د. نجم عبد الله كاظم : الناقد العراقي وخصوصية المقترب الحداثي

* كلية الآداب – جامعة بغداد
(1)
نتذكر أننا كنا، في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، على معرفة وقناعة بواحد من مناهج وتيارات النقد الحديث أو الحداثوي، ذلك هو النقد الجديد، كونه قد نقل مركز الاهتمام إلى النص الأدبي نفسه، وعليه فقد تبيناه في دراسة لنا عن الرواية العراقية. لكن النتيجة كانت أننا وجدنا أنفسنا لا نستطيع ونحن نسير في منهجيتنا إلا أن نحيد عن ذلك النقد، فنخرج أحياناً من النص إلى ما هو حول النص، ولكن لنعود بالطبع إلى النص متجنبين هيمنة ذلك الخارج على اشتغالنا النقدي. وخلال السنوات القليلة التالية من تلك التجربة المنهجية، انتبهنا إلى أن مثل خروجنا ذلك كان يشكل ما يشبه الظاهرة في النقد الأدبي العراقي والعربي عموماً، وبما يشبه عدم إخلاص الناقد للمنهج الذي يتّبعه في الدراسة الواحدة. هنا نريد أن نعبر عن وجهة نظر خاصة في هذا الذي لا يزال يحدث أو يقع فيه النقاد العراقيون، ومنذ ما يقارب الثلاثة عقود، وهي الفترة التي انفتح فيها الناقد العراقي على المناهج الحديثة والحداثوية وطبّقها. وما نعنيه بالمناهج الحديثة والحداثوية، هي تلك التي بدأت بالشكلانية فالنقد الجديد، ومرّت بالبنيوية وما بعد البنيوية، وانتهت بنقد القراءة، فالتأويل.
يمكن تقسيم النقاد العراقيين خلال الفترة المعنية، وفي ضوء علاقتهم بالمناهج الحديثة والحداثوية، التقسيم التقليدي الذي يُتبّع عادة مع تقسيم كل مجموعة علمية أو أدبية أو نقدية أو لغوية.. في مراحل التغيير وتأثير الآخر والتحول المجتمعي والسياسي والثقافي. ووفقاً لذلك يكون تقسيم هؤلاء النقاد إلى: نقاد تقليديين، ونقاد حداثيين، ونقاد توفيقيين يجمعون ما بين التقليد والحداثة. لكننا نميل إلى شكل آخر، وإن لم يخرج كثيراً عن ذلك، فنقسّمهم وفقاً لقربهم من المناهج الحديثة والحداثوية وبعدهم عنها، إلى:
أولاً: نقاد أخلصوا للمناهج الحديثة والتزموا بها بشكل صارم، على الأقل في فترات أو في أعمال معينة، مثل: عبدالله إبراهيم، وعباس عبد جاسم، ومحمد صابر عبيد. ثانياً: نقاد انفتحوا على تلك المناهج، ولكن مع اجتهاد في التطبيق وعدم تسليم بكل أطروحاتها وخطواتها الإجرائية، مثل: فاضل ثامر، وشجاع العاني، وياسين النصير، وحاتم الصكر. ثالثاً: نقاد لم يتحمسوا لتلك المناهج، فاستفاد بعضهم منها، وانغلق آخرون عن غالبيتها انغلاقاً كاد يقود بعضهم إلى الوقوف منها موقفاً مضاداً أحياناً، مثل علي جواد الطاهر، وعبد الجبار عباس، وعبد الإله أحمد، وسليمان البكري، وحسين سرمك حسن، وباسم عبد الحميد حمودي، وعمر الطالب، وعبد الجبار البصري.
(2)
باستثناء نقاد المجموعة الأولى، كان لكل واحد من هؤلاء تعامل خاص مع المناهج الحديثة والحداثوية، مصحوباً بعدم إخلاص لها عند التطبيق. وإذا ما تجاوزنا الفهم الخاطئ وما قد يستتبعه من تداخل بين المناهج والمفاهيم، فإن الاختلاف بين النقاد، وعدم الإخلاص للمناهج المتبعة إنما يقع أحياناً في الفهم، وغالباً في الاجتهاد في التعامل معها، ولا سيما في الخطوات الإجرائية. هذا هو ما نجده مصدر الخلاف وسوء الفهم في تقويم التجارب النقدية للنقاد العراقيين، وربما النقاد العرب عموماً، وهو ما نريد التوقف عنده بشكل أساس هنا.
