السيرة والمنفى والأوطان المتخيلة:
ما يمنح كتاب ( السرد والاعتراف والهوية/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2011 ) فرادته هو أن مؤلفه الدكتور عبد الله إبراهيم ينطلق في تناوله لموضوعاته من موقفين، الأول هو موقف الناقد الأدبي الذي يعرف أسرار الصنعة السردية الأدبية، لذا يحلل كتب السيرة الذاتية العربية، ويقوِّمها ويحاكمها، من غير أن يغيب عن باله أساليب كتابتها وأنساقها وبناها الفنية. والثاني هو موقف المفكر المطّلع على طروحات الفكر المعاصر ومناهجه، لذا يستخدم، في قراءاته، طقماً من المفاهيم المستلة من حقول علوم إنسانية مختلفة، بالاعتماد على اشتغالات المفكرين المحدثين، مجترحاً منهجاً مركّباً ينهل من المعطيات المعرفية لتلكم الحقول.
انبثق فن السيرة الذاتية، مع حضور الذات الإنسانية، فاعلاً اجتماعياً وتاريخياً. وتميّزها بعدِّها عقلاً، وحرية، وفعلاً مسؤولاً. وذلك مع خروج الإنسان من كهوف القرون المظلمة، واستشرافه لمنعطف تاريخي جديد نُعت بعصر التنوير. وفي خضم المتغيرات الكبرى التي عصفت بالمجتمعات الغربية، ازدهرت فنون الرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية. وإذا كانت هذه الفنون السردية قد عرفت انتعاشاً في الفضاء الثقافي الغربي، وصارت لها تقاليدها، ورموزها، ونتاجاتها المتقدمة، فإنها، في فضائنا الثقافي العربي، ما تزال تواجه معضلات شائكة.
بقي نوع السيرة الذاتية، عندنا، ولوقت طويل، هامشياً، يعاني من الشبهة، ويُنظر إليه بحذر وشك وعدم رضا لأنه يتجرأ على عبور الحدود المسموح بها، وتعريض المخفي والمختل والمشوّه للضوء والهواء الطلق. فهذا النوع يضع المرآة أمام مجتمع يخشى من النظر، ولو إلى جزء من صورته الحقيقية، لأنها تطيح بالصورة الموهومة التي احتفظ بها عن نفسه. هذا ما يشير إليه المؤلف في مقدمة كتابه وهو يعدنا بقراءة أهم كتب السيرة الذاتية، لاسيما تلك التي نُشرت خلال العقدين الأخيرين حيث اتسع انتشار أدب الاعتراف نسبياً. والافتراض الأول الذي يتبناه هو أن كاتب السيرة الذاتية لا يقدر على انتزاع نفسه من حاضنته الجغرافية والاجتماعية، وينبثق من “سياق ثقافي، وتجد الإشكاليات المثارة كافة في مجتمعه درجة من الحضور في مدوِّنته السردية”.
يعالج المؤلف، في البدء، إشكالية أن يجد الكاتب المنفي نفسه مقتلعاً من أرضه، وواقفاً على تخوم ثقافات متعددة، وعليه، عبر التدوين السيري، أن يصوغ مدونته لتمثيل هويته.. يعيش مثل هذا الكاتب غربته الخاصة، يكون في حالة اشتياق دائمة للأرض التي غادرها وربما إلى الأبد. وطالما أنه لن يستطيع أن يُرجع عقرب الزمن إلى الوراء، وتعسر عليه العودة إلى دياره، فما عليه، إذن، إلاّ أن يلوذ بالمخيّلة.. إن ما سيخلقه في النهاية ليس سوى وطن متخيل لا يوجد إلا في ذهنه، لكنه يجعله البؤرة المركزية في نسيج نص السيرة.. تكون الكتابة، عندئذٍ، مفعماً بالحنين؛ بالنوستالجيا.. أُجبرت إيزابيل اللندي، على المغادرة، مرات عديدة، تاركة أشياءها الحميمة وراءها، مضطرة للبدء من جديد.. تقول؛ “فلقد جبت متغربة طرقاً أكثر مما أستطيع تذكّره، ومن كثرة ما ودّعتُ جفّت جذوري، واضطررت إلى أن أستنبت أخرى، استوطنت الذاكرة لعدم وجود مكان جغرافي تستوطنه”. وهكذا “لا يستطيع المنفي الانخراط الكامل في المجتمع الجديد، ولا يتمكن من قطع الصلة بالمجتمع القديم الذي ولد فيه، فيتوهم صلة مضطربة وانتماءً مهجّناً، ويختلق بلاداً لاحقته أطيافها في المنفى”.
يُحيل الكلام عن المنفى والهجنة والهوية والكتابة إلى استدعاء أمثلة حية، لعلّ حالة إدوارد سعيد مثقفاً منفياً، هي الأقرب إلينا، بهذا الصدد. والمنفى بحسب سعيد هو “الشرخ المفروض الذي لا التئام له بين كائن بشريّ ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها الحقيقي: فلا يمكن أبداً التغلب على ما يولِّده من شجن أساسيّ”. ويلاحظ المؤلف إن مشكلة كتابة المنفى في السيرة الذاتية تتجلى في “العلاقة مع المكان من وجهة نظر المنفي، وكيفية تشكيل الهوية الشخصية المنزاحة لرجل يقيم علاقة هشّة معه”. ومثاله، ها هنا، هو كتاب سعيد؛ ( خارج المكان ). ففيه ينشئ عالمه البديل بعد غيابه النهائي عن عالمه الحقيقي، متصلاً بأمكنة ولغات متعددة، ومنفصلاً عنها في الوقت عينه.. يعي سعيد، بألم، ذلك الانفصام بين لغته الأم العربية ولغة ثقافته الإنجليزية. المفارقة بين مقطعي اسمه. “أثر التعليم الاستعماري في صوغ تجربته الثقافية وشخصيته القلقة”. ليكون “في هذا الموقع المنزلق دائماً خارج أي مكان”.
السيرة الذاتية والمدن المستعادة:
يعلق التاريخ، في متن نص السيرة، بشبكة السرد.. يفرض السرد، بقواعد كتابته، أشكاله ومنطقه على الحدث التاريخي الذي يجري تمثيله. وإذ يتأسس ( الاعتراف ) الذي هو، أولاً، ذو طبيعة ذاتية، بوساطة اللغة باستخدام ألاعيب البلاغة ويتلون في ضوء شروطها ومقتضياتها، لتأكيد ( هوية/ شخصية أو جماعية )، فإن هذه الهوية ستتأرجح، حينئذِ، عند الحدود القلقة للغة/ البلاغة، وقوانين السرد، وضباب التاريخ. وما يزيد الأمر التباساً هو هذه الإقامة في مكانين.. المكان المنفى حيث يوجد المرء فيزيقياً، الآن. والمكان الأصلي الذي غادره؛ مكان زمن انقضى واستحال إلى صورة، أو أطياف في الذاكرة. والمكان الثاني هو الذي يسعى الكاتب إلى استعادته، وهذه المرة بمعونة المخيلة. لهذا لن تكون مدينة السرد هي مدينة التاريخ نفسها مثلما يقول د.عبد الله إبراهيم في كتاب ( السرد والاعترف والهوية ).
يحاول حليم بركات إعادة بناء مدينة بيروت بعد نصف قرن من رحيله عنها، وهي التي عاش فيها شطراً من شبابه، وكانت لها التأثير الأكبر على وعيه ومزاجه وعلاقاته، وذلك في كتابه ( المدينة الملوّنة ) بعدما أصاب الهرم الاثنين معاً.. يقول د.إبراهيم؛ “بدت العلاقة شائكة بين بركات، والخلفية الزمانية والمكانية للمدينة، فهو يريد إعادة ربط نفسه بمكان وزمان متلاشيين ومتباعدين، افتتن بهما في شبابه ولم يبق منها إلاّ وقائع متناثرة لا سبيل إلى شبكها في ضفيرة متجانسة ومتماسكة، والبحث عن ذلك بعد عقود خمسة لا يتأتى عنه غير مزيد من الإحساس بالفقدان والخسارة واليأس”.
تبددت الوعود الملونة للمدينة التي أحبها بركات.. المدينة التي كانت يوماً ما مرتع أحلام كبيرة مزقتها الحرب الأهلية حتى بدت وكأنها تتنكر لذاتها، ولصورتها التي في أذهان عشاقها، فتتخرب “مفهوم الدولة الوطنية الجامعة” وتغدو لبنان برمتها “دولة طوائف وجماعات”. هكذا أحب بركات مدينته، وهكذا نفر منها، وامتلأت روحه، بسبب ما آل إليه وضعها السياسي والاجتماعي، بالخيبة والخذلان.
