
غاب أسمه عن المشهد الثقافي العراقي، فيما كان شاغلالمثقفين بإبداعاته، ودماثة خلقه، ودوره في إذكاء الذوق القصصي من خلال تقديمه قصصعشرات القصاصين العراقيين حينما كان مشرفا على ركن ريادي يسعى الى التعريف بالقصصوكتّابها الذين كانوا ينشرون في مجلة “الف باء” العراقية في سبعينيات القرن المنصرم،او حين تسلمه رئاسة تحرير مجلة الطليعة الأدبية وأسس مجلة الثقافة الاجنبية
إنهموفق خضر الذي سجل اسمه كأصغر قاص عراقي ينشر قصة وهو بعمر14 عاما، طالبا فيالدراسة المتوسطة، وأمامي عدد من جريدة بغدادية أسمها “أنباء الساعة” صادر يوم 27تموز عام 1954 فيه قصة بقلم موفق خضر تحمل عنوان (الشقية) ..
فهل رحيل المبدع،جسداً، معناه إسدال الستارة عن مسيرة وعطاء دام لعقود من الزمن، أصبح ظاهرة عراقيةبامتياز، حيث أصبح البعض يلهث وراء اسم لجسد حيّ، طالما هو في موقع المسؤولية اوالشهرة، وما عداه فهو ذرات رمل في رياح الحياة؟
حالة لا تسر، تنم عن نفاقاجتماعي، وهي تؤشر لقلق في فهم الاشياء ورحم الله من قال ( لا تعاشر نفساً شبعت بعدجوع، فإن الخير فيها دخيل، وعاشر نفساً جاعت بعد شبع، فإن الخير فيها.. أصيل ) لكناين الأصالة في واقعنا الثقافي الراهن؟
رحل موفق خضر منذ سنوات الى دنيا البقاء،وبرحيله ضاع ذكره وصمت حتى من كانوا يسبحون بإسمه، لكن نشاطه القصصي المبكر، ظلشامخا، متفرداً، بل هو ظاهرة شاء منشاء، وأبى من أبى، وعندي ان ولوج فتى بعمر الـ 14 عاما ومازال زغب شاربيه في طور النماء ، باب النشر في صحيفة محلية ، حاملاً قصةفرضت نفسها على المحرر الادبي في الصحيفة المذكورة فنشرها، هو شجاعة كبيرة، ورمزلتحدي موهبة تمور في جسد الفتى، في حين كان من هم أكبر منه سناً من متعاطي الثقافةلا يجرؤون المرور امام دور الصحف، مهابة وخشية.. اليس في ذلك ثقة عالية بالنفسجديرة بالذكر؟
كانت علاقتي بالرجل، علاقة صحفي بقاص ومن ثم مسؤولاً في وزارةالثقافة والاعلام، وربما كان لموقع الجريدة التي أعمل فيها، البعيدة إداريا عنهيكلية الوزارة، جعلت تلك العلاقة تأخذ بعداً يسوده الود، لاسيّما ان كافة وسائلالنشر كانت تابعة للوزارة التي كان موفق خضر مديراً عاماً فيها..!
تعمقت العلاقة،حينما جمعنا وفد ضم ممثلين عن وزارتي الاعلام والتعليم العالي وجريدة الثورة التيمثلتها، مهمته توقيع اتفاقية ثقافية واعلامية مع بولونيا، ومنذ ان وصلنا “وارسو”عاصمة بولونيا عصر الاثنين 23/10 / 1978 وحتى مغادرتها، لم ينقطع سيل ذكريات موفقخضر.. كان حديثاً، كله شجون ومتعة، سرد فيها ملامح من سيرته وبيئته في كرخ بغداد،وحياته الطلابية في ثانوية الكرخ التي تخرج منها قبل ثورة 14 تموز 1958 وكان منزملائه في المدرسة الشاعر سامي مهدي، وحدثني عن ارتياده المبكر للتجمعات الثقافيةالتي كانت منتشرة في بعض مقاهي بغداد وهو طالب في الثانوية، وعن علاقته بإذاعةبغداد حين تولى مسؤولية الاشراف على قسم المذيعين فيها في الستينيات وانتقالهمدرساً الى مدينة النجف.. الخ
وشاءت الصدف، ان نلتقي مرة أخرى، بعد حوالي شهرينمن لقاء بولونيا، لكن هذه المرة في دمشق، حين اقام العراق اياما ثقافية رائعة فيأوائل عام 1979، وكان موفق خضر مديرا عاما لدار الشؤون الثقافية، وتكرر الحديث ، ومعهزادت الألفة، ومن جانبي زادت معرفتي بالقاص موفق خضر حيث بدأت اتابع ما نشره وماينشره بعين القارئ المتفحص..
