقل ، ويُومَا له في الدِّراسات الأدبية على أنـَّه صاحب العمل الرِّوائي الممتاز ( قنديل أم هاشم ) ، ويُقرَن به دون بقية آثاره لفرط ما أبقى من أثر في وجدان كلِّ مَن اطلع عليه ، إذ صوَّر فيه حيرة الشَّرقيِّ الذي أمضى سنوات في أوربا ووقف على مظاهر حضارتها المزدهرة نتيجة التقدم الصِّناعي والمادي مع عدم إيمان أو قلة اكتراث للخرافات والأوهام والأساطير ، حتى إذا آب لدياره بعد إتمام تحصيله صُدِم حين وجد قومه يعنون لنفس ما عهدهم به وتركهم عليه من ألفة التأخُّر والتخلف والجمود ، وما يزالون يعوِّلونَ على زيارة أضرحة الأولياء والتوسُّل إليهم بالدُّعاء والتضرُّع للاشتفاء من أدوائهم وأوصابهم ، فتنبَّه على حالة موئسة وأليمة هي أنَّ ما تعلمه في جامعات الغرب من علوم طبية غير ذات شأن في معاونة المرضى من أبناء بلاده على التداوي من أوجاعهم وكروبهم ، نظرا ً لاستخفافهم بها ، وارتدادها عن أنْ تظفر بقسط ولو يسير من رضاهم واقتناعهم بها ، فهداه تفكيره أنـَّه لا بُدَّ من تصافيِّ الأضداد والتقاء النقائض ورياضة العلم المادِّي المتحكم بحياة الغربيينَ والمتصرِّف بأقدارهم ومصايرهم على مسايرة ما تزخر به بلاد الشَّرق من روحانية ينبعث منها الصَّفو والسَّكينة والإيمان .
ثمَّ هو بعد أحرص أبناء جيله من الأدباء على التقاط الهواجس النفسية والمشاعر المستكنة في السَّرائر والضَّمائر ، وإنْ حجبها وأخفاها عن الإعلان والظهور ستار من مداهنة ونفاق وتدليس حينا ً ، وبرع في وصفها وتصويرها والبوح بما تنطوي عليه وتنزع له من هوىً ورغبة لا تكتفي بالتماثل والاستواء وحدهما فقط ، بل تعدوهما إلى التصويح والإلواء بمكان مَن نـُعجَب به وتروقنا شمائله وميزاته ، كما أتى على ذلك خلل قصَّته ( مرآة بغير زجاج ) ، حيث جسَّد ما تتوق له النفوس المفعمة بالأوغار والأحقاد من هدم الشُّخوص المتكاملة في كلِّ شيءٍ على ما تبطنه ـ تلك النفوس ـ من إمارات الإعجاب الفائق والمتجاوز لأيِّ حدٍ .
كما له إسهام ومشاركة في النقد الأدبي لا بصورة متفرِّغة ومنقطعة له ومواظبة عليه ، إنـَّما هي محض انطباعات وملاحظات تعنُّ له من وراء تمحيصه في الرِّوايات والقصص ، فيدوِّن تأثراته بمرور الأيَّام ، وتفطـَّنَ بالتالي إلى انَّ هذه الفصول التي دبَّجها في أوقات فراغه ، يمكن أنْ تنتظم في كتاب يبوِّئه صدارة الناقد ويؤهله لأنْ يُعَدَّ من النقاد المعروفينَ غير المتسلحينَ بنظرية سياسية أو اقتصادية ، ولا من الرَّاكنينَ والمستندينَ إلى منهج وطريقة ما يستمدُّون ممَّا توحي به من خطرات وأفكار سائر ما يجول في ذهنهم من حكم نقدي أو رأي منطقي أبعد عن التغرُّض والتزيُّد ، سوى أنْ آثر هو تسمية صنيعه هذا بالنقد التأثري الذي يعفُّ عن التجريح والإيلام ولا يؤذي أو يشوك ، وإنْ دمغه المرحوم الدكتور محمد مندور بأنَّ له مثل وخز الأبر .
لكنَّ كتابه المأثور هذا أغار عليه وسطا معظم مَن أسموا ذواتهم نقدة انطباعيينَ أو تأثريينَ هنا وهناك ، خاصة إبَّان ستينيات القرن الماضي ، وجلُّ ما قبسوا منه أو حوَّروه ووفقوا لصوغه بحسب تعبيراتهم العائمة هي انَّ أبطال أعمال القصصي والرِّوائي الفلاني محبطون ويائسون وفاشلون في مواجهة ما يحدق بهم من كوارث ومآس ٍ ، وانَّ الكاتب يسيِّر شخوصه ويتدخَّل في توجيه مصائرهم ويملي عليهم مبادئه وتوجُّهاته في الحياة ، وهكذا نستخلص من معظم ما كـُتِبَ قي نقد القصَّة منذ ( خطوات في النقد ) ، نفس الدَّقائق والأحكام القاطعة والآراء التي لا تـُرَد بغير مساءلة أولاء أنْ كيف جاز لكم نعت الفرد الإنساني المفدوح والمحبط والمنكسر بأنـَّه بطل ؟ ، حتى توغلوا في التكابر والتسافه والغلواء ، وتصطنعوا التبابعة والمهووسينَ لإنجازاتكم عسى أنْ يحذوكم ويجروا على منوالكم بعد أنْ أوسعتموهم احتقارا ً وازدراءً .