بالمقابل، يسترجع عبد الرحمن منيف في ( سيرة مدينة ) فضاء مدينة عمّان بوازعٍ ومقصد مختلفين.. فهو أولاً “لم تتح له الفرصة لبناء تجربة أصيلة في المكان باعتباره وطناً؛ لأنه ترحّل إلى نهاية حياته بين أمكنة طارئة، وربما طاردة”، بين الجزيرة العربية والأردن والعراق وأوربا وسوريا. فبقيت علاقته بالأمكنة قلقة وهشة، لينعكس هذا على نتاجه السردي. وفي كتابه الآنف الذكر يلوذ بالذاكرة لإعادة بناء مدينة عمّان التي عاش فيها طفلاً وفتى غضاً في أربعينيات القرن المنصرم. “فعمّان تنبثق بوصفها ذكرى مستعادة، تجتذب فتاها الصغير بنشوة بالغة، بعد أن أصبح شيخاً”.
تقف الذات على مبعدة من زمانها ومكانها القديمين “فيكون الكتاب خلاصة مزج بين تاريخ مدينة وحياة شخص في مقتبل عمره”. فنرى المدينة من خلال عيني الكاتب واعتماداً على ذاكرته ومخيلته، إذ يقترح قراءة “تتيح إمكانية جديدة للكشف والاكتشاف”.
أما الروائي التركي أورهان باموك في كتابه ( إسطنبول ) فيتخذ من مدينته موقفاً ثقافياً كما يرى د.إبراهيم.. تلك المدينة التي كانت يوماً ما حاضرة متروبولية، لإمبراطورية قوية، ممتدة الأذرع، حكمت أجزاء من آسيا وأفريقيا وأوربا لقرون قبل أن تندثر وتفقد بريقها لتخيّم عليها بعد ذلك “الذبول والسوداوية ومشاعر الإخفاق العميقة الملازمة لنهاية الإمبراطوريات الكبرى، فلا عجب أن يمضي باموك حياته يحارب تلك السوداوية أو يتقمصها كما كان يفعل جلّ أهل إسطنبول”.
هنا تبرز إشكالية الهوية، في الفاصلة المتوترة بين قطبين جاذبين؛ قطب الماضي العظيم لإمبراطورية سادت ثم بادت، وقطب الغرب الذي هزم الإمبراطورية ويقدِّم، اليوم، بديلاً حضارياً، براقاً، عنها. هنا، ستتعرض الثقافة، بعدِّها منظومة قيم وتقاليد ورؤية إلى العالم، إلى الاهتزاز والتصدع لتحل محلها منظومة أخرى مستعارة، وعسيرة على التمثل. ويشكل هذا الصراع خلفية لصراع آخر، يجري في دائرة أصغر هي دائرة أسرة باموك حيث يطرأ تغيّر واضح على سطح الحياة، تجسِّده المقتنيات المادية، من غير أن يمس بشكل مؤثر البنية العميقة لتلك الحياة؛ “فالتصميم الحديث للبيت ( في سبيل المثال ) لم يحل دون العلاقات التقليدية بين أفراده”. إن التصدع الحادث في حقل الثقافة، سيكافئه، بطبيعة الحال، تصدع مماثل في بناء الهوية/ الشخصية والاجتماعية، والشعور بها.
السيرة الروائية:
إن اصطلاح السيرة الروائية المنحوت من اصطلاحي الرواية والسيرة الذاتية تتكئ على ضمير المتكلم القائم بين الراوي المتخيَل والروائي الواقعي، حيث يغدو الاصطلاح الجديد زلقاً في تحديد دلالة وماهية هويته، ووظيفته. فمادة تجربة الروائي ما أن “تصبح موضوعاً للسرد حتى يُعاد إنتاجها طبقاً لشروط تختلف عن شروط تكوِّنها قبل أن تندرج في سياق التشكيل الفني”. وهذا النوع إذ يُحيل الاعتراف الذي هو جوهر نوع السيرة الذاتية على منطقة الفن المتمثلة بالرواية ونطاقها اللامحدود فإنه يمارس نوعاً من التمويه ليحمي الروائي، بوجوده الواقعي، من المساءلة الاجتماعية والأخلاقية بمعاييرها التقليدية الصارمة وذلك بوساطة ما يسوِّغه ويشرعنه الفن الأدبي السردي، وتحديداً الرواية. فتنتقل الشخصية المحورية الراوية بين داخل النص وخارجه؛ هذه الحركة الماكرة والشيّقة تضع القارئ على تخوم التحدي والمتعة في الوقت نفسه. ويوفر للناقد ( غير البنيوي/ المهتم بالخلفية الاجتماعية ـ التاريخية للكاتب ) مجالاً واسعاً ومرناً للمناورة في تحليل الشخصية الروائية في ضوء تفاصيل حياة الروائي وتاريخه. وعموماً، وبحسب ما يذكر د.عبد الله إبراهيم فإن “أفق انتظار القارئ يحدد نوع التلقي، ففي نهاية الأمر، لا يمكن لأحد أن يخرق قناعات المتلقي، في أن الرواية عمل متخيل، والسيرة وثيقة لها بُعد واقعي، ذلك الأفق بما يرتِّبه من هواجس، يوجّه سير القراءة إلى هدف محدد في أثناء قراءة كل من الرواية والسيرة”.
أتاح تداخل الأنواع الأدبية فرصة ولادة أنواع جديدة مهجّنة تنطوي على خصائص فنية مستمدة من الأنواع الأصلية، فضلاً عن خصائص مخلّقة تضفي هالة جمالية لافتة على النص المكتوب في أفق عمليات التهجين هذه. وقد لجأ الكاتب العربي إلى استثمار نوع السيرة الروائية، لا بدوافع فنية وأسلوبية فحسب، وإنما كمحاولة لمراوغة التابوات، وإخفاء صورة الذات/ ذات المؤلف/ وراء قناع الراوي المالك لمساحة حرية أوسع من مساحة الروائي بكثير. فالروائي الذي هو كائن اجتماعي تاريخي محكوم بشروط حياته وواقعه وبيئته الاجتماعية وقيمها ومواضعاتها وتقاليدها. واعترافه، من خلال نص السيرة، بارتكاب اختراقات للبناء الأخلاقي الصلد للمجتمع يضعه في موضع الاتهام والإدانة والنبذ، لذا فإن قناع الراوي في نصٍ يعرّف نفسه على أنه رواية يمنح الروائي شيئاً من الحصانة، والمصد في مواجهة من ينصبون من أنفسهم حراساً لذلك البناء. ودعوى الروائي في هذا المقام هو أنه يشتغل في منطقة التخييل، بعدّ الرواية عملاً سردياً خيالياً. فإذ تقتحم المخيلة معقل التاريخ، في خضم الكتابة السردية/ الروائية فإنها تُخضع النص المكتوب لنزوتها، وتسبغ عليه عنصر المرونة، وتغريه بالحرية والانزياح عن المألوف.. وهذا التواطؤ بين الراوي والروائي، أو بين المخيلة والواقع التاريخي، في إطار النص السردي يخفف من ثقل التاريخ، وينقذ الروائي من حراجة الاعتراف المباشر.. فالسيرة الروائية صوغ ماكر لحياة الروائي. وهنا تكون مرجعية الراوي هي ما خبره الروائي في الحياة الواقعية.
يرى د.إبراهيم أن الرواية العربية نشأت “في محضن التجارب الذاتية، سواء كانت تلك التجارب وقائع وأحداثاً أم سيراً وتاريخاً شخصياً أم تأملات ومواقف فكرية” فمنذ رواية ( زينب ) لمحمد حسنين هيكل تعاطى الروائيون العرب مع تواريخهم الشخصية بوصفها مرجعيات لأحداث رواياتهم. فعل طه حين ذلك في كتابه ( أديب ) وإبراهيم المازني في كتابه ( إبراهيم الكاتب ). وتوفيق الحكيم في كتابه ( عصفور من الشرق، ومحمود أحمد السيد في كتابه ( جلال خالد ) والأمثلة كثيرة بهذا الخصوص. وإذا كانت هناك مماثلة بدرجات متباينة بين شخصيات الروائيين وشخصيات الرواة في الأعمال التي شكلت الموروث الروائي العربي من بدايات القرن العشرين وحتى عقوده الأخيرة فإن الأمر لا يصل حد المطابقة التامة. والمثال الأكثر نصاعة بهذا الصدد هو شخصية كمال في ثلاثية نجيب محفوظ. فكمال هو صورة تنعكس عبرها رؤية محفوظ للعالم وطبيعة مواقفه وانتمائه الطبقي أكثر مما تعكس التفاصيل الدقيقة لحياته أو جوانب حقيقية منها. بالمقابل نجد روائياً عربياً آخر هو محمد شكري، وعلى نقيض الآخرين، سعى بجرأة إلى زج شخصيته الحقيقية في متن نصه الروائي كما في كتابيه؛ الخبز الحافي، والشطّار، وفيهما أعاد، بشكل صادم، ومن غير مواربة؛ “استكشاف جوانب من تكوّنه الجسدي والثقافي في مراحل الطفولة والصبا والشباب”.
saadrhm@yahoo.com
saad.m.rhim@hotmail.com
سعد محمّد رحيم: السرد والاعتراف والهوية
تعليقات الفيسبوك