تعني كلمة الهيرمينوطيقا علم أو فن التأويل ([1]) وإذا أردنا أن نستخدم عبارة أدق قلنا انه فن تجنب سوء الفهم حسب تعبير فردريك شيلرماخر الذي يتميز عرضه للتأويل والهيرمينوطيقا بأنه يفترض سلفا عدد من الافتراضات التي تتعلق بطبيعة المعنى أو الفهم وغيرها من القضايا التي ينتج عنها جملة من المشكلات ([2])، والواقع ان مفهوم الهيرمينوطيقا ينطوي على مجموعة من المفاهيم الفرعية أو المقابلة التي تشير إلى أصناف مختلفة من العمليات التأويلية الممارسة على النصوص كالفهم والتفسير والشرح والتأويل والترجمة والتطبيق وهذه الفعاليات الهيرمينوطيقا نجدها أحيانا مختلفة ومتمايزة مابين كتابها ومتطابقة ومتماثلة وأحيانا أخرى متداخلة ومتكاملة فشيلرماخر ودلثاي يهتمون بقصديه المؤلف وغادامر عني بقصديه النص وانصهار الآفاق وبول ريكور اهتم بمحايثة النص أي ان النص هو وسيط مابين الذات وذاتها واهتم كذلك بقصدية النص وفي الإطار نفسه يندرج مشروع امبرتو ايكو في مقياسه لحدود التأويل والحلقة أو الدائرة الهيرمينوطيقا ويدعم ايكو معيار قصد النص([3]) ولكن على الرغم من أن هذه الحلقة الهيرمنيوطيقا تجلت في ميادين مختلفة ظلت تصف عموما الكيفية التي يرتبط بها الجزء بالكل بطريقة حلقية في عملية الفهم والتأويل فلكي نفهم الكل يغدو ضروريا فهم الأجزاء في حين إننا لكي نفهم الأجزاء لا ينبغي لنا ألا استيعاب شي من الكل ([4])
ونظرا للاتفاق بين النظريات الهيرمنيوطيقا أو فلسفتها بالاستعمال الجشطالي فإننا سوف نعمل مقاربة تأويلية تكوّن أدوات تساعدنا في تأويل النص مأخوذة من جميع هذه الفلسفات بما يخدم منهج تأويلنا لهذا النص فلذلك أن المفاهيم والأدوات التي سوف تساعدنا في التأويل :-
-1 الحلقة أو الدائرة الهيرمنيوطيقا ارتباط الكل بالجزء و الجزء بالكل
2- قصدية النص ومحايثته .
3- قصدية المؤلف .
4 – الحقول الدلالية أو التأويلية للألفاظ .
5- الانطلاقة الأولى لفهم النص هي من المعنى الحرفي أو المعجمي كما أشار امبرتوايكو.
مقطع مائدة الخمر تدور
قراءة هيرمنيوطيقا
أن التجربة التأويلية هي تجربة المعنى لاسيما من خلال تكرار مقطع يضاف إليه كلمة أو لفظة تغير بالمعنى، وتبتدأ من العنوان الذي يقترح لنا قراءة تنطلق من الثريا أو العنوان ألى المتن الذي يدخل في علاقة مع العتبة الأولى للنص، والتي تمثل بعدا يكرر العنوان مما يضيف إليه تكثيفا دلاليا يغنيه ويثريه من خلال قاعدة تأويلية تنطلق عبر شبكة وانسجام النص ؛ لذلك فان تكرار مقطع في قصيدة تجعلنا نقف أمام طريقة تكرار هذا المقطع بمقياس كلية النص أو شبه الكلية التي تغني هذا النص، فكانت قصيدة الشاعرة بشرى البستاني مائدة الخمر تدور تنطلق في اتجاهين اتجاه تقمصي نبحث من خلاله عن قصدية المؤلف والآخر قصدية النص في عملية محايثة كما قال ريكول .
يتكرر مقطع مائدة الخمر تدور أو لفظة المائدة مع إضافتها لكلمة أخرى ستة عشر مرة في النص، لذا سنتوقف أمام تأويل كلمة مائدة الواردة في النص التي أعطت بعد يمكن أن نسميه بمفتاح النص ولعل طريقة أمساكنا للمعنى الحرفي أو المعجمي كبداية تساعدنا على فعل التأويل ويقينا الانجراف أو الانزلاق بالمعنى ألى ما لانهاية فالمقطع الأول من العتبة الأولى للقصيدة مائدة الخمر تدور تكون ثيمة تتوالد وتتكاثر عبر النص مكونة مجموعة هائلة من الإحالات والإيحاءات ومن العلاقات الدلالية الجديدة فالدلالة المركزية لكلمة مائدة من خلال ذاكرة الكلمة المحملة بتاريخ متجذر في الموروث القديم فالمائدة هي مائدة امرؤ القيس تشي بحالة شاعر عبثي عديم المبالاة يأخذ قراراته وهو مخمورا في قوله (اليوم خمرا وغدا امرأ) ليتحقق تكثيف دلالي في صيرورة التأويل ليتضاعف المعنى من خلال ارتباطه بسورة المائدة والتي تحمل من الدلالات (النعيم، والمعجزة ) والتي تتجسد من خلالها النبوة لتعود بنا ألى دلالة هامشية وهي بني إسرائيل وقصتهم مع نبي الله في واقعة مكيدة وغدر، والتي ترتبط بمعنى من معاني النص والذي يتمثل بالغدر في الحروب، وان هذا المفهوم الذي يبني له علاقة مع كلمة الخمر المضافة اليه لتضاعف اليه الدلالة وتسمح بإقامة علاقة عرضية ووهمية تمتلك درجة كبيرة من الأهمية والعمق ولاشك أن أي نسق أو مقطع دلالي يمكن أن يتأسس على فرضية تأويلية معينة فكان التأويل الأولي الجزئي لهذا النسق أو المقطع مضاف اليه دلالات وهمية أو عرضية على شكل إيقونة دائرية تصور الكرة الأرضية أو القمر اوالشمس أو مائدة الحوار ومن خلال التواشج مابين هاتين الدلالتين الهامشية والمركزية تشي بمعنى الغدر والمرتبط بسورة المائدة والتسيب وعدم الأهمية وذهاب العقل واللاوعي بمائدة امرؤ القيس وايقونة الكرة الارضية والالتفاف حول المائدة لأجل الحوار في حالة اللاوعي والتي تفشي بها لفظة الخمر والقمر والشمس والتي تشكل نقطة محددة يتحكم فيها الخيال بمرور الوقت من خلال صورة مكانية تكون في سيرورة ترتكز على أمكانية تكرار الزمان تتماهى مع التأويل الأول للمائدة فالدورة القمرية من خلال صورتها الدائرية وظهورها وغيابها في السنة يعطي معنى للزمن بصورة دائرية ما يدفع بنا ألى التركيز حول دائرية الوجود التي قد تكون شكل الأنموذج الانطولوجيا لفلكية الحياة في طور يلعب دور متباين مابين الزمان والمكان ليختفي بسبب بسيط هو أن الدورة حول الزمان ومكان اذ أن أحياء الزمان بصورة دورية يفترض كما قال الياد بشكل صريح أو ضمني خلقا جديد … استعادة لفعل التكوين ([5]) ليتحقق الانتقال ألى الفعل المضارع (تدور) في مضاعفة المعنى التأويلي الذي يختلط فيه المعلوم بالمجهول بتكرار لزمن يدل عليه، فالمضارع يكرر زمن الاستمرارية وتجديد الزمن بصورة دورية مما يفرض علينا إيجاد علاقة دلالية شاملة تجمع مجموع الدلالات والايحاءات في تنظيم مضاعف ليكون معنى أول لهذا المقطع أو النسق، أن مائدة الخمر تدور تتجلى في إفصاح عن معنى جزئي في عتبة النص الا وهو حالة من النشوى مكونة سلسلة من الدلالات والمدلولات موجهة بالمثير النسقي أو المقطع الأخر ليكون دلالة شاملة للنسق الاول يتزحلق تحت لفظة أو كلمة الوجد ليغني الدلالة الأولى في تمظهرات وحقل المثير الجديد في قولها مائدة الوجد تدور ولعل المائدة وارتباطها بالمعنى الاول الديني يوجه انتباهنا ألى مجموعة مثيرات جديدة تعمق التأويل من خلال الانتقالة الجديدة ترتكز على تأويل مائدة الوجد فالوجد هو حالة صوفية تأتي بمعنى مايصادف القلب ويرد عليه بلا تعمد ولا تكلف فالوجد هو الوسط بين البداية والنهاية ([6])، فالزمن أو اللحظة التاريخية في تجربة الوجد مابين زمانيين الماضي والمستقبل متجمعة في معرفة مكاشفة ومعاينة انها الحضور في الحضور ([7])، لذلك فان التأويل الاول أو الافتراضي للخمر في المقطع الاول