غير انـِّي اجتلي بتحفظٍ واحتراس من إرسال القول على عواهنه ، ثمَّة انكماشا ً وانغلاقا ً دون آثار الجيل السَّابق عليه من المنشئينَ المصريينَ في عموم كتاباته ، فلا التفات ولا إشارة لمدوَّنات إبراهيم عبد القادر المازني الذي يُعَدُّ الرَّائد الأوَّل لما أسماه لويس عوض فنَّ الابتسام في الأدب العربي الحديث ، دون انطلاق في الضَّحك والصَّخب ، إنـَّما حسب الإنسان من وقع ما يقرأ وصداه في نفسه هو أنْ يبتسم بفتور ، لأنَّ خلف ابتسامته يكمن شجنٌ وكآبة ، ولم يعمد المازني لموقف ما من أزمات الحياة ومعضلاتها عن تسافه ولا أبالية مستخفة لا تأبه بما يعرض من صعاب ومثبِّطات ، بل يركن لفلسفة تعي أنَّ سبيل العيش وعرٌ لا يُشَقُّ ، وليس لنا كي نغالبه وننتصر عليه ونجوزه بأهون الخسارة إلا بأنْ نستعلي عليه بالتهكم والسُّخرية والاستبشار الأبدي في السَّراء والضَّرَّاء ، لأنَّ البشر من القوة ؛ ونستقري هذه الرُّوح المتفائلة تشيع في سائر كتبه المعروفة لا سِيَّما ( خيوط العنكبوت ) ، بينما فكاهة يحيى حقي التي تتوشَّح بها حكاياته ومرويَّاته فنلفيها مثقلة بالتكلف والافتعال ، ومحمِّلة صاحبها من النصَب في تصيُّدها وحبكها ما يحول دون سوغها والاستئناس بها بطواعية ، وما نقف على طرفٍ منها إلا بعد المرور بمثل الغابة اللفاء جرَّاء شغفه بهذا البيان اللفظي والأسلوب المُوهِم بتأنـُّقه على حين ينوء بالجمل المعترضة ولا يستوي على الدَّرب ويتأتى لك اعتياده والمِرانة عليه إلا بعد طيِّ صفحة أو أقل أو أكثر من مقالته ، كما تبدَّى ذلك بشكل ظاهر في نصِّه النثري الثريِّ والذي نعته ( أشجان عضو منتسب ) ، مُجمِلا ً فيه سيرة حياته ، وجلُّ فصولها يخلو بطبيعة الحال من وصفٍ أمين ودقيق لما وقع فيه في أحيان من شطط ، أو بدر منه من تفريط وإخلال بالذمَّة والنكول عن الواجب حيال بعض لداته وأصفيائه ممَّن امتحنتهم الأيَّام والظروف بالضَّوائق والمحرجات ، إنْ لم يتشدَّق خلالها بنقائه وتجرُّده وعفته واستقامته وتناهيه في إضمار الولاء لشعب مصر ، على حين عابه صديقه العلامة محمود محمد شاكر ووصمه بالجبن حين لم يمرَّ ببابه وتوارى بعيدا ً ، وضنَّ بالسُّؤال عنه وتفقد أحوال عائلته غداة تعرُّض معيلها للحبس في السُّجون الثورية ! .
وفي كتاب ( خطوات في النقد ) فصلٌ مكرَّس لحياة الفنان نجيب الرَّيحاني ، فيه من التحامل ما فيه ، ويعدوه إلى الإقذاع والتطاول والتمادي في الاستلال والطعن بشخصية ( كشكش بگ ) المصنوعة والمفترضة من قبل ذلك الممثل الموهوب الذي خاله يحيى حقي مجافيا ً ـ على طول الخط ـ لأميال المصري الصَّميم ، ومستهينا ً بأطواره وأخلاقه وطباعه على حين أنـَّه توخَّى تشجيعه على الارتفاع والتعالي فوق مآسيه ومواجعه ، واستحثاثه على الظهور بمظهر المليء الصَّدر بالفرح والابتهاج ، الأمر الذي أشاد به طه حسين عبر مقالة نشرها في مجلته ( الكاتب المصري ) غبَّ رحيله ، فلا مراء أنْ جاء طافحا ً بالألم والكمد والمرارة ، خلافا ً لما تورَّط فيه يحيى حقي من التشنيع والاستقباح وتجريده له من الموهبة الأصيلة ، وانـَّه لا يُحسِن سوى حمل الجمهور على التمادي في الضَّحك العالي الصَّخاب بمجرَّد ظهوره فوق خشبة المسرح ، ولا يدري المشاهد لماذا يضحك ، كلُّ ذلك يُمَرَّر تحت قناع من الولاء والتمسُّك بمحبة مصر ، والتعاطف مع حياة فقرائها وكادحيها وطيبة نفوسهم ، ويخلص من الإفاضة في توفق بلاد النيل لاحتواء الأفراد من كلِّ العناصر والأجناس والملل والنحل بدون أنْ يسهو عن أنْ ينصَّ على كونه متحدِّرا ً من سلالة ضاربة في الأصول والأعراق التركية ، على أساس أنـَّه مصارح بالواقع وموضوعي يكشف كلَّ شيءٍ ، في الوقت الذي يطول الرَّيحاني بمغامزه من قبيل أنـَّه طارئ ووافد على تربة مصر ، فاحتوته كشأنها مع الأغراب المختلفينَ عن ناسها في دخائلهم وسرائرهم ، فحاول الاندماج بهم ومسايرتهم في وجهاتهم ، وأبَتْ سليقته إلا تشويه حياتهم ، ومسخ جوهر نفوسهم باصطناع شخصية ( كشكش بگ ) المفتقدة للفضل والمروءة ، وتبيَّن أنـَّه ينفس عليه شعبيَّته وحضوره المستديم في الوسط الفني ويستكثر عليه انسجامه وحياة المصريينَ لا لشيءٍ إلا لأنَّ أصله عراقي .