عجيبة هي هذه الثقافة العراقية، فهي تحفل بكل ما هو عجيب ومتناقض عبر عصورها المختلفة. في كل مرحلة تطلع علينا هذه الثقافة بما هو غريب يصدم الأذهان والثوابت، ويشكل “صرعة” في عالم الثقافة في مكوّنها الأدبي خصوصا. هي الثقافة التي قدّمت للعالم أول قصيدة مديح عظبمة خالدة لملك ظالم.. وأول وأعظم قصيدة جنسية مكشوفة، متخمة بالقضبان والفروج، تُرتل في المعابد بين يدي الآلهة المراقبة المعاقبة. وفيها قُدمت أعظم وأول ملحمة في التاريخ بلا اسم مبدعها.. وعلى أرضها وقف الشاعر يمدح محتل بلده ثم يذمه ثم يعود ليمدحه !!.. وتحت ظلالها أشاد أعظم شعرائها المقاومين المنحازين للجماهير المسحوقة مجده بيد الكفاح والتضحيات، وهو يسلم أعظم مطولاته للطغاة باليد الأخرى، بلا مبرر لأنهم لا يصلون شسع نعله.
مآثر سامقة لا تُعد ولا تحصى، ومنجزات مشرّفة عصية على الوصف، لكن جلّها يمور في أحشائها التناقض الصادم والمتضادّات التي تصل حتى القطيعة، لكن هذه الثقافة قادرة على أن تروّضها بأنامل لها القدرة، التي تأصلت تاريخيا، وبفعل التدريب المديد والمتطاول ابداعيا واجتماعيا، على جعل أشدّ النقائض أختلافا وأشسعها بعدا، تتعايش وتتظافر، بل يعزّز جهد بعضها جهد البعض الآخر، ويشدّ عضده ويلتحم به في خلطة لا تُصدّق وتدير العقل وتدوّخ البصر والبصيرة!!
ومن عجائب هذه الثقافة الجديدة، هي الظاهرة التي تفشّت بعد عام الإحتلال 2003، حيث طلعت علينا مئات من الصحف وعشرات من المجلات الجديدة التي يتصل بك رئيس تحريرها أو سكرتيرها أو مسؤول الصفحة الثقافية فيها، ويطلب منك الكتابة فيها بعد مقدمة طويلة عريضة يمدح فيها حجم قلمك المميز، ومآثر أدواتك النقدية الطويلة المدبّبة، وما تقذفه في سوق الكتاب من منجزات وإصدارات شهريّا.. إلخ من عبارات الثناء وجمل الإطراء وبلهجة مهادنة وصوت ناعم ودافىء، هي من مستلزمات “الصبغ” الإجتماعي التي تربّينا عليها.
ولكن عندما ينتهي رئيس التحرير أو السكرتير أو مسؤول الصفحة الثقافية من مطولته، وتسأله عن المكافأة التي سوف تمنحها لك الجريدة على مساهماتك التي سوف تقدّمها لهم، يتحول من المداهنة إلى الخشونة ، وينقلب صوته من النعومة إلى الجهورة ويقول فورا: سياسة جريدتنا هو أن لا تعطي مكافآت!!
وتستفسر منه من جديد: هل تستلم كرئيس تحرير أجرا وراتبا يرد منتفخا : إي .. طبعاً. وسكرتير التحرير ومسؤول الصفحة القافية والمحررون كذلك .. وحتى الفرّاش والحارس والمنظّف وزبّال الجريدة. الوحيد الذي لا يُعطى أجرا هو الكاتب !!
عندما طرح ماركس رؤيته المادية التاريخية رأى أن التاريخ سار عبر مراحل محدّدة قبل ظهور الماركسية هي : المشاعية والعبودية (الرق) والإقطاع والبرجوازية الرأسمالية. أي أن من المفروغ منه أننا قد تجاوزنا مرحلة الرق والعبودية منذ مدة طويلة. لكن رؤسساء التحرير الجدد الأشاوس أعادونا الآن إلى ما هو أسوأ من العبودية، كما حددها ماركس، وكما عاشتها البشرية سابقا. فكان العبد المسكين يقدم جهده العضلي ومعها كرامته وكرامة عائلته مقابل أن يحصل على اللقمة التي توفر له العيش والبقاء مثل الحيوانات الأخرى. أما الكاتب العراقي – ووفق رؤساء التحرير الجدد – فهو أقل من عبد وأدنى من رق. فهو يُقدّم جهده وعرقه ثم يُركل على مؤخرته الظامرة أصلا بلا لقمة ولا رغيف ولا أجر. فأي عبودية رذيلة هذه .. والمصيبة المضافة هي أن هذه المهانة تتم بموافقة الكاتب العراقي والأغرب بحماسته لاستقبال المهانة.
هذه – أيها الأخوة – هي العبودية الثقافية العراقية الجديدة …
حسين سرمك حسن: ثقافة المتناقضات ؛ العبودية الثقافية الجديدة
تعليقات الفيسبوك
اذا كانت النغمة المعهودة تتناغم مع ظواهر المناخ ( بالمفهوم العلمي ) فمن الطبيعي أن تكون الهشاشة والاستحواذ على الجهد سمة الأدعياء ، وحالة الكاتب لاتخرح اليوم عن بؤس المشهد الثقافي بفقره وتقاطعاته وتقليعاته .