
و ( الجعبة الأخيرة ) التي اقتنيتها من أحدِ الأرصفةِ الدمشقيةِ والتي مضَتْ على تخيُّر موضوعاتها اليومية وتنسيقها بضعة أعوام ، لتغدو من المطبوعات القديمة التي يجدُّ في البحث عنها صنفٌ من الأدباء بأعيانهم ، ليعرِّفوا بها ويفصِّلوا في محتوياتها على سبيل تذكير الأجيال المتأخِّرة في أعمارها الزمنية ، هي جعبة الصحافي اللبناني الشهير الراحل قبل سنوات من توقف الحرب الأهلية بين الفرقاء في بلاده ، سعيد فريحه ، منشِئ مجلة ( الصياد ) ، في يوم حصول لبنان على استقلاله بعد مغادرة المحتل الفرنسي ربوعه وجلائه عنه ، إثر توافر عوامل اضطراريَّة ودواع ٍ مُرغِمة شتى ، وذلك في غضون العام 1943م ، ليردِفها ويعقبها بعد سنين بإصداره قرينتها جريدة ( الأنوار ) اليومية ، وبنتيجة كفاحه الموصول وجهاده المنقطع النظير في عالم الصحافة ، واتخاذه شعار خدمة بلاده ومناصرة شعبها بمختلف عناصره وطوائفه وأديانه ومذاهبه ، وتوخيه النقد الهادف البناء لِما يلفيه سلبيا ً أو معيقا ً لتقدُّمها ونهضـتها ، وباعِثا ً لسخط الأكثريات وقرفهم ، ممَّا يجترحه المسؤولونَ أو يتردَّوْنَ إليه من سقطات وهِنات أثناء تأديتهم لوجائبهم واضطلاعهم بخدماتهم ، في غير وناءٍ في الإشادة أو التنويه ــ على الأقلِّ ــ بكلِّ ما يزين ويُشرِّف ، وأهل للتباهي به وتشجيعه والحضِّ على إيتاء مثله من المبادرات والفعاليات والشؤون .
تحتوي هذه الجعبة الأثيرة على كم ٍ وذخيرةٍ من كتابات الأستاذ المرحوم سعيد فريحه ، منتزعة من مواضعها المحتوية عليها في صحيفة ( الأنوار ) ، أثناء السنوات : 1975 ، 1976 ، 1977 ، 1978م ؛ وهي حقبة متصرِّمة من تاريخ بلاد الأرز اكتنفتها الحرب الأهلية ، وساد فيها الصِراع والتناحُر بين الجماعات والأوساط التي خبرَتْ من قبل حياة زاخرة بالتلاحُم والوفاق ، واعتراف أيِّ رعيل ٍ بالحقِّ والمشروعيَّة لغيره في ممارسة ما يشاؤه من ضروب العبادات والطقوس ، مثلما يلزمهم ويقتضيهم أنْ يرعوا شعوره ويذعنوا لمشيئته في اختيار وجهته وما يوافقه ويرتئيه من عقيدة ، وكان الكاتب وسط تلك الظروف المحفوفة بالصعوبات والأزمات المعيشيَّة ، فضلا ً عن افتقاد الفرد الإنساني العائش في محيط كهذا يعمُّه الفزع والرَوع من هول الدمار الذي تمنى به المنشآت وسائر ما جهد الإنسان في تشييده من معالم ، لأيِّ قدر من الاستقرار النفسي والنجاء النهائي من توقع الجسيم من الدواهِي والمكاره ، قلتُ : كان صاحب هذه المقالات المطبوعة على العفوية والترسُّل بوحي السليقة والتلقائيَّة المطاوعة والمنفلتة بشكل ملحوظٍ من التفكـُّر بعقدة الأسلوب ، فلا يجعلها غايته وهمَّه ، ويبتغيها وكدَه وقبلته في ما ينشِئه من فصول وينسجه من فنون القول وضروب الخِطاب ، مواظِبا ً على إصـدار رصيفته بموعـدها ، لا تثنيه عنها القذائف المتفجِّرة ولا النيران المشتعلة على مقربةٍ من المكان الذي تقع فيه الدار التي تحمل اسم مجلته الأثيرة ( الصياد ) ، بعد أنْ تضاعفتْ أعداد العاملينَ فيها من المحرِّرينَ والكـُتـَّاب والموظفينَ في قسم الحساب والتوزيع ، وتزايدوا بمرور السنين إلى ما يقارب ثلاثمائة فردٍ بين صحافي محترف ومهني طبَّاع ، بل إنَّ الشَرر كثيرا ً ما تـُستهدَف به الدار نفسها ، ويتعرَّض بعض العاملينَ في توزيعها وتوصيلها لمَحَال بيعها ونـَفـَاقِها ، لخطفهم من لدن الجهات المتنازعة ، ويتحيَّر أزلامها في أمرهم ويختلفونَ في تعيين المصير الذي يؤثرونهم له ، فيخلونَ سبيلهم كحل أسلم وآيل لحسم خلافهم ، على نحو ما تصوِّره بعض هذه المقالات المُشبهَة في طريقة كتابتها وما يتخللها من الصراحة المُطلقة والاسترسال أحيانا ً في البَوح بالمَسكوت عنه ، ووجوب كتمه ولجمه من الأسرار والحقائق ، بخصوص ما يتعلق بالجنس الآخر ، سواء أ كان ذلك مزحَة أم افتراضا ً ؟ ، ديدَن كتبة الاعترافات الشخصية عن وقائع وتجارب ماضية اعتورَتْ حياتهم ، وترسُّمَهم في الطواعيَّة التي يسهو الكاتب أثناءها عن نفسه ، ويغرق في استيحاء خواطره وادِّكاراته .
عمَّر الصحافي الراحل إلى ما ينوف على السبعين عاما ً ، نعِمَ فيها بالأسفار والرحلات وتجواب مختلف بلدان العالم في آسيا وأوربا بدون اكتراث لمَا يعرو النفوس من هواجس ومخاوف من احتمال تعرُّض الوسائط التي يعوِّل عليها في تنقلاته من طيَّارات وبواخر ، لمخاطر الأنواء والعواصف التي لا يعلم أحد متى تهبُّ وتهدِّد الإنسان في سلامته وأمنه ، وكلُّ هذه المجازفات ومواجهة المخاطر يقبلُ عليها الصحافيونَ المهنيونَ لأجل أنْ يكونوا في قلب الحدث ، ويجسِّدوا كلفهم بالسبق الصحفي ، لتغطية ما جدَّ في هذا الشطر أو ذاك من أنحاء العالم من تهاويل أو كوارث ، حتى ليروق لك أنْ تستجلي الأوقات التي يمضونها في القراءة والاطلاع على حقيقة الأحوال العامة وما يطرأ على الأوضاع الدولية من التقلبات والتحولات ، هذا إلى أنَّ القراءة كفيلة بتفجير طاقة الإنسان الكتابية وتراضُ معها سليقته الأدبية ، فلو دققتَ في أسلوبه ومحَّصْتَ بيانه واستوثقتَ من ثراء مضامينه ونصاعتها وعمقها ورسوخها في الذهن لأمدٍ يطول بعد فراغك من تدارُسها وتأمُّلها ، لصرْتَ في حِل ٍ من مشابهته في هيامه بالمهنة الصحفية وحرصه على تطويرها وتبويئها المكانة المحترمة بين سائر المنابر الإعلامية ، وقرنته بصنويه ومجايليه في مصـر الأستاذين ِ : علي ومصطفى أمين ، منشِئي صحيفة ( أخبار اليوم ) ، ومجلة ( آخر ساعة ) ، واللذين ِ ألحقا بمبنى عملهما مكتبة عامرة بأصناف الكتب والدوريات المحيطة بشؤون الاقتصاد والسياسة ، والمُلمَّة بالقضايا الفكرية والمسائل الأدبية ، يعوِّل عليها جميعا ً منتسبوهما في صحافتهم من المحرِّرينَ والكـُتـَّاب بقصد التوثيق وتحرِّي الحقائق اليقينيَّة إذا لزم الأمر ، فكوَّنا مدرسة في التحرير والكتابة الصحفية تدرَّب فيها وتتلمذ عليها عشرات الصحافيينَ ، هذا إلى استعانتهما برهطٍ من كتـَّاب مصر المعروفينَ وأدبائها البارزينَ ، أمثال : عباس محمود العقاد ، وإبراهيم عبد القادر المازني ، وسلامة موسى ؛ ولقيا بالتالي جزاءهما ونصيبهما المقسوم بعد كلِّ هذا العناء والكدح ، من التطاول والافتراء وكيل المطاعن بسيرتهما وخلقهما ، واحتوَتْ المنافي الأوَّل طوال تسع سنوات في لندن وبيروت ، حيث التحق آونة بملاك محرِّري مجلة ( الصياد ) ؛ وأطبقتْ ظلمَة السجن على الثاني بنفس المُدَّة إلى أنْ رفع آصار الحيف والظلم عنهما الرئيس الراحل أنور السادات ، ولم يرع أحدٌ من المقتصِّينَ منهما والمشتفينَ بهما عراقة الصِلة التي تدنيهما من زعيم مصر الأوَّل سعد زغلول خال أمِّهما ، وهذه وحدها تكفي بالشفاعة لهما وقمينة أنْ تجبَّ عنهما كلَّ شنأ وتخرُّص وإرجاف .
قلتُ : إنَّ صاحب ( الجعبة الأخيرة ) كان كمَن يوهم قارئه بزهادته في القراءة وانصرافه إلى غشيان النوادي وكلفه بالأسفار وخلطته بالمجتمعات العاجَّة بأحاديث النسوة ومداعبات الفتيات الغريرات الحِسَان ، قدرَ ما يميل لإحكام علائقه وآصراته بالسياسيينَ والأمراء وأرباب السُلطة ، دونما توق ٍ أو تمنٍّ أنْ يكون واحدا ً منهم ، حسبما يستنتجه قارئ هذه الذخيرة من المقالات الثرَّة المكتنزة بما يروق ويستهوي الألباب والعقول ، لكنَّ هذا التصور سرعان ما يفارق البال ، فأنت إذ تتملـَّى فحاوى هذه الكتابات الرائعة إنـَّما تتملـَّى أدبا ً وسياسة وثقافة ، وتستدلَّ على مشروع روائي متفنن لو ساعفته الظروف وانقطع للكتابة الروائية بكليَّته ، فقد تشذ ُّ الحلقات الأربع التي تستهلُّ بها الجعبة عن عموم مشتملاتها من الخطرات والشذور في دلائلها ومعانيها ، فبحجَّة الإعجاب واستهواء تناوله الصحفي لموضوعات الساعة تتوثق صلته بـ ( لوليتا ) آخر الحبيبات حيث التقيا بأحد النوادي ، هو الشيخ ابن العقود الستة أو السبعة وهي ابنة السابعة عشرة ، أشهدُ أنَّ في هذه الحلقات الأربع من اللفظ الساحر البهيج ومن التصوير الموحي بأعمق المشاعر والإحساسات ، ومن تجسيد للاعجات الغرام والهيام ، ما ترتدُّ عنه وتكلُّ طاقة أغلب مَن عرفناهم وخبرناهم وبلوناهم في تراثنا من الشاعرين والناثرينَ ، أو أنـَّني ما قرأتُ قبلا أو طالعني نصٌ أدبي يطفح بمثل هذا البوح والإفضاء بالمسكوت والمحجوم عنه ، فلا غرو أنْ انسقتُ لشيءٍ من الغلو والمبالغة .
فاتتني الإشارة إلى أنَّ الراحل سعيد فريحه ارثوذوكسي المذهب في الاعتقاد المسيحي ، ولا يتوهمَنَّ أحدٌ أنَّ ( سعيدا ً ) هو مجرَّد تسمية ينفرد بها رهط معينٌ من المؤمنين بربِّ العباد دون سواهم ، كما لا يغفلنَّ أحدٌ أيضا ً المجهودات المأثورة عن النابهينَ المتحدِّرينَ من أصلاب هذه المِلة في خدمة الأدب العربي والثقافة العربية وبأن يكونوا على رأس النهضة ، أمثال : الموسوعي اللبناني والمتشبِّع بالثقافة الإسلامية والتراث العربي لدرجة لا تـُصَدَّق ، عنيتُ به الأستاذ المرحوم رئيف خوري ، وعالِم المكتبات وخبيرها الدارس الآثاري المرموق في العراق والمغترب اليوم في برلين بألمانيا ، الأستاذ فؤاد يوسف قزانجي .
********
MahdiShakerAlobadi@Yahoo.Com