كتب الأديب العراقي الراحل الدكتور أكرم فاضل مقالة نشرها ذات يوم في جريدة ( العراق ) المحتجبة ، في نقد مذكرات القاص والروائي ذنون أيوب ، واستعرض فيها ردود الأفعال السائدة حينها في الأوساط الأدبية جرَّاء ما اتسمَتْ به من الصراحة المطلقة غير المحترسة والمتهيِّبة من اعتراض الجمهور العام واستهجان تماديها في تعرية النفس الإنسانية والاعتراف بما لم يسبق للناس أنْ وقفوا عليه وسمعوا به من أوزار وحماقات وسوءات تنتقص من قدر الفرد وتنزع من نفوس الآخرين ما يكنونه له في سرائرهم ودخائلهم من ضروب التوقير والمحبَّة وصنوف التهيُّب والاحترام ، ولم يفتِ الكاتب ذاك الذي له أكثر من صلةٍ ثقافية بصاحب المذكرات ، ترجع إلى أيَّام معاونة شقيق لأكرم فاضل ، هو الأستاذ عبد الحق فاضل الذي اشتغل في السلك الدبلوماسي زمنا ً ، وعُرفَ عنه تفقهه اللغوي وتحرِّيه ما يقع فيه الكـُتـَّاب من هِنات وأخطاء في استعمالاتهم لمفرداتها وأشكالها الصياغيَّة ، فيعجل لهديهم وتبصيرهم بالوجهة الصحيحة في ذلك ، فضلا ً عن كونه مترجما ً بارعا ً عن الإنجليزية والفارسية ، وله من تراث الأولى ترجمته لإحدى روائع شكسبير ، بناءً على انصياعه لتكليف جامعة الدول العربية التي امتثلتْ بتوصية الدكتور طه حسين الذي اقترح عليها اسم هذا المترجم لينجز هذه المهمَّة ، وله من الثانية تفصيله في سيرة الشاعر الفلكي والرياضي والمتصوِّف عمر الخيام ، فترجمته لرباعيَّاته المشهورة لتضيف استنتاجات إلى ما اطلع به الدارسونَ والشُرَّاح قبله من آراءٍ وانطباعات عن هذا الشاعر المهموم المتحيِّر من غرائب الكون وألغاز الوجود ؛ قلتُ : تعاون كلُّ من ذنون أيوب وعبد الحق فاضل معا ً على إصدار مجلة ( المجلة ) في الموصل زمن الحرب العالمية الثانية ، لتكون سوط بلاءٍ على الفاشيَّة التي تسلل فكرها وفلسفتها إلى أفهام رعيل جم ٍ من الشبيبة العراقية في بداية ثلاثينيات القرن الماضي ، فانبرى كلاهما عبر هذا المطبوع الفريد الممتاز لتبيين حقيقتها والكشف عن بطلان تصنيفها لبني البشر في خانات ومراتب ، ولفت نظر فتيان العرب المخدوعينَ إلى الدرجة الدنيا التي تحلهم الفاشية فيها قبل اليهود ، وأخيرا ً لمَ يستدعِي الفاشيونَ غيرهم من الجماعات الإنسانية لخوض هذه الحروب الجهنمية ، ومَن أباح لهم توريطها فيها ومعاناة ما يستتبعها من ويلاتٍ وكوارث ومحن ومصائب ، وكذا وقفا بصفِّ المعسكر الديمقراطي وأمَّلا منه أنْ يفي بأوعادِهِ المقطوعة بعد الحرب ، فيجلو عن دياراتها وأرباضها ويدعها لشأنها أبيَّة حرَّة تتكفل بأمرها وتنصرف لتدبير شؤونها ؛ ثمَّ إنَّ هناك تعاون ثان ٍ مشترك بين ذنون أيوب وأكرم فاضل نفسه مباشرة ، فقد ترجما رواية الكاتب الروسي الشهير ( تورجنيف ) الشهيرة ( الآباء والبنون ) ، عن نصين باللغة الإنكليزية والفرنسية ، وكلُّ منهما يحذق واحدة منهما ، ويركنان لذوقهما وسليقتهما في إيثار ما يقفان عنده من نص موافق في تصويره وتجسيده لمعاني الفلسفة العدميَّة بلغتها الأصلية ، ممَّا ينزع مثقفو روسيا في القرن التاسع عشر لادِّعائه واعتناقه .
