* كاتب وأكادبمي عراقي مقيم في إسبانيا
كان محمود جنداري يقرأ ملحمة جلجامش مرة في كل عام، وظل حلمه في أن يتمكن ـ ذات يوم ـ من سَد تلك الفراغات التي ظهرت فيها بسبب كِسَر الألواح المفقودة. وهكذا فإنه لمن الطبيعي أن يحمله الاشتراط المسؤول ـ تجاه تحقيق هذا الحلم ـ إلى محاولة إعادة إبداع تاريخ بلاد الرافدين منذ الخليقة؛ ما قبل الطوفان وما بعده، وبالطبع فإنه لم يفعل ذلك بتقمصه لدور المؤرخ ولكنه تقمص التاريخ كذاكرة حية وفاعلة، وبما أن بنية الترتيب في الذاكرة غالباً ما تكون انتقائية في إعطاء الأهمية والأولويات لمحتوياتها وفقاً لمؤثرات كثيرة منها: طبيعة الرؤية وحال العلاقة بالحاضر فإن الترتيب الزمني تقل أهميته ولهذا كان يقول:”إن السنين ليست معضلة ولكن ما أفرزته هذه السنين”.. وهذا تماماً ما فعله في قصصه الأخيرة:(زو؛ العصفور العاصفة، مصاطب الآلهة، القلعة، عصور المدن، العصور الأخيرة) التي أعتقد بأنها أفضل ما كتب جنداري، وإنها الكتابة التي كان يريدها منذ البداية عبر مناداته الدائمة بما يسميه بـ “المحلية الخلاقة” ولذلك فإنها قد جاءت كنتيجة منطقية لمجمل مسيرة تجربته القصصية التي هي ـ بالبداهة ـ نتاج لطبيعة تفكيره وحياته الشخصية، حيث لم يعش جنداري خارج العراق ولم يسعَ ولم يفكر أو يرغب بذلك أصلاً ـ على حد معرفتي الشخصية به ـ بل وحتى في عيشه داخل العراق لم يبتعد كثيراً عن مسقط رأسه؛ قريته (الجُميّلة) التي تلتحم ببلدة (الشرقاط) وبين بيوتها تنتصب قلعة آشور.. وهكذا فإن مواطنته التامة الدائمة، طوال حياته، لمكان واحد جعلته يبدأ بالتعرف على سطحه أولاً ومن ثم الغور في أعماقه عبر الحفر في استقصاءات تواريخه، فكانت قصصه الأولى في مجموعتيه (أعوام الظمأ) و(الحصار) تصور بيئته الريفية أو ما اصطلحنا له هنا بسطح المكان، ومع أنها كانت تطرح هذا السطح بتفاصيل حياته الحاضرة من إنسان وطبيعة وأشياء وعلاقات إلا أن بعضها كان يحمل إشارات تاريخية محددة، استُخدمت لصالح إضاءة أحداث الحاضر، مثال ذلك ما جاء في قصتيّ (الوحل) و(حدث في عام الفيل) ثم أخذت هذه التوظيفات التاريخية بالزحف على مساحات أوسع في نصوصه، كما في قصص: الدغل، التاريخ السري، الشاحنة، حالة تاريخية.. وغيرها. إلى أن احتلتها في النهاية بشكل كامل عبر قصصه الأخيرة فأصبح التاريخ هو مادة كتابته ـوالتي يمكن تأويلها بأشكال مختلفة، فيما سأقرأها هنا من حيث مفهوم المكان ـ. محمود جنداري لا يفعل ذلك هرباً من الواقع أو ضجراً منه كما فعل فلوبير حين كتب (سالامبو) قائلاً:”أنا ضجر جداً من الأشياء القبيحة والبيئة القذرة، إن بوفاري أقرفتني بأخلاق برجوازية إلى فترة قادمة من الزمن، إنني ربما سأعيش عدة سنوات داخل موضوع رائع بعيداً عن العالم العصري الذي أنا مشمئز منه حتى الأعماق” فوصف جورج لوكاش ذلك على أنه نموذجاً لأزمة الواقعية البرجوازية1. إن جنداري على العكس من ذلك تماماً لأن عودته كانت بدافع طلب المزيد من المعرفة عن البيئة التي يحبها وذلك عبر التعرف على الماهية التي تشكلت منها قائلاً:” أنا أحب بلدي العراق، أنا محلي، قلباً وروحاً وفكراً وتطلعاً، أنا مفتون بتاريخ العراق، إلى حد أنني بدأت أرى العالم من خلال العراق، أنا محلي وسأظل كذلك..”2.
