شوقي يوسف بهنام* : مشاعر الغيرة عند الشاعرة لميعة عباس عمارة * / رؤية نفسية

* مدرس علم النفس / جامعة الموصل
إشارة : يواصل الناقد المبدع الأستاذ (شوقي يوسف بهنام) سفره النقدي الرائع في حلقته العاشرة مع المنجز الإبداعي للشاعرة الكبيرة (لميعة عباس عمارة) كاشفا وببراعة الكثير مما لم “يُقرأ” نفسيا في منجزها الفذ .. فتحية له .
يعرف الحفني الغيرة  jealousy في موسوعته على انها ” انفعال معقد ، يحتوى موقفها ثلاثة أشخاص ، الأول يكره الثاني بسبب علاقة كل من الاثنين بشخص ثالث يحبانه . والغيرة خلاف الحسد ، لأن موقف الحسد مختلف ، فهو يتضمن شخصين فقط هما الحاسد والمحسود . والحسد مقارنة الشخص ، نفسه أو حاله بشخص أو حال شخص آخر . والغيرة الأولية  هي الغيرة التي يحتويها المثلث الاوديبي (الابن والأم  والأب ، حيث يغار الابن والأب من علاقة كل منهما بالأم   ) ،ولذلك فالغيرة جزء من عقدة أوديب (حب الابن للأم ) (1) .وهناك الغيرة التنافسية والغيرة الهذائية delusional  . وسوف نحاول ، ها هنا ، تلمس هذا الانفعال عند شاعرتنا لميعة عباس عمارة كما عبرت عنها في بعض قصائدها التي تضمنتها مجموعتها الموسومة ب “عراقية ”  (2). وتتجلى مشاعر الغيرة عند شاعرتنا في سعادتها وفرحها بامتلاك أفضل الرجال .. فالرجل عند لميعة هو نموذج قبل ان يكون شخصا محددا . ولذلك فهي تتغنى بهذا النموذج لأنه إشباع لنرجسيتها . بعبارة أخرى فأن أفضل الرجال يتهافتون على لميعة وما على لميعة الا ان تلوح  لأفضلهم ليكون فارس أحلامها ورفيق دربها . فهي إذن صاحبة الاختيار في اختيار هذا دون ذاك . وهذا التهافت على لميعة ناتج ، في تقديرنا ، من صورتها عن ذاتها الجسمية هذه الصورة بكل تفاصيلها . يكفي ان نقف عند قصيدتها المعنونة ” حلوة ” ؛ وهي إحدى قصائد مجموعتها المعنونة ” اغاني عشتار  ” (3) . وقد زينت المجموعة في غلافها الأخير بصورة الشاعرة بريشة الفنان الكبير جواد سليم . ولا أريد ان اعلق على حضور لميعة في الوسط الثقافي والفني في العراق والوطن العربي وتأثير ذلك الحضور على متذوقي لميعة شاعرة وإنسانة !!. لنقرأ القصيدة ولنرى كيف ترى لميعة ذاتها على وجه العموم . تقول لميعة :-
أدري أنـّي  حلوة
نطقت عيناك َ بها ألف مرة
وأنا أدري
ما لا تدري