لكن لم يفتِ الأستاذ أكرم فاضل أنْ يومِئَ لشعور القرَّاء عامة من جرأة صاحبه ويقرّ له بالشجاعة لتناهيه في الكشف عمَّا يتردَّد الآخرون عنه ويزهدون فيه من البوح بقضايا الجنس ومشكلات الغرائز ، والطريف أنـَّه وجد أناسا ً ذوي مكانةٍ في المجتمع قرأوا المذكرات بطريقة الاستعارة ، واكتنه رياءَهم ونفاقهم باستهجانهم المفضوح المُهَلهَل وتنديدهم المُفتعَل الكاذب بكلِّ ما ورد فيها من وقائع وحالات تخدش الحَياء ، غير أنـَّه نفذ بتبصُّره في أطوائهم فألفاهم يستعذبونها ويتلذذونَ بها ، بدليل أنـَّهم تهافتوا وتهالكوا على شِرائها والاحتفاظ بها مركونة في زوايا من حجرات نومهم مخفيَّة حتى لا تقع عليها أعينُ الصبية والفتيان المراهقينَ ، فقد أماط ذنون أيوب اللثام عن حقيقة رهطٍ من أصفيائه وعشرائه ممَّن كانوا يتبوَّؤنَ مراتبَ ومناصبَ مرموقة في شتى الميادين والمجالات ومنها ما يتصل بتربية الأجيال الآتية وتأهيلها لمستقبلها الموعود ، فرسم لهم صورا ً كما هم في مباذلهم وإسرافهم في شهواتهم .
وكذاك هو الشعور نفسه حيال كتاب ( مذكرات طالب بعثة ) لمؤلفه الدكتور لويس عوض ، كتبه بالعامية المصرية يصف فيه أيَّام طوافه في عواصم الغرب ، وإقامته بإنجلترا ، لغرض الدراسة واستحـصال شهادة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي ، انتهى من تأليفه عام 1942م ، غبَّ رجوعه من البعثة وتقدَّم به إلى رقابة المطبوعات لتجيز نشره ، فمانعَتْ في ذلك لسببٍ وغيره ، من جملتها أنـَّه مكتوب باللهجة العامية الدارجة ، والرقابة تعوَّدَتْ على عدم السماح لأثر كهذا بالسيرورة والانتشار بين الناس ، وتعرَّضَتْ نسخته المودَعة لدى الرقابة للتناهُبِ والضياع مدَّة ثلاثة وعشرينَ عاما ً ، حتى لقد كاد المؤلف يغفل عنها ويصرف النظر لقضية الفصيح والعامي في التعبير الأدبي والوجداني ، غير أنـَّها انتهَتْ بالتالي لمَن يُدعَى ( كناري ) ، وهو اسم مستعار لشخص حقيقي اسمه حسنين محمد حسنين ، يقيم بمدينة الإسكندرية العاصمة الثانية والمركز الثقافي البديل بوادي النيل ، فهي مطلة على البحر الأبيض المتوسط ، ومؤسَّسة بها جامعة ، وتعمر بالمكتبات وتزخر بالكـُتـَّاب والشعراء المجيدينَ ، فضلا ً عن عراقتها وأصالتها التاريخية إذ هي موطن أو منشأ الأفلوطينية الحديثة المنسوبة للفيلسوف المتصوِّف ( أفلوطين ) الزاهد في حطام الدنيا والمنقطع ــ جهد استطاعته ــ للتوفيق بين الدين والفلسفة ، والذي عاش بين أهالي هذا المرفأ المطلِّ على دياراتِ العالم المعروف زمنه بين 204 ــ 270 بعد الميلاد ، ولا يجهلنَّ أحد أنَّ مدينة الإسكندرية هي أوَّل ما يستهدفه الغزاة باجتياحهم ربوعها كبداية للتوغل في أرض الوادي ، وكذا كانت المعركة التي اشتبك فيها الجيش البريطاني بالجيش المصري أثناء الثورة العُرَابية فاتحة لاستحواذ البريطانيينَ على شؤون مصر وتحكمهم في مصيرها ، فيعزلونَ مَن لا يتلاءم هو وسياستهم من حُكـَّامها الأعلينَ ، ويؤثرونَ غيره بالترَؤس هذه المرَّة من نفس الأسرة الحاكمة باستبدال هذه المرَّة بعنوانه السابق في التأهيل والترقية ، عنوانا ً جديدا ً ينطوي على جانب من الفضفاضيَّة الموحية بتوسُّع سلطاته وارتفاع مرتبته وعلوِّ منزلته ، وكذا شأنهم مع تعيين وزراء الحكومات ، فلا يؤتى للوزارة إلا بمَن يجعل وكدَه رضاءهم عنه ، فلا يني في خدمة مصالحهم ، ويلتفت بعد ذلك لتلبية رغبات بني جلدته ، واستتبع هذه الحالة المذمومة أنْ يتفجَّر سُخط الأهالي عند صِدامهم بقوَّات الغاشم المحتل واندلاع ثورة 1919م ، المسفرَة عن انتقالة جزئيَّة صوب ما يرنونَ له من ظفر بالسيادة والاستقلال ، مهَّدوا لهما ببذل التضحيات السخيَّة من وراء اقتحامات الشباب الفدائيينَ من أفراد الشعب المصري لمواقع المحـتلينَ الحصينة ، ومجازفاتهم الشجاعة بزرع القنابل وتوقيت ساعة انفجارها وإيدائها بأرواح الأجناد القريبينَ منها ، كما حصل ووقف عليه لويس عوض مؤخـَّرا ًَ ، ممَّا حدث في أيَّام ماضية خافية عنه من سابقة في الجهاد الذي لا يعرف التردُّد ولا الفتور لهذا الرقيب المُسمَّى ( توفيق صليب ) ، الذي طالما تسامع عن سوء طويَّته ووقف على أسرار من تعاونه مع الحكومات الديكتاتورية في عمله الوظيفي برقابة المطبوعات وغيرها ، غير أنـَّه أعجب بدبلوماسيَّته ودماثة خلقه وتبسُّطه وسلاسته وحُسن تخلصه في الإجابة ، وتسويغ تشدُّده وضنـِّه بتزكية المطبوع ، مراعيا ً جانب الحليف البريطاني الذي يخوض الحـرب لصالح الإنسانية قاطبة وتوقها للخير والسلام ، كما فصَّل ذلك الدكتور لويس عوض في تقديمهِ لمذكراته بعد أنْ استردَّها وطبعَتْ طبعتين ِ آخرهما بكتاب الهلال ؛ وسمع بعد ذلك بموت هذا الرقيب المتعنـِّت وتنبَّه على أنَّ نعيه في الصحف جاء يصفه بالمجاهد الكبير ، واستفسر من بعض الصحفيين المسنينَ وصُدِم بعرفانه هذه المرَّة صفحاتٍ مشرقة للرجل ، إذ تكلل جهاده الأوَّل بعقوبة الإعدام أو السجن ، وكان درسا ً للدكتور لويس عوض أنْ لا يدينَ الناس بعد وقوفه على هذه المأثرة : (( فرحمه الله ورحمنا رحمة واسعة ، وكلـُّنا خطـَّاءونَ ، كما يقول الحديث الشريف )) .
ولنعد إلى حسنين محمود حسنين ( كناري ) ، صاحب دار النشر للجميع بالإسكندرية ، فقد انتهَتْ إليه مخطوطة ( مذكرات طالب بعثة ) على سبيل الهدية عام 1945م ، من أحد مستخدمي الرقابة الذي كان مطوَّقا ً بفضله لقيامه بإيوائه في بيته لضعف حالته المعيشيَّة ، أو لأنَّ موارده لم تسعفه وتنجده بمصاريف النزول في فندق عندما يأتي إلى الإسكندرية ، وراقَ لـ ( كناري ) أنْ يطبع منها ملزمة واحدة بعد أنْ احتفظ بها قرابة عشرين سنة ، ويشرع بتوزيع نسخ منها ويهديها لصفوةٍ من الكـُتـَّاب والصحفيينَ المعروفينَ ، ويأتي مؤلفها الدكتور لويس عوض في مقدِّمة مَن يؤثرهم الناشر بهذه الهدية ، هنا يتفجَّر الموقف عن مزيد فائق من الحَرد والسخط ، كيفَ جاز لناشر مبتدِئ أنْ يتصرَّف بجهد غيره ويتكسَّب منه ؟ .
وينفق هذا المطبوع من أسواق المكتبات نفاقا ً منقطع النظير رغم عاميته ولهجته الدارجة التي يجهل قراءتها ويعاني من الصعوبة في فكِّ أحرفها وتفسير مبهماتها وطلاسمها غير المصريين من العرب ، رغم أنـَّهم يفهمونَ جيِّدا ً ويجتلونَ ما ترمز له لهجة الحديث العامي المصري من الأغراض والدواعي ، بعد أنْ تعلمُوه وفقههوه من مشاهدة الأفلام السينمائيَّة المصرية ، غير أنـَّهم مخيَّبونَ ومخفقونَ في قراءة نصوص أدبية استخدِمَت العامية في صياغتها وكتابتها .
ولا حاجة لأنْ نسرف في كيفية استرداد المؤلف مخطوطته ممَّن تصرَّف فيها زمنا ً وتجرَّأ على انتحال دار نشر وهمية ، حيث استعان بأساليب التهديد والتخويف والمحاكم وتذرَّع بحقِّ الملكية ، وانتخى بمعارف الطرفين ِ من الأدباء حتى راض من جماح خصمه واستجاب لرغبته وانتزع كتابه منه ، واتفق الدكتور لويس عوض بعد ذلك مع دار روز اليوسف التي طبعت مُؤَلـَّفه وظهر في الأسواق بتمامه في غضون عام 1965م ، قبل أنْ تطبعه دار الهلال ثانية عام 2001م ، في سلسلتها المشهورة ( كتاب الهلال ) بالعدد ( 609 ) ، أي بعد تصرُّم سنواتٍ قليلات على رحيل الدكتور لويس عوض إلى دار البقاء الحقيقي .