من خلال المقطع الثاني هو حالة من فقدان الوعي في لحظة زمنية تتكثف فيها اللحظات الزمنية في حالة دوران آنية مضارعة متجسدة في الفعل المضارع تدور ليضاعف هذه الدلالة التأويلية في أطار استمرارية المعنى المرتبط بالمائدة ليشكل إمكانيات جديدة ترتبط بالنسق الثالث أو المقطع الثالث متجسد في كلمة الحرب (مائدة الحرب تدور) ولعل لفظة الحرب يمكن أن تدخل في جدل يذكرنا بجدل هيرقليطس أو كتابه جدل الحب والحرب فالحرب هي سيدة الأشياء جميعا ….. والحرب تعني وجود الأضداد لأنه لاحرب الا هي صراع بين طرف ضد طرف آخر والحرب هدفها في النهاية هو السلام اذ أن وراء هذا الصراع أو الحرب الذي يكون في حالة سيرورة يعمل السلام ويعمل التناغم، ويعمل الحب([8]) فالحب سيد الموقف فمائدة الحرب تدور تتناغم مع حالة الحرب أو قصدية المؤلف فالقصدية الحقيقية هي حالة عدم الاستقرار التي تشير اليها الشاعرة وتكشفها لحظة التقمص التي نتعايش معها في خلال الحرب عام 2003 وهي الخاصية الرئيسية لقصدية المؤلف فتحيل ألى حالة الحب المرتبطة بالنسق الرابع (مائدة الحب تدور) منتقلة ألى تكرار مائدة الوجد مرتين ومائدة الخمر أربع مرات في مقاطع وانساق تكرر لتكون لنا لحظات منتقلة وهاجس مسيطر على البنية النصية لندخل لمواجهة جديدة مع هذه التكرارية بتكرار آخر للحرب ثلاث مرات والحب مرتين والصبر ثلاث مرات في قولها (مائدة الصبر تدور) والمسك مرة واحدة في قولها (مائدة المسك تدور) ليتتحقق قصدية النص وهو حالة من الدلالة أو التأويل لحالة الحرب والذي يعبر عن الضياع والخمر والوجد الذي يرتبط بحالة أو تجربة صوفية ولعل قصدية المؤلف والتي سوف نواجهها عن طريق علاقة حوارية كما يقول شلايرماخر في أن فهم المؤلف أو قصدية المؤلف أو بالأحرى فهم النص باعتباره تعبيرا عن تجربة المؤلف الحية فلذلك كان التأويل النحوي أو اللغوي والدلالة الجزئية للنص ترتبط بقصدية النص والتأويل التقني أو النفساني الذي يرتبط بالذات المفكرة ليكون لنا فهم واضح للمعنى الا وهو تقمص حالة الإبداع التي شكلت المعنى فالشاعرة كتبت القصيدة إثناء وقوع الاحتلال الأمريكي على العراق فكانت مائدة الخمر تدور في كل تجلياتها أو تشكيلات كلمة المائدة مع مضاف اليه متنوع أو مختلف يفشي بالحالة النفسية أو التغلغل العاطفي والتجربة المعاشة التي مرت بها الشاعرة لتكون أو لتشكل هذا النص فالحرب تدور رحاها على ارض الوطن لتتجسد حالة من الصراع النفسي ليتوقف فيها الزمان الذي كان في حالة سيرورة مستمرة في بعض الأحيان لتتكئ الشاعرة على تجربة مخالفة لتجربة الحرب وهي تجربة الوجد الصوفي الذي يتوقف فيه الزمان، وكأن الشاعرة بحثت عن الحب والسلام من خلال أو من محاولة إيقافها لعجلة الدوران فارتبطت المائدة على طول النص (مائدة الخمر، مائدة الوجد، مائدة الحرب، مائدة الحب، مائدة المسك، مائدة الموت، مائدة الصبر) لتتناغم هذه المقاطع لتكون قراءة او دلالة كلية للنص مضاعفة المعنى محققة الوحدة الدلالية في دائرة هيرموطيقة تجسد حالة الفهم الحقيقي لمعنى النص الا وهو صراع مابين الوعي واللاوعي بتجربة التصوف وتجربة الواقع المرير الحرب ومآسيها .
هوامش :
________________________________________
[1] – من فلسفة التأويل ألي نظرية القراءة ، عبد الكريم شرفي ، 17 .
[2] – الحلقة النقدية ، ديفيد كوزنزهوى ، ترجمة خالدة حامد ، 7.
[3] -ينظر من فلسفات التأويل ألى نظريات القراءة ، 24-77 وينظر التأويل بين السيميائية والتأويلية امبرتوايكو ترجمة سعيد بنكراد ، 83-89 .
[4] – ينظر الحلقة النقدية ،11.وينظر الفهم والنص ، بومدين بوزيد ، 55-100 .
[5] – ينظر الانثربولوجيا ، جيليير دوران ، ترجمة مصباح الصمد ، 260-263 .
[6] – العقل الصوفي في الاسلام ، علي شلق ، 42-43 .
[7] – الصوفية والسريالية ، اودنيس ، 115-117 .
[8] -جدل الحب والحرب ، هيرقليطس ، 26-27 .