أدري أن جمالي بحر
يعليه المد ويدنيه الجزر  ،

فإذا أحببت‘ ترقرق في أعماقي در ،
وتورّد بالمرجان  الثغر ،

إيماءة‘ كفي خمر
وحديثي همس ، شعر
وجفوني يثقلها ، ينعس فيها السحر .
فلأني أحببتكَ أبدو حلوة
أنا لولا حبي قفر
صحراء يسفيها العمر
صبار جافاه الطير
وسأبقى مادمت‘ أحبك َ  حلوة
فجمالي قيثار أغفى
ويداك تجيدان العزفا
أدري
أدري لم َ أبدو حلوة
كذبت مرآتي
صدقت عيناك
أنا حلوة
وسأبقى حلوة ما دمت‘ احبك َ .. حلوة
(اغاني عشتار ، ص 111-114)
******************
وعلى الرغم من إقرار لميعة واعترافها  بأن حلاوتها ليست ذاتية بقدر ما هي مستمدة من حبها لهذا الرجل النموذج فأن هذا الإقرار لا يعنى ، إذا شاطرنا ، لميعة الرأي ، غير محض مبالغة أو غلو غير منطقي لا غير . فما علاقة وجوده بمعالم وجهها الجميل ورقة صوتها وجمالية وسحر حركة ايماءات كفيها وحديثها الذي ينساب كموسيقى أو كشلال هادر .. هذه كلها مقومات موجودة عند لميعة قبل ان تعرفه . وبها .. أي بهذه المقومات عرف انها ليست كباقي نساء الدنيا فدخلت قلبه وإذا لم يكن الأمر على هذا النحو فأن المسألة ستكون معكوسة ومقلوبة فسيكون هو الجميل وهي التي سعت وراءه  فكان وجوده هو السبب وراء حلاوتها . والصورة التي ترسمها لميعة عن ذاتها هي شبيه تماما بتلك الصور التي يقدمها لنا نزار قباني على لسان بطلات قصائدها . هل يمكن القول ان لميعة حلمت بأن تكون واحدة من تلك البطلات ؟؟. أو نقول ان  ثمة تناصا بين محتوى الأفكار والأسلوب في اللغة الشعرية بين لميعة ونزار . وإذا كان نزار قد لقب بشار المرأة فهل يمكننا القول ان لميعة هي شاعرة الرجل في الأدب العربي الحديث؟؟ (4). ونظرة فاحصة إلى المفردات التي وظفتها الشاعرة للتعبير عن جمالها وفتنتها وسحرها إنما هي مفردات تدل على المبالغة حتى ليدفعنا إلى القول بأنها ذات نفس نرجسي إن لم تكن النرجسية في أعلى صورها . وسوف ان نحاول دراسة هذه الظاهرة عند لميعة في مكان آخر . كان هذا الوقوف عند هذه القصيدة هو مجرد الدخول للتعرف على ظاهرة الغيرة عندها والتعرف على معالمها لديها . ولذلك يمكننا القول ان الغيرة عند لميعة هي نتيجة لمشاعر النرجسية هذه . فطالما ان جمالها هو البحر كله و حديثها  هو الهمس  وهو الشعر ..  فكيف ينبغي ان يكون هذا الذي تختاره إن لم يك البحر هو الآخر . وهي الوحيدة  من نساء هذا العالم هي الجديرة به . وليس من حق أي امرأة أخرى غيرها لها الحق بأن تكون له . هناك عدد من القصائد سنقرئها واحدة تلو الأخرى تكشف لنا لميعة من خلالها عن هذا اللون من الانفعالات والمشاعر . ففي قصيدتها المعنونة ” الضرّة ” تكشف لنا الشاعر بوضوح عن غيرتها من أخرى تحبان رجل واحد . تقول لميعة :-
اليوم عندها
اهدأي يا زعزع الشمال
يا رجفة الأضلاع

يا تيبس الأوصال

يا لك من برودة تفتك‘ بالنعاس
تستبعد المعنى من الكتاب
تختصر الشباب
تجمد الذكرى على الآمال
وحدي أنا
وليلها أنجمه عقيق ،
في وحشتي
وبيتها ‘منعـَّمُ

لا شكّ أنها أعدت أطيب َ  الطعام
ولبـِست أجملَ  ما تملك من ثياب
تعطرت
تزينت
أعدت الكلام
فاليوم عندها
وتنسى مثلما نسيت
كأن َّ هذا الليل لا ‘يفيق
يؤثرها
َيختزل‘ المشاغلَ الكـِثار
يسرع نحو بيتها يحتضن الصغار
وأمـَّهم
وفي غدٍ  ‘ترهقـه الأعمال
ويحبك‘ الأعذار .
لا بد َّ أن أصدق الأعذار
إذ لست‘ أما تنجب‘ الأطفال .

يا نصف زوج
يا أعزَّ الناس
يا كلَّ دنياي َ وما أريد
يا ِخلّـي َ الوحيد ،
أهواك حتى ساعة الخصام
أذوب‘ في صمتك ِ ، في الكلام
يطربني (التمثيل‘) والتأكيد :
تؤثرني !
وما تقول عندها ..وما وما تقول
يا نصفيَ المحبب َ المجهول ؟