وكشأنها حِيَال جميع مطبوعاتها ، درجَتْ دار الهلال على أنْ تجود ببضع تعابير مونقة وجُمَل إنشائيَّة مفصِّلة ومطنبة في بيان أهميَّة الكتاب ، واكتنازه بالطرافة والمتعة واحتوائه على القيم الرفيعة والمثل السامية ، كون مؤلفه من ذوي الاستنارة وروَّاد العقل والتجديد وله سابقة الفضل في نشر الوعي وإعداد الأجيال لمستقبل تنشده الأمة من كفاحها المتواصل في سبيل محاربة الجمود والتضليل والخرافة ، فرغم عاميَّة الكتاب وأجزمُ أنْ لنْ يطاول القارئ العراقي خاصة في قراءته ، بل إنـَّه يتصرَّف معه بأنْ يلقيه جانبا ً عنه ولا يداوم عليه البتة ، ولا يُغرَى أبدا ً بتقييم الدار الناشرة له : (( إنـَّه عملٌ فني رفيع المستوى للدكتور لويس عوض ، أحد رواد النهضة الحديثة ، تميَّز بمنهجه الفكري ، فشقَّ دربا ً متميِّزا ً ، أيَّده فيه الكثيرونَ وعارضه كثيرون ، ولكنَّ الجميع اتفقوا على أنـَّه ظاهرة فكرية شديدة الخصوبة والعطاء والإيمان بما يدعو إليه . وهذا الكتاب قطعة من الأدب الرفيع كتبها الدكتور لويس عوض عام 1942م ، ولم يعثر عليها بعد فقدانها في دهاليز الرقابة إلا عام 1965م . و [ مذكرات طالب بعثة ] أوَّل تجربة في الكتابة العامية خاضها المؤلف على غرار تجربة بيرم التونسي في كتابه المعروف [ السيد وخبراته في باريس ] الذي صدر في الثلاثينيات . والتجربة العامية في [ مذكرات طالب بعثة ] لا تنتمي إلى الفنِّ الخالص بل إلى جانب من فكر لويس عوض ، وهو الفكر الذي يتكامل مع مضمون تلك المذكرات التي سجَّلتْ الواقع الخاص والعام بجرأة ، حيث اختار العامية أداة لتشكيل تجربة الاغتراب الأولى عن الوطن ، حينما ابتعِثَ طالبا ً للدكتوراه في إنجلترا ، فجاءَتْ المذكرات سردا ً كميا ً متتابعا ً للزمان والمكان من داخل الزمان والمكان ، دون أيَّة مساحة تفصل بين صاحب المذكرات وأحداثها )) .
وكلُّ هذه الأسطار ذي تنضح بالصدق والواقعية مع بعض التحفظات والمؤاخذات على مواقف اتخذها لويس عوض في السنوات المتأخـِّرة قبل أنْ يغادر دنيانا من قضية صراع المنطقة للتحديات والشرور الكثر التي تأتيها من هنا وهناك ، رُمِيَ جرَّاءها بالانعزالية والتخلي عن مواقف باهرة في بداياته ، وشرح هذا يطول والاستفاضة فيها لا تقف عند حدٍ .
لكن لِمَ نفقتْ نسخه الواردة للعراق بعد عام 2003م ، وتلقفتها الأيدي دون أنْ يمضي مقتنوها في قراءتها ؟ ، قلتُ : احتفظوا بها في مكتباتهم الخاصة كحلية نادرة تزدان بها لا المكتبات فحسب ، بل الحجرات التي تحتويها كأثر نفيس وتحفة غالية ، شأن مذكرات ذنون أيوب التي قرئتْ وقتها ، وهذه لم تقرأ بتاتا ً وتحوج صياغة ثانية لها بفصحى العربية .
وثمَّة مفارقة تفيد أنَّ جميع دعاة الكتابة باللهجات المتنوِّعة الدارجة في سائر البلدان العربية ، وطالتهم اتهامات من أضدادهم ومباينيهم في وجهتهم بإشهار عداوتهم لتراث اللغة العربية وتعفيته ، وتحمَّلوا جرَّاء ذلك مزيدا ً من المسِّ بحرماتهم وإيذاء شخوصهم ، هم في أغلبهم كـُتـَّاب مجيدونَ ، وذوي أساليب لا يماري أحد في فصاحتها ، وأصحاب بيان مستوفٍ لعذوبته ورشاقته .
********
MahdiShakerAlobadi@Yahoo.Com