حسين سرمك حسن: الدكتور عبد السلام صالح؛ خطوة مباركة على طريق تعريب الطب

من عجائب هذه الأمة التي يُقال أنها خير أمة خرجت للناس هو أن قولها أكبر من فعلها وشعاراتها أكبر من خططها وتصريحات مسؤوليها أضخم من نتائج مجهوداتهم. وما يفلحون فيه ونسمعه يوميا هو تشكيل اللجان المتواصل حتى صار المواطن يقول ساخرا أن كل لجنة يراد لها لجنة وهكذا لجان ولجان حنى مطلع فجر الخيبة الحضارية. ومنذ بداية السبعينات والعرب عموما والمسؤولون العلميون في العراق خصوصا يطلقون الشعارات ويضعون الخطط ويشكلون اللجان – وهذا هو الأهم – لتحقيق شعار خطير وكبير يمس مستقبل التعليم الطبي خاصة ومهنة الطب والمستوى الصحي عامة، ويتمثل في شعار “تعريب الطب”. وعبر أكثر من أربعة عقود لم يتحقق أي شيء يُذكر لتحقيق هذا الهدف المهم والحاسم سوى أن لجنة تعريب الطب صارت بحاجة إلى لجنة للجنة تعريب الطب !! لقد اتسعت الفجوة ومن وجهة نظري صار مستحيلا في ظل الثورة العلمية الطبية الهائلة في الغرب تحقيق هذا الهدف ونحن – الجيل الذي شهد وسمع اطلاق هذا الشعار – على قيد الحياة. وقد أدرك بعض الأطباء الغيورين المؤمنين بمهنتهم المقدسة وبمسؤوليتهم تجاه الأجيال الطبية الجديدة ضرورة أن يتحول هذا المشروع إلى مشروع فردي. ومن بين هؤلاء الأطباء المثابرين هو الطبيب العراقي الدكتور عبد السلام صالح الشمري الذي عايشته في علاقة قريبة ووثيقة علميا وإنسانيا منذ أكثر من ثلاثين عاما. وقد بدأنا مشروعنا بصورة متواقتة وبصورة شخصية بعد أن غسلنا أيدينا من دعم الجهات الرسمية، ففي الوقت الذي بدأت فيه بوضع كتبي الطبية في منتصف التسعينيات : “المرشد النفسي في رعاية المعاقين” و”أمراض الأشخاص المهمين جدا- VIPs .. وترجمة “المرشد في مرض الصرع”، ثم ترجمة “موسوعة تاريخ الطب” (ثلاثة أجزاء) ، بدأ عبد السلام بترجمة مشروعين كبيرين استغرقا منه أكثر من عقد من السنين تقريبا ، ويتمثلان في جانبين حسّاسين تفتقر إليهما المكتبة الطبية العربية والعراقية وكلاهما يتعلقان بمهارات الإتصال – communication skills التي لا نعيرها اهتماما على شتى المستويات، وقد صدرا الآن في كتابين عن مؤسسة أكسفورد رادكليف في لندن (أي ليس من جهة عراقية) وبموافقة ومباركة ومعاونة مؤلفي الكتابين الأجانب (والتزامهم الأدبي الرفيع لمساعدتنا في أثناء الترجمة وتوضيح العبارات والكلمات الغامضة ومتابعتهم مراحل الترجمة اولا بأول ) كما جاء في الشكر والتقدير في الطبعة العربية من الكتابين. والكتابان هما : تعليم وتعلّم مهارات الاتصال في الطب – teaching and learning communicating skills in medicine (371 صفحة) ، ومهارات الإتصال بالمرضى – skills for communicating with patients (252 صفحة). ومن الواضح والمؤكد من المقدمة أن الترجمة هي جهد باهر وعزوم من قبل الدكتور عبد السلام وبمشاركة من طارق ابراهيم المبارك وقد تابعت جهد الأول شخصيا بصورة تفصيلية كما قلت وليست لدي معلومات عن الثاني وهل هو طبيب أم لا حيث لم يتضمن الكتاب سيرة ذاتية للمترجمين.

وقد شكر المؤلفون الأجنبيون (طبيبة كندية وطبيبان انكليزيان) كل من ساهم بصورة مباشرة في إثراء عملهم وإغنائه بالمراجع أو الملاحظات أو التصحيح والطباعة والنشر ولم تكن لهم أدنى علاقة بوزير الصحة. لقد شكروا من تحمل معهم الأعباء بصورة مباشرة ومن بينهم زوجاتهم وأولادهم . أما الشكر العراقي فجاء في سطره الأول موجها الى معالي السيد وزير الصحة الذي تغيّر الآن ولا علاقة له من قريب او بعيد لا باختيار الكتابين ولا بالترجمة ولا بالطبع ولا بالنشر ولا بالتوزيع ولا بالاتصال بالمؤلفين والحصول على موافقتهم ولا بالمراجعة . فالموافقة جاءت بجهد شخصي من المؤلفين المتسامحين والطباعة والنشر من مؤسسة اكسفورد الانكليزية وهي طباعة رائعة نتحسر عليها وهي التي ستقوم بتوزيع الكتابين في البلاد العربية .
وقد عبر المؤلفون عن أهمية الكتابين في مقدمتهم بالقول أنهما مصمّمان لتحسين مهارات الإتصال في المجال الطبي بأسلوب شامل لتعليم وتعلّم الإتصال في الطب خلال المستويات الثلاثة للتعليم الطبي (الدراسة الجامعية الأولية والإقامة والتعليم الطبي المستمر) وللأطباء الاختصاصيين وأطباء الأسرة معا. ومنذ طبعتيهما الأولى (الأصح الأوليين والغريب وجود أخطاء لغوية والكتاب مراجع من قبل خبير لغوي عراقي) في 1998 أصبحا الكتابين المنهجيين في تعليم مهارات الاتصال في أنحاء العالم كافة، وأول كتابين (يعتمدان على البيّنة- evidence – based ) في المقابلة الطبّية).
ويلخّص المترجم في مقدمته مهارات الاتصال بأنها جواب أداة الاستفهام (كيف: كيف يصوغ الطبيب عباراته في مراحل المقابلة الطبية كافة؟) ، والتي تكمل جواب (ماذا: ماذا يتعلم؟)، وعندما يجمع الطبيب بين المضمونين: ماذا يتعلم؟ وكيف يصوغ؟ المعلومات والمهارات التي يكتنزها بأحسن ما يمكن، سيقدم رعاية صحية افضل للمريض الفرد والمجتمع عامة).
والغريب هو أن كليات الطب عندنا تخرّج اطباء يحملون كمّا هائلا من المعلومات النظرية في حين لا يعرف الطبيب زرق حقنة عضلية .. والأسوأ هو أنه غير مسلح بأي قدر من مهارات الإتصال التي تتيح له توصيل التوجيهات الطبية للمريض وإدارة العلاقة معه ومع عائلته إلى الحد الذي نرى فيه الكثير من المشكلات وحتى المشاجرات بين المرضى والأطباء .
ويلفت المترجم انتباهنا إلى معضلة شديدة الحساسية وتتمثل في دور عامل “اللغة” في عملية الاتصال الناجح وإدارة العلاقة بين الطبيب والمريض. حيث (يحتاج تدريس مهارات الاتصال إلى تسجيل المقابلات الطبية وتحليل مكوناتها اللفظية والانصات لرواية المريض والبحث في طبيعة الأسئلة وصياغتها وتأمل استجابة المريض وفهم عباراته .. إلخ. ولجميع هذه المهام الجسيمة يجب أن تسجل المقابلة الطبية وتُدرس وتُحلل ويُفهم مغزاها باللغة العربية وتُستنبط العبارات والمهارات المحلية الضرورية أي العربية القريبة واليسيرة لتعميمها في المناهج الدراسية . لذا من الضروري ادخال اللغة العربية الى المناهج الدراسية في موضوع المقابلة الطبية ، وبإدخالها تطوير لمهارات الاتصال الطبية العربية الحديثة ).
وقد اشتمل الكتاب الأول (تعليم وتعلّم مهارات الاتصال في الطب) على مقدمة وثلاثة أجزاء ضمت ثلاثة عشر فصلا منها: “لماذا”: المنطق في تعليم وتعلُم مهارات الاتصال، “ما”: تعريف ما نحاول أن نُعلمه ونتعلمه، الكيفية: مبادىء كيف نعلم ونتعلم مهارات الاتصال، تحليل المقابلات وعرض الاسترجاع “التغذية الاسترجاعية” في جلسات التعليم التجريبي، إدارة الجلسة، أسس تصميم مناهج مهارات الاتصال، تقييم مهارت اتصال المتعلمين .. وغيرها.. وستة ملاحق عن دليل كالكاري – كامبرج الثنائي لمهارات الاتصال.
أما الكتاب الثاني (مهارات الاتصال بالمرضى) فقد تكوّن من مقدمة وثمانية فصول منها : تحديد ماذا نتعلم ونُعلم : نظرة عامة على منهج مهارات الاتصال، افتتاح المقابلة ، جمع المعلومات، بناء العلاقة، إغلاق المقابلة، تدبير مواقف خاصة بمهارات الاتصال الأساسية.. وغيرها.
وإذ نحيي جهد الدكتور عبد السلام صالح الضخم والباهر هذا ، فمن الضروري الإشارة إلى ان المهمة الأساسية التي تنتظر الجهات الطبية المسؤولة الآن بعد أن قام المترجم بترجمة المصدرين الأساسيين من الإنكليزية إلى العربية وسد نقص المكتبة الطبية العراقية منهما ، هو إدخال هذا الموضوع الأساسي (مهارات الاتصال بالمرضى ومناهج تدريب الأطباء عليها) ضمن مقررات كليات الطب والإقامة والتعليم الطبي المستمر.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

مهند الخيگاني: تشريح الصمت وتصنيف الكلام في عالم ماكس بيكارد

“ولد الكلام من الصمت من الصمت الكامل ، كان كمال الصمت قد انفجر لو انه …

مهند طلال الأخرس: #كل_يوم_كتاب.. طريق الخيّالة

طريق الخيّالة، سبعون عاما من الذاكرة، كتاب سيرة ذاتية وهو بقلم المناضل والفدائي البطل احمد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *