
يسعى الروائي سعد سعيد من خلال عمله الروائي ‘الدومينو’إلى بلورة نظرية عروبية معاصرة، ولا أود هنا استخدام مفردة القومية بسبب الحمولة الايدولوجية التي أثقلت كاهل المفهوم بما تراكم عليها من تطويرات دلالية جعلت المفهوم ينزاح نحو مسميات لا تمت إلى انطلاقته بصلة.
فقد شهدنا ولادة اشتقاقات مثل قومي وقوماني وقومجي (على سبيل التندر)، انتهاء بالتوأمة مع الشوفينية، ما يحاول سعيد انجازه هو الانخراط في جهد تأويلي يعيد للعروبة بكارتها الأولى من خلال إزاحة الطبقات والتكلسات التي تراكمت على المفهوم، ويمكن اعتبار هذا الجهد التأويلي مبادأة أولية قبل البدء في بلورة رؤية معاصرة للمفهوم، وهذا يشبه إلى حد ما مسح الطاولة تمهيدا لبناء جديد كما فعل ديكارت في منهجه الشكي المعروف، ولا يخفى على أي مهتم بالشأن القومي أن المشاريع القومية العربية رافقتها العديد من الإخفاقات والخروقات الخطيرة والتي أدت إلى خنق هذه المشاريع، كان آخرها السقوط المدوي للمشروع القومي في العراق، ولا يمكن الادعاء أن السقوط كان بفعل عوامل خارجية بحتة، فلقد انقضّت قوى محلية على هذا المشروع وأصابت منه مقتلا، ولا ادري كيف انتهى المشروع القومي في العراق إلى استعداء بعض القوى والطوائف المحلية، هل أن المشروع انزاح نحو الشوفينية كما يقول منتقدوه، المهم أن الفكر القومي بحاجة إلى مراجعة شاملة والى إعادة إنتاج والكشف عن العناصر القاتلة التي أودت بهذا المشروع.
أود منذ البدء المصادرة على السؤال أو التساؤل حول قدرة وجدارة الفن الروائي للإيفاء بمتطلبات هذه المهمة الكبيرة التي ارتد عنها الفكر وهو حسير، فالرواية كانت على الدوام ومنذ انطلاقتها ناطقة ومعبرة عن كينونة الإنسان، هذه الكينونة التي أهملتها الفلسفة طوال تاريخها، ولكن الرواية ومنذ سرفانتس تمشكلت مع كل القضايا التي فرت منها الرواية فرارا شائنا، فنحن ندين لبلزاك في إثبات كم أن الإنسان متجذر في التاريخ، وندين لدوستويفيسكي بمعالجة كل القضايا التي ترتبت على موت الإله وانسحابه من الكون، وندين لتولستوي في الكشف عن الجانب اللامنطقي واللامعقول في الإنسان، وأوّد التصريح منذ البدء أن الدومينو بأكملها تنخرط في الجهد التأويلي دون الانتقال إلى بلورة نظرية جديدة في العروبة، فربما يروم سعيد طرحها في عمل روائي آخر، وفي ما يخص مسألة التجنيس فسوف ندع الحديث عنها مؤقتا والتضامن مع الكاتب حول مسمى الرواية لعمله السردي.
إلى أي الأزمان ترجع فكرة العروبة في بواكيرها الأولى، السؤال حاضر ومتمدد على جلّ مساحة النص، والأجوبة متنوعة ومتضاربة، وسعيد يلجأ إلى عملية الرفع – بالمفهوم الهيغلي للرفع – أي الارتفاع إلى منطقة أعلى من التناقضات حيث ينحل التناقض، وعملية الرفع عند سعيد تتمثل بالرجوع إلى الشخصية المحمدية بوصفها أول تأسيس حقيقي لفكرة العروبة وأول تجسيد لها في التاريخ، حيث ظهر العرب كمجموعة بشرية لها هويتها وملامحها مقابل الأقوام الأخرى. يستنجد سعيد بفكرة المنظور المستعملة في فن الرسم، ويحاول ان يكشف عن نقطة التلاشي والتي هي ابعد نقطة يمكن للعين ان تقتنصها في الأفق، والإنسان الأوروبي يعتبر اللحظة الراهنة هي منطلقه نحو الماضي، أما سعيد فانه يصرح بأنه سوف يبدأ من نقطة التلاشي في سعيه إلى تأصيل