بدايةً يفوت الكثيرين أن الاختلاف في الفهم وما قد يستتبعه من اختلاف في التوظيف والتطبيق قد يعود أحياناً إلى المناهج والمفاهيم والنظريات في أصولها الغربية، وهو في الواقع أمر ليس بالغريب إذا ما عرفنا أن مثل هذا يتمثل لا في الأدب والنقد فحسب، بل في الكثير مما يواجهه إنسان العصر سياسياً وعالماً وأديباً ومفكّراً وناقداً. فيقول أحد الغربيين مثلاً: أن “من جملة المشاكل التي تواجهنا عند دراسة العصر الحديث هي أنه لا توجد كلمة واحدة تحدد سمات هذا العصر، لقد استعملت كلمة الحداثة من حين لآخر مرادفة للرومانسية، واستعملت كذلك في وصف الأجواء العامة للأدب الأوربي في القرن العشرين بوجه عام… لقد استخدم هذا المصطلح ليغطي مجموعة من الحركات التي جاءت لتحطيم الواقعية أو الرومانسية… مع ذلك ليس هناك ما يوحد هذه الحركات، بل أن بعضها جاء ثورة كاسحة على البعض الآخر”. وقد كان لمثل أجواء الاختلاف هذه في الفهم أن يهيئ البيئة للاجتهاد في كل ميادين العصر، بل أن أمر الاختلاف والتجديد والافتراق في التنظير والتطبيق قد تعدى في الغرب حدود الاجتهاد الحقيقي إلى ما يكون في أصله افتراقاً غير واع أو غير متعمد، ومع هذا نحن نتقبله ونقتنع به، وربما نسهم في التنظير له لأنه آتٍ من الغرب، مصدر العلم والنظرية والتجديد والاكتشاف.ومثل هذا حدث ويحدث حتى عندنا، ولكن في ميادين أخرى أو في أزمان أخرى، فاستقبلناه ونستقبله ونتقبله أيضاً. ولكننا، حين يفعل ناقد عربي مثل هذا أو يقع فيه، نتهمه بعدم فهم المنهج والنظرية أو بالانحراف عنهما.. أو بالخطأ في مراحل أخرى من التعامل معهما. بتعبير آخر أن التعددية والاختلاف في الفهم والتفسير والتطبيق هي في الأدب والنقد، كما هي في غيرهما، أوسع من أن نرفض أي خروج عما نعرفه ونفهمه من النظرية والمنهج. وهكذا وجدنا القراءة قراءتين، والبنيوية بنيويتين وربما ثلاثاً، والأدب المقارن فرنسياً وأمريكياً وروسياً. ووجدنا ناقداً مثل “نورثروب فراي الذي آمن بالبنيوية ذات يوم، … يشق له طريقاً خاصاً ويؤسس اتجاهاً نقدياً عُرف به، يقوم على المزج أو المزاوجة بين النقد الأسطوري والنقد الجديد القائم على تحليل الصورة والرمز. أما روبرت شولز فلم يتردد في الإقدام على خطوة قد تبدو للبعض غريبة أو لنقل جريئة، نظن لو أن ناقداً عربياً خطاها أو أقدم عليها لاعتبره بعضنا متجاوزاً ومتخبطاً. فقد رأى إمكانية الجمع بين ثلاثة مقتربات سيميائية، “في منهجية واحدة هي الآتية:1- مقترب تزفتان تودوروف، كما أوضحه في كتابه (قواعد الديكاميرون)؛ 2- مقترب جيرار جينيت في كتابه (الخطاب السردي)؛ 3- مقترب رولان بارت في كتابه (س/ز)”، وكل ذلك من خلال تعامله مع قصة واحدة هي قصة “إيفيلين” لجويس. أكثر من ذلك أننا وجدنا النقد الجديد مثلاً بعدد نقاده الرواد. فمع أنه عموماً يؤكد على “أن تحليل العمل الأدبي، بوصفه شيئاً، مكتف بذاته، ومستقل عن أي إحالة إلى عالم أو تاريخ اجتماعي وأدبي خارجي”، فإنه يضم مجموعة من النقاد، من أشهرهم سبنجارن، وجون كرو رانسوم، وكلينث بروكس، وألن تيت، وروبرت بن وارين، ووليم أمبسون، وديفيد ديتشس، وكارل ويمزات، وهؤلاء جميعاً في حقيقتهم مختلفو المشارب والفهوم في غير ذلك الذي جمعهم، الأمر الذي أفرز اختلافات ومقتربات متعددة، وهي اختلافات لم تمنع عدهم منهجيين، كونهم جميعاً رفضوا تدخل العلوم الإنسانية من تاريخية واجتماعية ونفسية وفلسفية في دراسة الأدب، ونظّروا لذلك ضمن فلسفة واحدة واتجاه عام واحد.