ريشة فنان في رسم القصة
والحق اقول، انني لم أرفي موفق خضر قاصا حسب، بل رأيت فيه فنانا رائعا في رسم شخصيات رواياته بريشة محترففي الفن التشكيلي، وهو بارع في تقديم نماذج بشرية من سطح وقاع المجتمع، ويبدواهتمامه واضحا بحدثه الروائي وتسلسه وبكثرة الأفكار والأسئلة المنبثقة عنها.
وكان مؤمنا بأن للقارئ الحق في تتبع مسيرة الشخصيات الروائية، دون تعقيد فيالحبكة الروائية، فالبساطة والعمق عنده افضل من هلامية التعبيرات والجمل غيرالواقعية التي تجعل القارئ يعلن اشمئزازه من اولى صفحات الرواية !!
لقد ظهر موفقكما ألمحتُ في فترة جيل منتصف خمسينيات القرن المنصرم، وهو لم يزل فتى يافعا، وهيفترة اصطرعت فيها الأيدولوجيات السياسية والفكرية والثقافية والأدبية، ومن يقرأبدايته المتمثلة في روايته الأولى (الشقية) يجد ان هذا الفتى ملما بخفايا فن الروايةربما بطريقة فطرية، لاسيّما أسلوبه المتفرد في جو الرواية، واظن ان تمكن موفق في فنالحوار القصصي جاء من اعجابه بالكاتب ديكنز المعروف باهتمامه بالحوار في جميعرواياته. . وقد حدثني موفق في بولونيا على هامش جلساتنا اليومية التي سبق الاشارةاليها عن تأثره الشديد بكاتب العصر الفيكتوري “تشارلز ديكنز” ومما اذكر قوله بهذاالصدد، ان ديكنز كان فيلسوفاَ ومهرجاً، وعالماً نفسياً، وفناناً يمزج الجد بالهزلوالعاطفة بالشعور الصادق.
ان العالم يسير بسرعة باستمرار، وفي كل يوم يحدث جديدفي العلوم والافكار، وفي شتى صنوف الحياة، وقد ادرك موفق هذه الحقيقة مبكرا، فسعىالى البحث عن وسائل جديدة للتعبير في قصصه وجعلنا نطوف مع افكاره الانسانية ونحنجلوسا في مقاعدنا لا نبرحها، ونسافر معه الى حيث يريد، وهي ملكة قليل من حظىبمثلها، فالقاص الحقيقي هو من يكتب من وحي الحياة، والروائي الممتاز يستحق لقب شاعر، لأنه ينظر في الحياة اليومية، متأملا غائصا في عالم الاحلام ثم يعود الى عالمالواقع محملا بثمار الفن، ووظيفة القاص كما يفهمها موفق، هي اكتشاف عما في الحياةمن جمال و قبح.. الخ
لقد كتب موفق بأسلوب واقعي مثير، دون اية محاولة للافتعال،فجاءت قصصه صادقة، بسيطة، مؤثرة، تنفذ الى اقسى القلوب من أسهل طريق.
وفي قصصموفق القصيرة، كل ملامح الرواية الطويلة، غير انها اكثر تركيزا، وهي تحمل طابعامتميزا وفلسفة واضحة المعالم ونظرة متفحصة للحياة والناس.
سخريةالفلسفة..
ورغم كثرة قراءاتي لموفق خضر لم اجد له رواية او قصة قصيرة، خالية منفكرة فلسفية اوموقف من الحياة لا يخلو من سخرية تحمل معاني الخلق والعدم، له قيادةمذهلة لشخوص روايته، وهو حريص ان لا تقع تلك الشخوص فريسة لليأس، رغم قناعاته بانالعالم الذي تعيش فيه قاس، غليظ يجافي أحكام العقل والمنطق.