لو كنت‘ أستطيع‘
لو‘أجزيك
بنصف حبي
نصف قلبي
أ‘ترى يرضيك ؟
(عراقية ، ص 86-90)
***************************
ذلك هو هذا الرجل النموذج المجهول كما تقول لميعة بوضوح . وما هذه القصيدة الا محض تخيل وغيرة من صديقتها .. جارتها .. غريمتها … التي بحوزتها هذا الرجل ويشاطرها السرير .القصيدة ليلة رومانسية صرفة . نزار ولميعة عميقان في الحفر في المشاعر ودقة التفاصيل والأحلام والتخيلات . في هذه الليلة كل ما بها يعبق بالشبق والرغبة والشهوة .. ولميعة في غرفتها تلفها البرودة وتحطها الوحشة .. غرفتها معتمة .. لا تسمع غير أنين آهاتها وخفقان القلب واصطكاك الأسنان ورعشة الجسد الغارق في الوحدة . يصرف ليلته عندها  بنهم وثرثرة وقهقه وعري وتعالي الأنفاس وتصاعد هياج الجسد ..   ويقدم للميعة في اليوم التالي  الاعتذار تلو الاعتذار ومع ذلك فهي تصدقه وتعرف ان أعذاره ليست غير تمثيل وقناع وتضليل و..و..و.  لميعة ..حزينة ..وحيدة .. ربما تكون في الغرفة المجاورة لهما وتسمع ما تسمع من أقاويل وقهقات وكلمات : اني احبك .. أهيم في فيك . ولميعة تتحسر .. تتمنى لو تكون هي المخاطب .. هي التي على السرير .. هي تقهقه مثلها .. تثرثر مثلها و..و..و . واليوم لميعة مستعدة ان تجازيه وتهديه نصف حبها ونصف قلبها ..ترى هل يرضيه مثل هذا . نترك الجواب للشاعرة لأن هذا من شأنها هي دون أحد. وإذا لم تعش لميعة مثل هذه الخبرة على ارض الواقع فأنها شاعرة كبيرة في فن الغوص في أعماق حواء . ولكن تكرار قصائد كهذه تجبرنا على الاعتقاد ان لميعة عاشت هكذا خبرة . ففي قصيدتها المعنونة ” إلى امرأة ” إشارة صريحة إلى مناورة مارستها لميعة مع إحداهن .. ربما اتهمتها بالسطو على زوجها أو قد  لاحظت سلوكا أوحى لها بذلك . فالقصيدة إذن وبهذا المعنى هو دفاع لميعة عن نفسها . معنى هذا ان لميعة كانت مثار اهتمام الجميع ..جميع من يعرفها أو يراها . من هنا هذا الإحساس العالي بتقدير الذات لديها . لقد وصفت نفسها من خلال قصيدتها التي أهدتها إلي الشاعر عمر أبو ريشة  والمعنونة ” عراقية ” : بأنها جمع ” لا ” . هذه اللا ، في تقديرنا ، هي ان لميعة ليست سهلة المنال وبالتالي فلن يرضيها احد . من هنا هذا الاهتمام من قبل الرجال وخصوصا المثقفين منهم في عصرها بها . تقول لميعة في قصيدتها ” إلى امرأة ” :-
سيدتي
مني أنا اطمئنّي
فزوجك ِ المصون في أمان
لي رجل أحبه ‘
ولا أحب ‘ غيره
ولا أحب معه
ولا أحب بعده
إنسان
(عراقية ، ص ، 98)
***********************************
تلك هي لميعة في دفاعها عن ذاتها . في القصيدة التزام أخلاقي وشعور بالوفاء والوعد به لهذا الرجل الذي تحبه لميعة ولا تحب غيره . إذن هي تهمة ألصقتها هذه المرأة التي ردت عليها لميعة بهذه القصيدة لا غير . فليطمئن قلبها إذن من جهة لميعة ولتسارع إلى زوجها للتحقق من وفائه لها . لميعة تريد منا ان نعتقد ان الرجال هم الذين يسعون نحوها ويتسابقون عليها . لميعة تضع علاقة هذه المرأة مع زوجها في دائرة الشك والإشكال وتخرج هي ظافرة .. منتصرة في بر الأمان . هل هذه القصيدة هي ضرب من الخيال . في الحقيقة لا نعتقد في ذلك . ولميعة تصر ، هنا ، على ان حبيبها شخص واحد لا غير . فهي لن تحب بعده ولا غيره ولا معه . أنه ، في تقديرنا ، ادويب لميعة . هذا الاوديب الذي لم يزر لميعة قط وبقي طي الغياب . إذن ليس هناك من مبرر ان تخاف هذه السيدة التي جاءت إلى لميعة لكي تبث  لها شكواها أو تضعها في دائرة الاتهام . فلميعة لن تغار من احد !!!! . ونجد هذا الإصرار عند الشاعر لهذه السيدة أو تلك على استحالة وجود الغيرة أو احد مظاهرها ،على الأقل ، عندها ، يتجلى واضحا في القصيدة المعنونة “ماضي َّ أنت ” . تقول لميعة فيها :-
أغار‘ منك ِ ؟ محال
أحببتـِهِ أنت قبلي
وكنتِ بالأمس ِ عيني
وكنت بالأمس ِ كلّي
ماضي َّ أنتِ تمادى
فأصبح َ اليوم ظلي
وربما عشت‘ فيه
غدا إذا لم تمـّلي
أنتِ    التقاء عجيب
ولحظة من تجلي
وفتنة ُ تعتريني
زهو لأنكِ مثلي
(عراقية ،  ص 110-111)
**************************
نعتقد ان هذه القصيدة شكل من أشكال التماهي مع الام في العلاقة مع الأب أو بتعبير أدق هي صراع بين لميعة وبين الام  حول حوزتها للأب . وعبارة ” ماضي َّ أنت ِ ” رمز الى التاريخ مع الأب .انه ، في تقديرنا ، خطاب موجه نحو الأب . وعلى الرغم من مظاهر الإعجاب التي تبديها لميعة نحو هذه التي على شاكلتها تبدو أو لنقل وفق تعبيرها هي ”  زهو لأنكِ مثلي ” ، فأن لميعة تبدو هي الأقوى في حلبة المنافسة . لقد سبقتها في حبها له . هذا منطقي جدا ،لأنها تسبقها في الوجود الزمكاني . وهي بالنسبة لها كل الماضي . لقاء عجيب بينهما . هكذا تعبر لميعة عن طبيعة الصراع بينهما … هي وتلك التي تنافسها على حبه . ولذلك أصبح ذلك الماضي لها بمثابة الظل الى لميعة .. وعلى الرغم من الشبكة العلائقية المعقدة هذه تعلن لميعة انه من المحال ان أغار‘ منك !! . وفي ذات المستوى من هذه الشبكة العلائقية بينها وبين تلك ..تقول لميعة المعنى عينه في قصيدتها المعنونة ” أنا وأنت ِ” فتقول :-
أنا وأنت ِ التقينا
في حبه ، ما علينا ؟
أغار‘ منك ِ؟ محال ؟
الحب يغني كلينا .
(عراقية ،ص99)
*************************
المعني في هذا السياق الدلالي واحد في تقديرنا . لكن لميعة تكتفي بأن الغيرة محال بالنسبة إليها وتكتفي بأن الحب لكليهما مغن ٍ .
تلك عينة من النصوص كانت ، في ، تقديرنا ، تعبر عن مظاهر الغيرة ومشاعرها وتجلياتها لدى الشاعرة لميعة عباس عمارة .