ولا يقتصر أمر التداخل والاختلاف في الفهم والتفسير والتطبيق على المناهج والنظريات في الغرب قبل أن يكون لدينا، بل يتعداه حتى إلى المصطلحات والمفاهيم، فصارت (وجهة النظر) مثلاً ذات فهم إنكلوسكسوني وآخر أمريكي وثالث ألماني ورابع فرنسي. ويرى أحد دارسي المصطلحات مثلاً أن (الحدث) أو (سلسلة الأحداث)، و(الحبكة)، و(البناء) تُستخدم جميعاً بطرق محيرة وقد تكون مختلفة. والأمر يتعدى هذا إلى الكثير من الأمثلة.
إذن لماذا لا نقدر الاختلاف والجرأة في التعامل النقدي مع كل شيء في العمل الأدبي، بما في ذلك التجريب ودخول المغامرات القائمة على تجاوز محاذير وممنوعات ومرفوضات، والخروج على نظريات وأطروحات مناهج، وما ينتج عن ذلك من تعددية في الفهم والتطبيق والننائج، كما فعل في الغرب غولدمان في بنيويته التكوينيه، وكما فعل في النقد العربي حميد لحميداني في “أسلبة الرواية” مثلاً. لعل هذا يرجعنا إلى واحدة من بديهيات النقد ومعالجة النصوص التي قد تمتُّ إلى ما نتكلم عنه بصلة، والتي تتمثل في “إمكاننا أن نرى نقاداً مختلفين يعالجون نفس النص بأساليب مختلفة دون أن نشعر أنهم خرجوا عن المنهجية التي نحن نطالب بها”، و”أن طبيعة النص هي التي تحدد المنهج الذي يجب أن يطبقه الناقد على ذلك النص، لكن مسؤولية الناقد هي أن يكون مثقفاً ثقافة عميقة وأن يكون مطلعاً على كل هذه المدارس والمناهج لكي يمارس مع نص معين منهجاً معيناً، وطريقة معينة”، ليكون في النتيجة كل شيء مفتوحاً أمامه، حتى رفْض البعض في أن يكون الناقد متنقلاً وتوليفياً في المناهج، فللناقد أن يجتهد في تطبيق منهج ما، أو توظيفه توظيفاً خاصاً مبرَّراً ومسوّغاً، وأن يستعين، وهو يطبق منهجاً معيناً، بآخر ما دام أمر ذلك يتم لا بشكل كيفيّ وإنما عن وعي منه.
(3)
إذن ليس من أمر غريب أن يختلف النقاد العراقيون، أو العرب عموماً في اختيار المنهج الذي يقتنعون به، وليس من عيب في أن يختلفوا في تطبيقه، بل لا نجد من عيب في أن يجتهد الواحد منهم في تطبيق ذلك المنهج، أو أي مقترب ضمنه. فكما يقول ديفيد ديتشس: “كل ما أعان القارئ على أن يرى جوانب متعددة من حياة الأثر الأدبي كان نقداً ذا أثر… الفن شيء موضوع للتجربة، ومهمة النقد على الجملة أن يسعف على بلوغ تلك التجربة”، وأن ذلك لا يعني أن يتفق كل النقاد في التبني والاختيار والتطبيق. المهم وتعلقاً بذلك التداخل الذي يتحقق كثيراً في التطبيق بين المناهج النقدية المعاصرة هو أنها جميعاً تقريباً تعترف أو تقوم على الإقرار بالآتي: أولاً- إن النص، وليس ما هو خارج النص، هو موضوع النقد؛ ثانياً- المرجعية اللسانية التي قادت إلى رؤية النص الأدبي ذا طبيعة لغوية قبل كل شيء؛ ثالثاً- علمية التعامل النقدي مع النصوص. عدا هذا نرى أنّ اجتهاد الناقد في فهم المنهج أو في تطبيقه هو عندنا أجدى من التبنّي الصارم له، ما دام هذا الناقد ينطلق في اجتهاده من وعي بما يفعله. وربما من رصد البعض إخفاق نقاد عرب يستعيرون المناهج والمفاهيم والرؤى الغربية المختلفة المصاغة في ضوء تحليل ودراسة وتطبيق على روائع غربية بعينها، فيطبقونها على أعمال هي مستوىً وطبيعةً وغنىً ونضجاً دون إمكانية أن تُطبَّق عليها مثل تلك المناهج والطرق مع ضمان تحقيق النتائج.