في قصة “زو العصفور العاصفة” يبدأ جنداري بوصف الكون قبل الخلق:”فراغات كونية هائلة، فراغ إلى جانب فراغ، مستباحة بالريح، مسكونة بالظلام” وعند التناول غالباً ما يقدم المكان على الزمان:”بدأت المدن تظهر/والأزمان تنضج/ والحقب تتحدد بعلاماتها” و”عند قيام العالم حيث الزمن لم يبدأ، قال الإله سأجلس هنا وأسمي لكم هذه البشرية… فجلس وأمر بأن تمر الأزمان فأذعنت الأزمان وأخذت تمر”. وحين يبدأ الخلق لا نجد مكاناً آخر يتحدث عنه إلا بلاد الرافدين، الآلهة هناك والبشر والدواب والأنهار والجبال والغابات والمدن، ففي هذه القصة وحدها يرد ذكر أكثر من ستين مدينة؛ “عند كل خطوة تنهض مدينة” وعندما يذكر أمكنة أخرى في غير أرض الرافدين إنما لعلاقتها بهذه الأرض، فالسماوات وصراعات الآلهة والحضارات التي تنهض وتسقط وكل الكون في الرافدين حيث الإله الأول آنو “الجالس على منصة التسلط” “قال سأجلس هنا وأرقب قيام العالم ومروره”.. “أراد أن يحك قدمه اليسرى ولكن جريان العصور جعله يواصل النظر إلى مرور العالم. أُعطي الدور لطبقات شمشارة وحسونة وسامراء والشرقاط و… /شمالاً/ ثم انحدرت نظرته جنوباً فصار يرى أريدو وفنارات قلعة الحاج محمد، صار يرى اتساع خيط الفجر”. القصة كلها مكان والمكان كله العراق وما له صلة به، ولا تكاد جملة واحدة تخلو من دلالة مكانية. الحياة للمكان والموت لما سواه، وليس ثمة وجود لكائن بلا مكان، المكان هو كل شيء والآلهة والإنسان والأحياء في خلاصتها هي تراكمات مكانية، إذا ما اعتبرنا حتى الرسوم والكلمات التي يخطها الإنسان تحتاج إلى تجسيد مادي/ مكاني يُبقيها، كألواح الطين والجلود وغيرها. وهذه هي الرؤية ـ التي يتم التوصل إليها ـ لإشكالية الوجود، فالآلهة تحتاج إلى من يعترف بوجودها، ألا وهو الإنسان المحكوم عليه بالموت والذي بدوره يبحث عن حل لمعضلته، عما يديم به وجوده ويقهر الموت، فكان جلجامش الذي بحث عن الخلود فلم يجد له جواباً إلا في تعمير المكان، وحتى الآن لا جواب سوى هذا.. جلجامش الإنسان.. جلجامش العراقي الذي يسجل الإجابة حتى تصل إلى حفيده جنداري.. هكذا إذاً يمثل التاريخ ذاكرة حية فاعلة، كما يشكل رؤية خلاصتها المكان، وما سواه هامشي زائل، وخلاصة لنوع علاقته بالمكان. ليس ثمة اعتبار للزمن ولا للإنسان ولا لأي شيء إلا بمقدار ما يتركه في المكان، من هنا تتموضع الرؤية وتفرض لنفسها شكلها القصصي المنسجم معها كما فعل جنداري وتكون الحبكة وفق ما وصفه ليفي شتراوس حين اعتبر أن القصة تمثل الإسقاط السياقي لشبكة من العلاقات الاستبدالية، فيقدم جنداري ويؤخر الأزمان أو يوحدها حين يرى تطابق المغزى التاريخي، فيذكر أريدو وقلعة الحاج محمد في زمن واحد، وهو لا يقتصر على أخذ التاريخ القديم فحسب وإنما يمزجه بتاريخ الإسلام والتاريخ الذي رواه الإسلام “تضايق آنو وخفت نوره ولبس نعليه من على منصة التاريخ وقال: اجعلوا من هذه مبولة/ وهم بالنهوض ولكنه لمح آدم وزوجه يُطردان من الجنة”.. فمع أن آنو هو الإله العلي والرب الأول في ثالوث الآلهة الأول وفق الميثولوجيا، إلا أنه هنا “يلمح طرد آدم وزوجه من الجنة” فيما كان جالساً بلا سابق معرفة له بذلك..! بعدها تأتي عبارة لا إشارة إلى مصدرها بالتحديد تقول:”وأخرجوا آدم/نحن خلقناه فلنر ماذا سيفعل”.. وكان الذي يجر آدم مطروداً يسمى “بن شحر” والذي يسلم (الكتاب!) المُبَلّغ بالطوفان إلى “آتونابشتم” يسمى “رافائيل”.. وفي القصة تغيب الشخصية الرئيسية/البطل/ الإنسان، لا ذكر لأزمنتها المعقولة أو لجوانبها النفسية إلا بمقدار فعلها في المكان = الخلاصة، التي ستمكنه من حفظ اسمه للذكرى كمكافأة لنتيجة ما استطاع فعله أو قوله، فترد أسماء مجردة مثل رموز لمفاتيح صفحات في ذاكرة الكمبيوتر، نختار منها ما نريد ومتى ما نريد بلا اعتبار لترتيب مرورها الزمني في التاريخ:”إدريس وذو الكفل وعوج بن عناق والعماليق وكل البهاليل المنتشرين على وجه الأرض كما الجدري؟.. ما المتنبي والنفري والغزالي وأبو العلاء والأسماء الحسنى التي لا تنفر منها عشائر الكنعانيين؟”.
تصف المستعربة الإسبانية لوث غارثيا كاستينون القاص محمود جنداري بقولها:” يتميز هذا الكاتب بملاحظته للأشياء من خلال داخله، محاولاً إعادة تشكيلها بواسطة وجهة نظر جديدة، وعلى العكس من كتاب آخرين فإن جنداري لا يُغرق قارئه بغزارة التفصيلات الوصفية” وتضيف:”إن قصص جنداري هي نماذج صامتة ولكنها قاسية وتصر على وضع الإنسان في عالم مغامر يفرض عليه الكفاح بلا تعب”3. وهذا تماماً ما يفعله جنداري وبشكل خاص في قصصه الأخيرة، حيث يكثف لنا الذاكرة والحاضر لاستشراف الرؤية، رؤيته هو بعد تمثله لكل ذلك، يقدم لنا تاريخ الخليقة في قصة قصيرة لا تتجاوز مساحتها بضع صفحات، مليئة بالأسماء والرموز وبلغة شعرية تكتفي بما هو ضروري وجمالي وإيحائي فحسب، وإذا كان جنداري في قصص مجموعته (الحصار) قد تعمد الوضوح ونحى الرمز جانباً واستبدل التلميح بالتصريح وسمى الأشياء بأسمائها، فإنه لم يفعل ذلك في قصصه الأخيرة وربما مجبراً أو مستجيباً لإغراءات غنى المادة التي يعمل عليها فزرعها بعشرات الرموز التي شكلت بدورها عاملاً مساعداً لما يتوجب عليه من تكثيف أنجزه، أما إيقاع القص فيسير على وتيرة واحدة منذ البداية وحتى النهاية، حبل مستقيم تُعلق عليه الأحداث المترابطة بعلائق مكانية تحمل في طياتها الانزياحات السردية من حدث إلى آخر ومن مشهد إلى آخر، وقد حال تكثيف الأحداث وغزارتها دون السير بخط سردي إيقاعي متصاعد، له بداية وذروة ونهاية فلا نية لاستغلال انفعال القارئ لأن الأهم من ذلك هو عقله.. إن جنداري حين يكتب قصته بهذا الشكل منسجماً مع متطلباتها الموضوعية، يبدو كمن يُشيد قلعة تاريخية وحاضرة أمامنا، صامتة كما هي صفة المكان الذي لا ينطق ولكننا نحن الذين نقوم باستنطاقه وفق طبيعة رؤيتنا له، أي أن صوته سيكون في داخلنا نحن، وكلما أطلنا التأمل وتبديل زوايا النظر إليه، كلما اكتشفنا فيه أشياءً جديدة، إذاً فنص جنداري ليس من تلك النصوص التي لا تحتاج لأكثر من قراءة واحدة، وإنما هو نص سيعطي أكثر كلما أعدنا قراءته ويتطلب منا أحياناً الرجوع إلى معرفة خلفياته التاريخية، معرفة بسلالات الآلهة وتاريخ الحضارات والجغرافية ودلالات الأسماء والإشارات، فهو وإن يبدو نصاً مستقلاً له كيانه وبنيانه وأنساقه المكتفية بذاتها، إلا أنه سيعطينا أكثر كلما أعطيناه أكثر عبر معرفتنا بالنصوص السابقة التي تم التناص معها في هذا النص. إنه نص لا يُعرف لنا نفسه بيسر لأنه يطلب منا نحن التعرف عليه، ليعرفنا هو ـ في النهاية ـ على أنفسنا بشكل أعمق. ذلك أن جوهر كل وظيفة هو بذرتها التي تتيح استنبات عنصر في القصة يكتمل نضجه فيما بعد، كما يقول رولان بارت. وأعتقد أن هذه هي إحدى السمات الأساسية لرسالة الثقافة والفن. وكما هو معروف فإن الأدب هو الحقل الأخصب لإنبات الفلسفة التي هي جوهر الإنسان في رأي ابن رشد. والأدب الخالد هو الذي يحمل بين جوانبه هموماً فلسفية والتي من أولياتها؛ إشكاليات الوجود الإنساني والأسئلة الأولى وكيفية فهم الحياة. قصص جنداري الأخيرة أصنفها من هذا النوع من الأدب، وإن استعارت أسئلتها وأجوبتها إلا أنها، مع ذلك، لم تلجأ إلى استعارة افتعالية غريبة عن ذاتها. ذلك لأنها قد قامت بصياغة تاريخها وفهمها الخاص الذي ورثته في وطنها وسعت إلى بلورته مرة أخرى وإحيائه، بل واجتهدت عليه أحياناً، كما نرى ذلك في طبيعة طرحها للحضارات وتواليها وفي طبيعة فهمها لأسطورة الطائر زو. فجنداري، كما أسلفنا، لا يلتزم بحرفيات الحقائق التاريخية بقدر التزامه برؤيته هو لها وتوظيفها لصالح هذه الرؤية؛ “تظهر بابل من الظلمة إلى الضوء وتحتفل بها الآلهة مائة ليلة كاملة، فترقص في هذه الحفلة عشتار، ومن الريح الجامحة يتشكل تنين ضخم في مقدمة جسده عضو رجل من نار، التف حول آلهة الشهوة فخصبها .. فباضت بيضة العالم”. قصص داخل قصص ـ ومكان يولد من مكان ـ من مراجع تاريخية متعددة ومن المخيلة. عالم غني بالصور الممتعة الساحرة التي تنقل الذهن إلى مناطق جديدة لم يتعرف عليها.. جديدة تماماً، تمنحه المتعة والحركة. بعد ألف عام سقطت بابل وكانت الشمس والإله الذي يتفرج ببرود على ثمان وتسعون من ملوكها يخوضون في الطين وسيوفهم صدئة، ثم “تظهر نينوى كما يظهر البرق واستوت على الأرض في قرنين” واختفت بعدها “من الضوء إلى الضوء وفيها.. واحداً وثمانين ملكاً، طغاة ومبدعون، قساة وعباقرة، شعراء وقتلة.. ثم تظهر لجش التي ستعاني هجمات غادرة من عيلام وسوسة، زحفاً نحو الضوء الأزلي المنبعث من الفراتين بابل.. ونينوى”. وهكذا يتابع جنداري ظهور الحضارات العراقية بلغة شعرية محملة بالدلالات عابراً “أحواض وبحار الدم”، ازدهارات هائلة وانحطاطات ساحقة، لكنها تتواصل، بل تعاود الظهور لأكثر من مرة، وحين تظهر آشور ـ فيما بعد ـ تسعى لإعادة بعث بابل من جديد. حضارات تتحدى الآلهة وإن قهرتها الآلهة، فقد حوّل الإنسان هذا القهر إلى إنجاز مكاني، مثلما يفعل مع قوة قهر الملوك لرعيتهم، مثلما حدث أن ملك أوروك لم يسمح لآلاف الرجال بزيارة زوجاتهم حتى إكمال البناء “فكانوا يصنعون في الليل ثقوباً من الجص الطري يبددون فيها طاقاتهم الجنسية فكانت أسوار أوروك تتصلب بأصلاب الرجال” بهذا الشلال من القص.. كأن جنداري يوحي لنا بأن الأزمة التي يعيشها البلد الآن والدم المسفوح إنما هو حال غير جديد وسوف يمر كهذا العدد الهائل من الأحوال التي مرت.. رفض وبث أمل في الوقت نفسه.. إنه يوم في عمر أو في عصر سيمر بكل ما فيه، لبنة أخرى من بين لبنات هذا البناء التاريخي الطويل العميق الذي ما هو في النهاية إلا تراكم آخر في المكان ذاته، المكان الذي سيشكل الذاكرة الدائمة للإنسان القادم الذي وإن وجد البناء مهدماً إلا أنه سيكون عامراً في ذاكرته يستحثه على المواصلة.
أما عن الطائر (زو) الذي اتخذ جنداري اسمه عنواناً للقصة، فهو وفق الميثولوجيا العراقية؛ إله صغير نصفه طائر ونصفه إنسان وهو الذي يسرق “ألواح القدر” من الإله الكبير أنليل، لأن من يمتلك هذه الألواح سوف يمتلك مصير كل شيء. ولكن أنليل يستردها، “وفي بعض الأختام والنقوشات القديمة أن الملك لوجال بندا هو الذي حطم زو وأخرى تشير إلى أن مردوخ هو الذي له شرف تحطيم رأس زو”4.. ماذا فعل جنداري في قصته هذه؟ أولاً أنه قد غير ترتيب الاسم بشكل بسيط ولكنه كبير ومهم جداً ويكاد وحده أن يكشف عما يفكر به جنداري ويرتأيه، فترجمة الاسم عن النقوش تكون كالتالي:”طائر العاصفة زو” أما جنداري فقد كتبه بهذا الشكل:”زو، العصفور الصاعقة” واتخذه الخيط الخفي والرمز الذي يريد، رغم ثانوية دوره في ترتيب الآلهة وقصة الخلق، ولكنه الانتصار للأضعف. بعد أن يسجل جنداري الوثيقة التاريخية القائلة بأن أنليل قد استعاد الألواح، وهذا في منتصف القصة تقريباً، يبتكر ويجعل زو دائم التربص واقتناص الفرص لتكرار سرقتها أكثر من مرة وفي كل مرة ثمة ثمرة مهمة لهذا الفعل، ففي المرة الأولى اختطفها “ووضعها في حِجر الآلهة ننسونا، فقدمتها مهراً للملك لوكالبندا ملك أوروك فتزوجها وأنجبت جلجامش صديق العصافير الذهبية” وفي المرة الأخرى “ينقضّ ـ زو ـ ليلتقط اللوح السادس والثمانون ويرميه في البحر/كان لوح الثقة.. والسلام/”.. وينهي جنداري القصة بزو أيضاً وهو يختطف لوح آرابخا (كركوك، التي عاش فيها جنداري أعوامه الأخيرة مفتوناً بها.. فهل في ذلك إشارة إلى ذاته هو متقمصاً زو؟). ويطير به “نشواناً من جبل إلى جبل”. وهكذا حين نتذكر بأن زو إله صغير نصفه طائر ونصفه إنسان ندرك بجلاء حرص جنداري على اتخاذه ثيمة وخلق تكرارات اختطافاته لألواح القدر التي تعني امتلاك المصير، بقي أن نشير إلى أن جنداري قد اتخذ من فحوى الأسطورة “زو” ثيمة ومرتكزاً لبناء القص فيما اتخذ من الأيام الأربعين لمطر الطوفان مرتكزاً لبناء الزمن السردي.
إن قصص جنداري الأخيرة تتطلب أكثر من قراءة مختلفة وعلى أكثر من صعيد، وكل قراءة سوف تُغنى بالنص مثلما ستغني هي النص، فالقراءة التاريخية مثلاً بمفردها ستحتاج إلى هامش كبير لتوضيح شبكة العلاقات الداخلية والحوادث والإشارات والأسماء والأماكن.. عندها سيكون كل التاريخ هامشاً للنص الذي كان أشبه بمحاولة لتلخيصه ومُضافة إليه مستجدات الرؤية، كذلك فإن قراءة الزمن أو الرمز أو البناء أو اللغة.. كلها ستقود إلى إحالات واسعة.
إن القصص الأخيرة لمحمود جنداري تشكل ظاهرة متميزة ومهمة في تجربة القصة العراقية بشكل خاص، كما تقدم انتصاراً جديداً للقصة القصيرة كفن مازال قادراً على أن يأتي بالجديد، وعلى تبيان قدرته في استيعاب الكثير من بعض أدوار الفنون الأخرى دون أن يتخلى عن كونه جنساً مستقلاً.
وفي الختام أقول: لو أن بورخس أو إيتالو كالفينو أو إمبرتو إيكو، هو الذي قد كتب هذه النصوص لانشغلنا طويلاً بتمجيدها ودراستها.. ولكن يبدو أنه مازال فينا شيئاً من أن “مطربة الحي لا تُطرب” وعليه فإنني أعود هنا للتذكير بشعار جنداري الذي كان يرفعه وهو (المحلية الخلاقة) وأدعو إلى العمل على دراستها بشكل أدق وأشمل.
هوامش:
1 جورج لوكاش؛ الرواية التاريخية. ترجمة: د.صالح جواد الكاظم، بغداد 1978ط1.ص267.
2 من حوار مع محمود جنداري في مجلة (آفاق عربية) العدد 11 تشرين الثاني 1989.ص126.
3 ص 151 من: Antologia del cuento iraki, Dra. Luz Garcia Castanon. Dar Al-Mamun. Bagdad 1988
س. هـ. هوكك، ديانة بابل وآشور. ترجمة: نهاد خياط، دار العربي/دمشق 1987 ط1. ص121.
*قصة (زو ـ العصفور الصاعقة) نشرت في مجلة (الأقلام) العراقية سنة 1988 عدد تشرين الثاني ـ كانون الأول، وفي مجموعة (مصاطب الآلهة) لمحمود جنداري الصادرة عن دار أزمنة في الأردن سنة 1996.