الهوامش :-
* تناولنا بعض هذه القصائد الواردة في هذا الدراسة من منظور قد يراه البعض مكررا مع تلك التي وردت في دراستنا المعنونة ” لك وحدك أيها الطاووس الجميل اغني ” . ولكننا هنا تناولناها من زاوية مشاعر الغيرة بالمعنى الحصري لمفهوم الغيرة والذي انطلقنا منه في بداية هذه السطور .
1 – د . الحفني ، عبد المنعم ، 1978 ، موسوعة علم النفس والتحليل النفسي ، دار الطليعة ، بيروت ، لبنان ، ج1 ، ص413-414 ،ط1 . وأيضا دراسة الدكتور عادل صادق والمعنونة ” الغيرة والخيانة ” والصادرة عن دار الشروق في عام 1993 ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية .
2- عمارة ، لميعة عباس ، 1972 ، عراقية : مجموعة شعرية ، دار العودة ، بيروت ، لبنان ، ط2 .
3- عمارة ، لميعة عباس ، 1969 ، اغاني عشتار : مجموعة شعرية ، المؤسسة التجارية للطباعة والنشر ، بيروت ، لبنان .
4- أعدت لنا الشاعرة المصرية فاطمة الزهراء فلا كتابا عن شاعرات عربيات تغزلن في الرجل والغريب في هذا الكتاب ان الشاعرة المعدة لم تذكر لا من بعيد أو من قريب أي إشارة للمنجز الشعري للشاعرة العراقية الكبيرة لميعة عباس عمارة والذي تميزت بهذا الأسلوب .. اعني التغني في الرجل . راجع كتابها المعنون ” أشعار النساء في الرجال ” والصادر عن مكتبة جزيرة الورد في عام 2009 ، القاهرة ، مصر .
shawqiyusif@yahoo.com                                                           
shawqiyusif@hotmail.com     

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| علاء حمد : الوظائف التكوينية في الانسجام النصّي “خشخشات تنقر النافذة” للشاعرة السورية رماح بوبو.

   ننساق وراء الوظائف وتكوينها، ومنها الوظائف السياقية التي تؤدي إلى وظائف حركية لتكوين استقراء …

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *