النصوص الشعرية المكتوبة او المقرؤة (نصوص متعددة الدلالة .. مفتوحة بلا قيود ) كما يقول رولان بارت ..وهذا يعني انها ذات كفاءة تأويلية كونها نشاطا فكريا جماليا تسمح بمساهمة المتلقي لادامة زخم المعنى ..
والشاعر سركون بولص الذي دخل الساحة الشعرية من بابها الضيق بهدوء وعشق حتى الوله ..مع وعي لوظيفة الكلمة بعد ان كان عضوا فاعلا في جماعة كركوك.. مدركا لعبة الشعر السحرية.. فكان شعره شعر مساحة تحتضن كل الانفعالات الانسانية .. لادراكه انه الحياة والوجود.. فيمزج في صوره بين ما هو حسي وما هو خيالي مستعينا بقدرته اللغوية وحسه التجديدي وثقافته المعرفية .. لذا كانت قصائده تتسم بالعمق الايقاعي مع تنوع موسيقي ينبعث من داخل الكلمات.. كونه يبني قصائده على طريقة اللوحة واستخدام المونتاج السيمي حيث تتابع الصور وتداخلها ..
ذات يوم يفرغ البلد
ذات يوم لاتبقى سوى الاسلاك
التي مدها الغزاة
ذات يوم تبدأ الصحراء بالاقتراب
الريح وحدها
تنزل وتنزف كالآم وتصرخ
فالرؤية الشعرية للشاعر تتصل بطبيعة نفسه المغتربة وتكوينه النفسي والفكري وظروف حياته.. فسركون بولص يقول ( لاني خرجت من بلادي في مرحلة مبكرة اصبح الزمن نوعا من المعضلة كان علي ان احلها .. فالزمن يمضي والاحساس به يزداد .. كان باعث التكثيف في كتابي الاول الرعب من الزمن .. رعب من ان لا اتمكن من العودة ..)
ففي قصائده عودة للنثر والانقطاع عن التفعيلة مع تركيز على بيئة واطلالات على معاناته..
اجمع نفسي
عارضا وجهي للبرق
وانا اهذي بانتظار ان تتركني الموجة
على شاطيء مجهول.. مقيدا الى حجر
وهكذا انطلقت كتاباته الشعرية معبرة عن احاسيسه وافكاره وما يختمر في ذهنه .. بلغة متدفقة بهواجس الغربة والتشرد وضياع الذات .. ففي مجموعته الشعرية (الوصول الى مدن ابن..) يصور ذاته وهي تتجول في عوالم الغربة ومن ثم معانقة الوطن في حلم اليقظة ..
اصل الى وطني بعد ان عبرت
نهرا يهبط فيه المنجمون
بالآت فلكية صدئة
مفتشين عن النجوم
او لا اصل الى وطني
هذا يعني ان الشاعر ظل معانقا ظلال وطنه باحثا عنه في كل الزوايا والوجود عبر قصائده التي لا تمنح نفسها بسهولة بل تظل تبحث في التأويل كونه يمتلك رؤية مليئة بالخيال والمباغتة فيجرنا للغوص في مفرداته التي اختمرت في لاشعوره ليهيمن على ذهن قارئه .. فالفعل الشعري عنده متخلق في هيئة ايقاع داخلي متدفق يولد جملا شعرية تحقق الرؤيا والتخيل وعالم الحلم الذي يرتبط بالواقع كونه احد افعاله .. لذا فهو يكرس نفسه في خدمة القضية الفنية بشكل يوازي قضية المضمون في بناء الصورة الشعرية المعمقة الهادئة بدفقها الذي يحمل عبر اللغة ثنائية التضاد بالصور ليعمق التناغم في الافكار .. لذا كان ظاهرة شعرية تجاوزت الزمن ..
فصوره الشعرية تتشابك فيها الدلالات الفكرية والعاطفية في لحظة من الزمن كما يقول ازرا باوند .. فالصورة الشعرية عنده تبدأ فكرة بفعل تجربة ,, والنص الشعري اتساق منظم لصور جزئية يفضي كل واحد الى الآخر..
سركون بولص شاعر له طريقته الخاصة في التصوير والتعبير لبناء قصائده ..فيختار زاويته التي يرى من خلالها الاشياء .. وقاموسه الشعري الذي يتميز بتفرده من شعراء جيله بقدرته على الغوص الى اعمق وادق الخفايا وتصوير الافكار والتقاط اعمق الاسرار من باطن التجربة ونسجها باسلوب درامي مع تلوين فضاء نصوصه بمسحة من الانفعالات الوجدانية الناجمة عن صراعات مريرة ..
في وسط الساحة
سقط الرجل على ركبتيه
ـ هل كان متعبا الى حد ان فقد القدرة على الوقوف؟
ـ هل وصل الى ذلك السد حيث تتكسر موجة العمر النافقة ؟
ـ هل قضى عليه الحزن بمطرقة يا ترى؟
ـ هل كان اعصار الالم ؟
فالشاعر يشتغل على قصيدة السيناريو والحكاية بحيث خلق نصا مؤثرا ذا نزعة نقدية لجملة من الظواهر المضادة للوجود الانساني ..
في وسط الساحة
سقط الرجل فجأة مثل حصان
حصدوا ركبتيه بمنجل
سركون بولص يشتغل في نصه الشعري على مستويين متوازيين هما : الصوتي والدلالي متخذا من الموسيقى الداخلية مقاسا لشعريته .. فاختراق اللغة بابوابها ساعيا لايجاد لغة تحمل ملامحا ورؤى متكاملة التجسيد بتوزيعه للعناصر الوظيفية عبر لغة شعرية متوازنة الجمال ..
افتح كتاب الزمن
باصابع مرتجفة .. واقرأ
ها هي حياتك مشدودة من شعرها
الى وتد الايام .. كأنها امرأة
تريد ان تبوح لك بأول الاسرار وآخرها
سركون بولص بتشكيلاته اللغوية والصورية ينتقي مفرداته التي تنطوي على (جوع للاشياء الغريبة) كما يقول سان جون بيرس.. كون الموجودات لاتعرف السكون…