
عدتُ لدمشق ، بعد زيارة لبغداد طالت بعض الوقت ، ومع عودتي أعتراني شعور بأن الكثيرمن الأشياء لابد ان تغيرت ، وأولها المشهد الثقافي وتقاليده المعروفة ، لاسيّما الحراك الثقافي الواسع الذي عُرف به العراقيون من الادباء والفنانين الذين أختاروا الشام لتكون محطتهم الأثيرة في طباعة كتبهم والالتقاء بأصدقائهم من المغتربين …
وكان تصوري بأن اول المتغيرات ستشمل أشهر شخصية عراقية سبق ان أطلقتُ عليه في صحيفة ( الزمان ) قبل نحو ثلاث سنوات لقب ( مختار الثقافة العراقية في دمشق ) وأعني به ( ابو حالوب ) حيث توقعت ان طقوسه الممتدة لثلاثين عاما ستتغير نظراً للظروف المعروفة ، بعد ان قلّ الوافدون الى دمشق من المثقفين العراقيين ،فقلّت تبعاً لذلك ،اللقاءات التي تجمعها موائد دمشق ومنتداياتها ومقاهيها ومكتباتها .. الخ
لكن اللافت ان الرائع ( ابو حالوب ) بقى مثل صنديد عنيد على طقوسه في مقهاه الأثير ، مقهى ( الروضة )فيوسطشارعالعابد الشهير، هو نظره على باب المقهى منذ التاسعة صباحاً حتى العاشرة ليلاً بأستثناء فترة الظهيرة حيث يتناول طعامه ، يتفحص الداخلين ، وحين يلتقي بأحد المبدعين العراقيين يفرح كثيراً ، شاعرا كان ام قاصا او تشكيليا اومطربا .. النادلون في المقهى اصبحت لديهم فراسة ومعرفة ، فحين يدركون ان مرتاد المقهى عراقيا ، فإنهم يتوجهون اليه بأبتسامة دمشقية (ذاك ابو حالوب ) انه العراق المصغر ، في لقياه وابتسامته وصوته وحركة يديه و.. و .
وعندما ولجت المقهى ، تسمرت عيناي عند الطاولة والركن المفضل لأبي حالوب .. كان جالسا وكأنه بأنتظاراحد على موعد وأياه ، لكني كنت واهما ، فـ(أبو حالوب )لم يكن ينتظر احدا معيناً كان يرنو الى لقاء اي عراقي ليشمه ويتعطر به ، يالعظمتك اخي ابو حالوب ، محبتك العراقية ، تذهلني وانت الذي لم تحظى برعاية عراقية من اي مرفق ثقافي بالرغم من كونك سفيرا فوق العادة للثقافة والمثقفين العراقيين ، وأسمك أصبح كنية لرجل يجمع الكل على طاولة حب الوطن ، فإيمانك بأن للأدب صوت عال ، يتخطى الابعاد ، ويحرك القلوب ، ويثير العواطف والهمم ، إيمان حقيقي راسخ ، لذلك لمأرك تنحاز لحساب هذا الاديب او ذاك طبقا لنظرية السياسيين في وطني الذين تسعدهم الفرقة في حين انك تُسعد بالّمة والوداد ، فأين منك السياسيون ومن نفسك الوطني الجامع .. اين ؟
ثوان بعد لقائي مع ( ابو حالوب ) مدّ يده الى كيس تحت طاولته ، وقبل ان تبدأ كلماتنا المعتادة ( شلونك ، شأخبارك .. الخ ) قدم لي محموعة من الإصدارات العراقية وعليها إهداءات مؤلفيها ، فضحكتُ ، طالباً منه ان يؤجل ذلك الى ما بعد حوار الغياب ، فرد بصوته الحنون ( لا .. هذه امانة ويومياً اجلبها معي لشعوري بأنني سألتقيك يوما ) واضاف بأن هناك الكثير من الإصدارات والرسائل لغيرك ، احملها معي يوميا الى المقهى بأنتظار تسليمها .!
عراقي الهوا ، سوري الاصل
ابوحالوب ، يسعده ان يكنى بهذا الأسم فقط ، وبات لايود ان يُعرف بإسمه الحقيقي ( أسمه لبيدبنرشيدبنبكتاش وأصله من سوريا لكنه عاش الشطر الأكبر من عمره في العراق ، فأصبح لا يصدق ان اصوله سورية ويصر على عراقيته في الوجد والهوا) وتلبية لرغبته ، صار( ابو حالوب ) هو الأسم الأشهر لرجل عازب ، لم يتزوج بعد رغم تجاوزه عقده الخامس و(حالوب ) من اسماء التمني لديه ، وعسى الله ان يجمعه بأبنة الحلال لترزقه بـ(حالوب ) قولوا معي .. آمين !
وصح القول ان من احسن خدمة وطنه وشعبه ، استغنى عن رفعة النسب .
انني فهمتُ ( ابو حالوب ) يأساً وأملاً ، وخيبة ورجاء ، وبسمة وعبوساً ، وفهمته قلقاً وارفاً ، ووجيباً ودموعاً ، لكني فهمته بعمق للحد الذي أتصوره بأنه شبيه بنقطة تلاقي شفاه تستحم في عبير الليل .. نقطة تتكئ على ارجوحة أفق وتتلاشى في بريق نجم !
ومن خلال لقاءاتي معه ، تعمق لدي احساس بأن ( ابو حالوب ) مثقف ومطالع جيد ، يمتلك ذاكرة عجيبة في تتبع الشأن الثقافي العراقي ، ولا أظن ان اديبا اصدركتابا ، في مشرق الأرض ومغربها ، إلا وكان عند ( ابو حالوب ) علم به ، وعندما يقع نظره على مشهد جدلي يناقش الثقافة العراقية ، تهيج عنده مكامن قراءاته وخلفيته الثقاقية ، وهو لايحمل على النقاش حملاً ، ولا يدفع اليه دفعا ، إنما احساسه الداخلي يستثيره و يثيره ، يستفزه ويستحثه، فتراه يندفع الى نقاش غني بالمعلومات ، فيكون عطاؤه الفكري عند ذاك نابع من ضميره غير منساق اليه من احد ، إنه رجل عفوي يغذي العفوية ويتغذى منها ، وهو يذوب في العفوية ، ويستحم برمضائها ويستنير بلالئها ، ويهتدي بهديها ويعيش في رياضها وصحاريها .
الجواهري محيياً ..
اردتُ ان أغيّر من نمط يومه ، فدعيته الى سهرة لأشهر مطربة كلثومية في الشام وهي ( لميس خوري ) وحددنا أحد ايام الخميس ، وقبل الموعد حضرتُ مع الأعلامي الصديق ” سعد الزركة” الى المقهى لأصطحابه الساعة التاسعة مساء ، لكني فوجئت بأعتذاره قائلاً ( كيف اغادر المقهى في هذا الوقت ، والجميع يعرف ان وجودي مستمر حتى العاشرة ليلا ؟) فبقينا ننتظر انتهاء ” دوامه ” حتى ازف وقته المعتاد ، فنهض هاشا ، باشا وتأبط كيسه المليئ بالكتب وامام صوت (لميس خوري) وترديدها للطرب الأصيل ، تحول ( ابو حالوب ) الى انسان آخر ، غير الذي نعرفه ، فبدأ يدندن بصوت ملحوظ مع الصوت الكلثومي ، ثم تطور الأمر الى التصفيق … انه طفل كبير، رقيق بمشاعره وسيرورته ، وتحولت الرصانة التي غلفت حياته بجلالها وكمالها ، وخلعت عليه من حسنها نضارة ، ومن سيمائها مهابة ، الى مساحة فرح طفولي ، وتيقنت وانا اشاهد ( ابو حالوب ) في تلك السهرة ، بان لكل من يتعامل بالشأن الثقافي ، شخصيتين، تعيش احداها مع نفسها وامام الخُلص من اوفيائها ، والاخرى في مواجهة الناس ، وإذا كان يقيني لا يعدم الصواب ، فأنه لا يعدم الوهم ايضاً ، لأن ( الكائن البشري وحدة لا تتجزأ ، وإنما هي النفس الانسانية المتقلبة التي تتبدى في مظاهر شتى هي خليط من ارتكاسات المزاج الثابت الذي رُكّب عليه المرء ، والملابسات الطارئة التي تعتري الانسان في مواقف بعينها ) .. لقد بدا لي ( ابو حالوب ) في جلسة الفرح مؤمنا بالقول المأثور ( يهدم الصدر الضيق ، ما يبني العقل الواسع ) !
وحين انتهينا من سهرتنا الدمشقية ، بعد غياب عن دمشق المكان والاحبة ، أوصلنا ( ابو حالوب ) الى بيته المتواضع في احد الأحياء القديمة ، سمعته يردد مع نفسه بصوت مسموع ، أبياتاً من الشعر ، وعند مقاطعته مستفسرا عن تلك الابيات قال انها هدية بحقه من شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري الذي تعرف عليه منذ ان اصبحت هواية ( ابو حالوب ) حراسة الثقافة العراقية بالشام في ثمانينيات القرن الماضي ، فماذا قال الجواهري الكبير بحق لبيد بكتاش الشهير بأبي ( ابو حالوب ) ؟
ألبيدُعشتَالدَّهرَعُمرَلبيدِ
غضَّالصِّباألِقَاًطريَّالعُودِ
أهديكَمِنْشعريأعزَّوليدةٍ
زُفَّتْاليكَوأنتَخيرُوليدِ
ألبيدُنحنُالأسبقونَمعابراً
لممرِّجيلٍمنذويكجديدِ
************
لقد صح القول في ( ابو حالوب ) بأن الصداقة الحقة ، نبات بطئ النمو ، لكن جذوره قوية مثل جذور نخلة عراقية ..!