واجد ان موفق خضر،يؤمن بأن الاصالة، لا حدود لها، تخومها عند السماء وأذيالها عند أخر موجة تتكسرلنهر دفاق تحرسه سدود قوية، وانه كاتب قصصي متعدد الرؤى ، وليس أحاديا في منهجيةوضمن قالب محدد، انه مثل لوحة تشكيلية، فهل سألت اللوحة عن ألوانها؟ إنها تسأل عنتشكلها، وموفق خضر تشكّل في كتابة الرواية وبرع في الحوار، ولعل اختياره لكتابة حوار فلم(الاسوار) قصة عبد الرحمن الربيعي، ما يدلل على اختيار ذكي، حيث اضاف للفلم لمسةحوارية مفعمة ببعد انساني، شد المشاهد الى المتابعة… لقد رسم لنا موفق في حوارهحدودا واضحة بين السخرية وبين الكوميديا، وعندما خرجنا من صالة العرض شعرنا بقوةالرواية وموقفها من الحياة والظواهر السيئة فيها، من خلال جزالة الحوار المنثال منافواه الممثلين، فقوة حوار اي فلم، هو سلاح الذين لا يحملون سلاحا..
الوطن.. اولاً
رواية “المدينة تحتضن الرجال” صدرت في العام 1960 وموفق ما يزال طالبا فيالجامعة، وموضوعها يتحدث عن شاب أضطر لقطع دراسته في بغداد في اعقاب انتفاضة 1956الشعبية التي شهدها العراق رفضا للعدوان الثلاثي على مصر، حيث التجأ هذا الشاب عنداقاربه في الناصرية… وهذه الرواية تدلل على عمق الشعور الوطني للمؤلف من خلالاختياره تداعيات العدوان على مصر وما كانت تمثله مصر جمال عبد الناصر في الوعيالجمعي العروبي في تلك المدة المعروفة في التاريخ العراقي، وله رواية أخرى بذاتالمضمون الوطني بعنوان “الاغتيال والغضب ” وللناقد باسم عبد الحميد حمودي رأي في هذهالرواية ثبته في كتابه المهم( رحلة مع القصة العراقية ) قال فيه ان رواية الاغتيالوالغضب تستند الى ديالكتيك حدثي مدهشّ و القاص في الرواية كائن حالم، يمتلك القدرةعلى التصوير الفني المعتمد على الواقع متطلعا الى المستقبل، وهو بهذه الصورة انسانرافض لكل ما يشوه التجربة الانسانية، ولكل ما يعيق الانسان عن مستقبله الافضل و اننماذج موفق تحب الحياة، وتثق بها وتمنحها تجربتها كاملة رغم وعيها للواقع المتغيرولممكناته، فالأبطال ينشدون الى الواقع ليقاوموا الجانب الرديء منه، وينهلوا منجانبه الغض ، الامل الشديد الضياء و ان هموم موفق خضر في قصصه، هموم عامة يطغي فيهاالموضوعي على الذاتي، ويتدخل الذاتي بالموضوعي مشكلاً جزءا منه و لغة موفق تتميزبإشراقها الهادئ، يبدأها بجمل وصفية ثم ينطلق منها الى الحوار والمنولوغ، لينتهيبنهاية مرتبطة بالبدايات في وحدة درامية متشددة التفاصيل الى غاية .
وضمن تصوراتالناقد باسم عبد الحميد حمودي، فأنني لم اتفاجأ حين قرأت ان رواية لموفق خضر اختيرتمن بين افضل مائة رواية عربية خلال القرن العشرين في أعمام لأتحاد الكتاب العرب فيدمشق قبل أشهر، فكانت من ضمن ست روايات عراقية هي الرجع البعيد لفؤاد التكرلي و الوشم لعبدالرحمن مجيد الربيعي و النخلة والجيران لغائب طعمة فرمان و سابع ايام الخلق لعبدالخالق الركابي و الاغتيال والغضب لموفق خضر و رموز عصرية لخضير عبدالامير.
ولموفق خضر روايات وقصص منها المدينة تحتضن الرجال سنة 1960 التي جئت على ذكرها ، و الانتظاروالمطر سنة 1962 و مرح في فردوس صغير سنة 1968 و ألق ما بيديك 1970 و نهار متألقسنة 1974 و اغنية الاشجار سنة 1977 و الاغتيال والغضب سنة 1979 وغيرها، فما أحرانابالتوقف امام الابداع، مبتعدين عن نظرية المؤامرة التي بسطت أجنحتها على واقعناالثقافي، فبتنا لا نرى سوى أرنبة… انوفنا فقط !!
zaidalhilly@yahoo.com
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الاستاذ الحلي اقدم لك الشكر والتقدير على هذا المقال بستذكارك اعمال القاص الراحل موفق خضر ( رحمه الله)
راجين من الله ان يوفقكم .