نقول هذا في ضوء تخطّى بعض النقاد عملياً مستوى الانفتاح على مناهج النقد الحديثة وتبنّيها إلى مستوى الاجتهاد في بعض تطبيقاتها، كما فعل مثلاً فاضل ثامر وشجاع العاني وآخرون. فلم يكتفِ فاضل ثامر بالتوليف بين منهجين على علاقة ببعضهما، بل ذهب أبعد من ذلك، كما عبر عن ذلك في تصريح قصير لم ينتبه أحد لصراحته وجرأته غير العادية، إذ اعترف بوعي وقصد بأنه لجأ إلى توليفٍ بين مناهج متعارضة خرج منه بما سماه منهجاً شخصياً، فقال: “حاولت أن أتجاوز لحظة الانبهار بهذه المناهج [الحداثية] واجتراح منهج نقدي هو توليفة بين منظورين متعارضين، الأول هو التحليل السوسيولوجي للنص الأدبي الذي ينتمي إلى المقاربات الخارجية، والمنظور الشكلاني وينتمي إلى إطار المقاربات الداخلية والنصية”. وهو عموماً طبق أو استفاد، في تعامله مع النصوص الأدبية وخاصة السردية، من البنيوية والألسنية والأسلوبية والسيميائية ونقد القراءة والتفكيكية وغيرها ما وجده كفيلاً باستكناه النص وإيصاله إلى أبعد ما فيه. وهو يصرح بوعي وثقة وعدم خشية عن مسعى نقدي عربي يحرص على المزاوجة بين المنظورين الجمالي والاجتماعي في خطاب السرد العربي الحديث.
وإذا لم يتواصل ياسين النصير مع فاضل ثامر، في مثل هذه المسيرة، فإنه في تعامله مع المناهج والتيارات النقدية الحديثة لم يتخلّ عن الاجتهاد والتطبيق الخاص، وكما يمكن رصد بعضه في الكثير من كتاباته، مع ما قد يؤخذ على بعض آخر من كتاباته من مبالغة في تحميل النصوص ما تحتمله، من جهة، ومن سرعة تخلًّيه عما يتبناه.
أما شجاع العاني فهو إذ لم يتبنّ المناهج التقليدية حين انتقل من تقليدية منهجه في كتابه اللذيد “المرأة في القصة العراقية” إلى المناهج الحداثوية في كتبه التالية، فإنه لم يتردد في الاجتهاد في تعامله مع تلك المناهج، كما يعبر هو نفسه بوعي واضح عن ذلك. ففي كتابه “البناء الفني في الرواية العربية في العراق” الذي تبنى فيه منهجاً نصّيّاً هو المنهج البنيوي، يقول: “مع السبعينيات أو بداياتها ثم في الثمانينيات اكتشفنا جميعاً فقرنا في دراسة الجوانب الفنية والجمالية. وصادف هذا الاكتشاف مع هبوب رياح البنائية على مجتمعاتنا، وربما كان الوضع السياسي عاملاً مساعداً في الانكفاء داخل إطار البنيوية الهيكلية والإنشائية… إنني لم اسم كتابي عن الرواية بالبنيوية بل بـ”البناء الفني”، وهو مختلف بعض الشيء عن البنيوية، إنه يفيد من كشوفات البنائية من دون أن يتبناها بالكامل”. وهكذا فهو في بعض كتبه، مثل كتابه السابق الذي نراه الممثل النموذجي له ناقداً قديراً، ينوّع مرجعياته النقدية النظرية، فيعتمد مناهج ومقتربات ومفاهيم متعددة، كلاً حسب الجانب أو العنصر الفني الذي يتناوله تطبيقياً. ونرى أنه في كل ذلك، وعلى خلاف ما قد يراه البعض، كان موفقاً ومقنعاً.
أما حاتم الصكر فيتنقل محتاراً بين المناهج المختلفة من واحد إلى آخر وكأنه في متاهة نقدية أو قراءية، إن صح التعبير، ليستقر أخيراً عند مناهج القراءة والتلقي التي إذ “تقترح القراءة فعلاً نقدياً ودراسة ذاتية… وتحفظ لذات القارئ- الناقد فسحة من دمج أفقه بأفق النص المقروء”، فإنها قد أتاحت له فسحة من الحرية والاجتهاد في قراءة النصوص، التي يبدو وكأنها تعزز سياحة الصكر مع التنوع في القراءة والنقد.
وحين تبنّى كاتب هذه السطور النقد الجديد، في كتابه “الرواية في العراق 1965- 1980 وتأثير الرواية الأمريكية”، الذي كان ضمن أبرز التعامل مع النص من دون آراء مسبقة، فإنه لم يستطع، كما مر، إلا أن يخرج هنا وهناك عن النص إلى ما هو خارجه خلافاً لتوجيهات ذلك النقد. وكل ما استطاع أن يفعله إزاء ذلك الذي كان يعيه، هو العودة إلى النص مع تمنّع عن أن يكون لذلك الذي هو خارج النص هيمنة عليه في تحليله.
(4)
وإذا كان للنقاد الذين انفتحوا على مناهج حديثة وحداثوية أو تبنوها مثل هذه الاجتهادات الخاصة، فلنا أن نتوقع أن يكون التعامل مع تلك المناهج بحرية فاعلة أكثر لدى النقاد الذين رفضوا أصلاً التسليم لأي منها. فحين لم ينغلق علي جواد الطاهر عن المناهج الجديدة، فإنه لم يسلّم أيضاً لأي من تلك المناهج، ولم يرتض الانطلاق “من أي من المناهج الكائنة والتي ستكون، ولا يمنع هذا من الإلمام بالمناهج والإفادة منها على مدى ما تُعمق أو تقرّب من السر، ولكن لكل ناقد منهجه الذي يتكون لديه ثمرة لتجربته وممارسته وتأمله وعلمه وشخصيته”. ولعل هذا تحديداً هو الذي كان وراء الانطباعية الخاصة التي وسمت نقده.
وما يقال عن الطاهر يكاد ينجر على عبد الجبار عباس، الذي يرى الطاهر نفسه أن مقالته النقدية بما يستجمعه عباس فيها من “الذوق السليم والتأني والتأمل والغوص وسبر الغور وبلوغ القرار واستثمار المواد… ذاتية فيما تهب نفسها من أصالة واتساق مع طبيعة العمل المنقود بعيداً عن المؤثرات الخارجية، بعيداً عن مقولات الآخرين ومناهج الآخرين. فما كان عبد الجبار عباس ليتعامل مع الأعمال المنقودة بما يفرضه عليها من الخارج مرة باسم فلان وفلان ومرة خضوعاً للمنهج الفلاني والمنهج العلاني، ومرة (لمودات) ثبتت في غير موطنها ولأعمال استوجبتها”. لكنه “ليس ذاتياً مطلق الذاتية وفي المعنى السيّئ للذاتية… وهو ليس موضوعياً بأن يطبق قواعد منهج مقرر من المناهج التي عرفها النقد الأدبي ذات يوم وهو يتقلب في ظروفه المختلفة وظروف أهله المختلفة بين أقصى العلمية وأقصى الانطباعية فيما عرفته أوربا… لأن النص الأدبي أوسع وأعمق وأعظم من أن يقيده منهج من تلك المناهج”.
بقي تعلقاً بالنقاد من أمثال الطاهر وعبد الجبار عباس وآخرين نقول إنصافاً: يحدث كثيراً أن يوصف هذا الناقد أو ذاك بأنه في الستينيات كان ناقداً انطباعياً، والحقيقة أن كل النقاد العراقيين كانوا قبل منتصف السبعينيات على علاقة ما بالانطباعية. فمنهم من كان انطباعياً، ومنهم من كانت الانطباعية تهيمن على شغله النقدي، ومنهم من كان لها حضور بدرجة ما في شغله الذي هو في عمومه ليس انطباعياً، أو هو يحاول أن يتبنى أحد المناهج الحديثة ضمن النقد التحليلي. ولذا ليس صدفةً أن يكون لأبرز النقاد العراقيين- علي جواد الطاهر، وعبد الجبار عباس، وفاضل ثامر، وشجاع العاني مثلاً- في عملهم النقدي، علاقة حميمة بالذات مرة، وبما أسميناه الاجتهاد في التعامل مع المناهج الحديثة والحداثوية مرة أخرى.

najmaldyni@yahoo.com

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

تعليق واحد

  1. الدكتور ضياء الثامري/ جامعة البصرة

    (الفن شيء موضوع للتجربة، ومهمة النقد على الجملة أن يسعف على بلوغ تلك التجربة”،)هذا هو المهم أشكرك أستاذنا على هذه النظرة الدقيقة للمشهد النقدي وهذا الفهم العميق والواضح  لمسار الحركة النقدية العالمية والعراقية .تقبل تحياتي واحترامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *