قبل مدة قرأت في إحدى الصحف العراقية تحقيقا صحفيا عن “واقع الثقافة العراقية اليوم” تحدّث فيه مجموعة من المعنيين من الكتاب العراقيين الذين وصفهم المحرر بـ “المثقفين” . وبعد أكمال قراءة التحقيق ظهرت الكارثة واضحة وهو أن هؤلاء “المثقفين” لا يعرفون معنى “الثقافة” ولا مفهومها ولا تعريفها !!!! فقد جاءت أجوبتهم منصبة بصورة كاملة ومطلقة على الشعر والرواية والقصة والمسرح وغيرها من الفنون والآداب.
وقد تحدثت سابقا عن لقاءات شخصية جمعتني ضمن مجموعة من الكتاب بوزراء ثقافة عراقيين وعرب في مناسبات مختلفة ظهر أنهم مثل جماعتنا “المثقفين” السابقين يفهمون الثقافة على أنها شعر وقصة ومهرجانات .
والأكثر تكورثا هو أن إحدى الحكومات العراقية حاولت في إحدى السنوات نقل مسؤولية مديرية الآثار من وزارة الثقافة إلى وزارة الداخلية .. وبذلك تكون الشرطة فعلا في خدمة الشعب والعين الساهرة على كل شيء يهمه ومنها آثاره و”خزانات” تراثه.
صحيح أن بعض الباحثين في مجالات الثقافة قد أحصوا أكثر من (200) تعريف “للثقافة – culture ” ولكنها ليست متضاربة حدّ التناقض ولا يجمعها جامع مشترك أولا ، ولا هي تحصر هذا المفهوم في حدود الأدب والفن والمهرجانات والجوائز أبدا ثانيا .
إن الثقافة ايها الأخوة المثقفون تُعنى بالأفكار التي تحصل داخل رؤوس البشر والسلوكيات التي تجري حولهم ، في المجتمع المُعطى . فيا لها من مفهوم واسع وجامع هذه الأفكار والسلوكيات التي تجري في المجتمع .
وكل الثقافات الإنسانية تتشارك في “طراز أو أنموذج كوني – universal pattern ” يتكوّن من ثلاثة مقوّمات أساسية هي :
– البنية التحتية : وتشمل طرق الإنتاج والتكاثر (production and reproduction) .
– والبنية الأساسية : وتتضمن الإقتصاد السياسي والأقتصاد المحلي والمنزلي ،
– والبنية الفوقية : وتشتمل على الجوانب العقلية والفكرية والجمالية والإبداعية والتعبيرية في الحياة البشرية في المجتمع المُعطى .
وبهذا يتأكد لدينا أن الأدب والفن ما هما إلا جزء بسيط ولكن مهم من مكونات الثقافة .
إن تعريف الثقافة الدقيق هو أنها القيم والقواعد وطرز الحياة لأفراد مجتمع ما والتي تُتعلم وتُكتسب اجتماعيا وبضمنها طرقهم المنمّطة والمتكرّرة في التفكير والمشاعر والتصرفات (أي السلوك) .
وهذا التعريف يتبع وجهة نظر ( السير إدوارد تايلور – Edward burnet tylor sir ) ، مؤسس الأنثرويولوجيا الأكاديمية ، وصاحب أول كتاب في ” علم الإناسة – anthropology ” حيث قال :
(الثقافة بمعناها الإنساني الواسع هي مركب شمولي يتضمن المعرفة والمعتقدات (بضمنها المعتقدات الدينية) والفن والقيم والقانون والعادات والأعراف وأي قدرات وعادات يحوزها الإنسان كعضو في المجتمع . ووضع الثقافة في المجتمعات البشرية المختلفة كما هو قابلة للبحث وفق قواعد البحث العامة ، فهي قابلة أيضا للدراسة وفق قوانين التفكير والسلوك البشري ) .
سيقول قائل الآن إنك في هذه النظرة تساوي عن هذا الطريق بين الثقافة والحضارة ، فأقول إن هذا هو المفهوم الحقيقي للثقافة الذي لم يجعل إهمالنا له أوعدم معرفتنا به ، متخلفين كمجتمعات وأفراد حسب ، بل جعل مثقفينا – في التفكير الداخلي والسلوك اللاشعوري – أسوأ من اي إنسان غير متعلم ومنعزل لا علاقة له بالحضارة وبالسلوك الثقافي المتحضر ، وكل واحد شايل “عـﮔاله ” في جيبه كما يقول العلّامة الراحل الدكتور “علي الوردي” .
وارتباطا بهذا المفهوم الأصيل والعلمي للثقافة يمكن ان نقول أن التسمية الصحيحة لوزارات الثقافة العربية وفق فهمها الراهن للثقافة والواجبات “الثقافية” التي تقوم بها هي وزارات للفنون والآداب فقط .
حسين سرمك حسن : من كوارثنا الثقافية : مثقفون لايعرفون معنى الثقافة !!!
تعليقات الفيسبوك
اصبت كبد الحقيقة يا دكتور .ان عملية ايضاح المفاهيم اهم من المفاهيم نفسها , اذ اننا نخلط كثيرا بين الثقافة التي هي الحاضنة الاكبر للاداب والفنون وبين الادب . بارك الله بمسعاك التنويري في مجالات الابداع عموما
ات تقنين المفهوم الذي صكه الناقد الكبير د حسين سرمك هو مقاربة عمودية ابداعية لمسارات تناولت مثل هذه المفاهيم وعلى الأغلب فان توصيف الدكتور حسين يشكل مساحة للتلاقي والتناغم وقد أصاب في التحديد وهو المواكب والمطلع على مناهج النقد الحديثة وصيروراتها والمنطلق في جانب من مشغله النقدي من المنهج النفسي بحكم الاختصاص . تحية للدكتور حسين قامة بهية نزهو بها.
ان تقنين المفهوم الذي صكه الناقد الكبير د حسين سرمك هو مقاربة عمودية ابداعية لمسارات تناولت مثل هذه المفاهيم وعلى الأغلب فان توصيف الدكتور حسين يشكل مساحة للتلاقي والتناغم وقد أصاب في التحديد وهو المواكب والمطلع على مناهج النقد الحديثة وصيروراتها والمنطلق في جانب من مشغله النقدي من المنهج النفسي بحكم الاختصاص . تحية للدكتور حسين قامة بهية نزهو بها
شكرا لأخي الأعز الأستاذ الناقد رياض عبد الواحد على متابعته وحسن ظنه
شكري واحترامي إلى أخي الأعز الأستاذ الناقد والشاعر هشام القيسي على تعليقه الوافي وحسن ظنه
أنها حقا مقالة مهمة تبشر بولادة حقل الدراسات الثقافية والأدبية-ألما بعد خراب الثقافة العراقية، ذلك الحقل الذي أبدع فيه أستاذنا الدكتور حسين سرمك، من خلال كتبه ودراساته وتحليلاته ومناشداته الثقافية والأدبية، التي جعلت منه رائدا من رواد “الدراسات الثقافية والنظرية الأدبية الجديدة” بعد العلامة الراحل علي الوردي، أطال الله في عمرك يا أستاذنا ومعلمنا.
أصبت دكتور واجدت الاختصار ، ارتباك المفاهيم وازمة الاستيراد واسعة المدى للمصطلحات من دون تقنين وموضعة، احدى اهم أمراض الثقافة العراقية والعربية عموما ،وما أكثر امراض الثقافة وما اخطرها على مجتمعنا وشعبنا ووطننا لو يعلمون! محبتي واعجابي
شكرا أخي الأعز حيدر علي سلامة .. تقبل فائق احترامي
شكرا أخي الأعز المبدع جابر خليفة جابر على لطفكم وتقييمكم