مفهوم العروبة والكشف عن بواكيرها ومنطلقاتها، ويصرح بكل وضوح أن النبي محمد هو نقطة التلاشي في المنظور العروبي، بالطبع المقصود هو محمد الرمز الذي طبع حضارتنا بطابعه في سعيها الدؤوب إلى السير على نهجه، وهذا يشبه أن تكون نقطة التلاشي بالنسبة للشعب اليهودي هي شخصية إبراهيم، وسواء انتسبوا له حقيقة أو تزويرا من المنظور التاريخي فان سيرة إبراهيم قد طبعت التاريخ اليهودي بطابعها باعتباره المؤسس الحقيقي لهذا الشعب، فقد بقي اليهود آلاف السنين لا يؤمنون بالوطن القومي المرتبط بالجغرافيا لان عراب حضارتهم نبذ الوطن وثقافة الوطن وآلهته ودينه وذهب في الأرض سائحا منكرا كل انتماء للأرض، وكان هيغل هو أول من تنبه إلى هذه المسألة واعتبر إبراهيم هو المؤسس الأول للمجموعة اليهودية. هنا يحذو سعيد حذو هيغل ويعتبر محمد هو المؤسس الأول للمجموعة البشرية التي ستعرف بالعرب، هكذا يختار سعيد اللحظة المحمدية كلحظة ولادة حقيقية لمفهوم العروبة، في سعيه الدؤوب إلى تكريس حضور المجموعة البشرية التي ينتمي إليها ويمثلها وايجاد متسع لها في الزمكان الحضاري كان لا بد لمحمد أن يصطدم بمجموعات بشرية تشغل نفس الحيز الزمكاني والذي لا يتسع لأكثر من مجموعة واحدة ذات مشروع حضاري، اصطدم محمد باليهود على الفور كمشروع حضاري منضج يمتلك كياناً ثقافياً مستنداً إلى كتاب سماوي هو التوراة، ولهم حضور اجتماعي اقتصادي قائم على النشاط الصيرفي. ابتدأت فكرة العروبة بالتبلور من خلال التضاد مع اليهودية، او ما يمكن تسميته التعريف والتحديد بالسلب، فجاءت الإجراءات المحمدية بحق اليهود لا هوادة فيها، لأن محمد أدرك بفطنته وبداهته أن لا قيام لأي مشروع عروبي في ظل وجود بشري يهودي، فخالفهم في السبت ووضع الجمعة كيوم راحة مقدس، وخالفهم في أساس نشاطهم الاقتصادي عندما حرم الربا تحريما قاطعا عادا إياه من الموبقات شأنه شأن الزنا والقتل، وبهذه الخطوة استطاع ان يقضي على أهم مقومات القوة لديهم، ثم اتضح لاحقا أن محمد كان جذريا في هذا النزوع المضاد لليهود عندما صرح بكل وضوح وبلا أدنى مواربة لأصحابه أن يخالفوا اليهود في كل شيء. كان يصرح لأصحابه أن لا يفعلوا كذا وكذا لان اليهود تفعل ذلك، هذا التحديد المبكر للعروبة بوصفها تضادا مع اليهودية يكرسه سعيد داخل النص مما يشي بأنه قبض على السر الذي أوردناه قبل قليل، فنشاهد مساحة كبيرة من النص تتحدث عن هذا التضاد من خلال الحوارات ومن خلال الاستطرادات التي ترد على ألسنة الشخوص في سياق تطور الأحداث وفي مختلف أزمان الروي .
وإذا كانت نقطة التلاشي قادتنا إلى يثرب داخل النص، فان اللحظة الحاضرة في الدومينو تقودنا إلى القدس في العام 3000 حيث يكون الصراع قد حسم بالكامل لصالح العرب وأصبحت القدس الكبرى (القدس الحالية مع ما يجاورها من مدن) عاصمة الدولة العربية العظمى، ونحن نعتقد أن سعيد كان موفقا للغاية في تسليط الضوء على الآخر اليهودي المختلف والذي شكلنا ‘انانا’ العروبية من خلال الاختلاف عنه، وسوف نورد في السياق الأفكار الهامة التي أوردها سعيد عن اليهود والتي هي أفكار هامة على المستوى التاريخي، وهو بالتأكيد استقاها من مصادر تاريخية عربية وغير متأثرة بآراء المستشرقين ومتحررة من أكاذيب التلمود وكتابات المؤرخين اليهود.
هكذا يؤكد سعيد أن المشروع العربي ومنذ نشأته ظل في حالة صراع مع المشروع اليهودي، ويصادر على كل الآراء التي تقول بإمكانية التعايش بين مشروعين قائمين في وقت واحد هما المشروع العروبي والمشروع اليهودي، وهذه الحقيقة ترتقي عند سعيد إلى مسلمة عقلية مستمدة من مبدأ عدم التناقض الأرسطي احد قوانين العقل الثلاثة، حيث يقرر المنطق الأرسطي انه لا يمكن لشيئين أن يتواجدا في نفس الحيز في وقت واحد، والبرهنة على هذه المسلمة سوف تستغرق كل مساحة النص، هكذا يبدو الأمر صادما عاريا واضحا، إما نحن وإما هم، ولا يوجد في التاريخ أي دليل يخطئ هذه المسلمة، وهنا يبدو التساؤل حول التعايش العربي اليهودي تساؤلا مغلوطا ومتناقضا لان الجواب عليه موجود وحاضر في المسلمات والمقدمات المنطقية. دعنا نقدم هذا المثال من الرياضيات، إذا افترضنا أن (س) هو عدد فردي فلا يحق لنا التساؤل مستقبلا لماذا لا يقبل القسمة على اثنين، هذا التساؤل مرفوض لأننا بالأساس افترضناه وصممناه فرديا لا يقبل القسمة على اثنين، وهكذا هو الأمر بالنسبة للعروبة، لقد صممها مؤسسها الأول كمضادة لليهودية فلا يحق لنا الحديث عن أي تلاقي مع اليهودية، هكذا افهم الأمر كما ورد في ‘الدومينو’.
المشروع المحمدي كان مشروعا بيانيا، فالمشروع المؤسس (بكسر السين) للحضارة العربية كان هو النص القرآني، وبقيت حضارتنا العربية طوال الأربعة عشر قرنا الماضية حضارة نصوص، ولقد أسهب الجابري في توصيف الطابع البياني للعقل العربي في تقسيمه الشهير للعقل العربي إلى بيان وبرهان وغنوص، وأشار إلى أن الغنوص كان مستوردا من الفرس والبرهان مستوردا من اليونان، دعنا نفترض أن مبدع ‘الدومينو’قد أعادنا إلى نقطة التلاشي، فهل يمتلك القدرة على صناعة نص مؤسس لمفهوم العروبة؟ هل يمكن اعتبار ‘الدومينو’نصا مؤسسا؟ وهل أن المتلقي العربي يمكن أن يتقبل نصا مؤسسا بمواصفات بلاغية متدنية وسط قصور بلاغي يعترف به مبدع النص في الفاصل النثري الذي يفصل القسم الأول عن الثاني داخل العمل؟ ونراه يقف حائرا أمام الكلمات التي تأبى أن تنصاع له فيصرخ قائلا:
خائنة هي الكلمات
منحتها صداقتي فأعطتني أوهاما
وهبتها عمري فبادلتني كلاما
.
.
.
.تعطي قيادها لمن تهوى
ولا تعطيه لمن يهواها
.
.
هزيلة ركيكة جامدة هي كلماتي
ولكني إذ أضعها أمامكم أقول
لا تهتموا لرثاثة جملي
ففي الأبدان النحلة الهزيلة
تكمن اصدق المشاعر
وأنقى القلوب
وإذا كان نص ‘الدومينو’لم يتضمن لغة بلاغية عالية فانه بالمقابل احتوى نثرا دقيقا يقترب من التعبير العلمي الذي يذهب إلى هدفه مباشرة دون لبس او غموض ويمتاز بالصدق والمكاشفة دون أي مواربة في انزياح واضح نحو التعبيرية التي توظف كثافة المشاعر والأحاسيس كعنصر رئيسي في العمل الأدبي بعيدا عن التزويق الشكلي، ونستطيع القول بثقة أن هذا اللون من النثر قد وفق تماما في انجاز المهمة الموكلة له دون أي قصور، ونلحظ وجود مساحة هامة داخل العمل للمعارف التاريخية والعلمية والسياسية والاجتماعية، وأحيانا ينخرط النص في حوارات معرفية مطولة كتلك التي نشاهدها في روايات الأفكار، ولكن بالطبع لا يمكن نعت ‘الدومينو’برواية الأفكار لأنها تختلف في منطلقاتها، فمساحة البوح تطغى على الأفكار في جل مساحة النص، علاوة على أن الدراما الروائية حاضرة في بنية العمل في قسمه الثاني، كما أن صناعة التخييل في القسم الأول تؤهل العمل للدخول في جنس الرواية بجدارة، بالإضافة إلى وجود عدة خطوط درامية متداخلة والذي يعتبر شرطا أساسيا في أي بنية روائية، ونحن بالطبع لا نروم محاكمة العمل وفق الاشتراطات الكلاسيكية في الرواية، فالعمل يطور شكلا جديدا إلى حد ما، والمعارف الواردة في العمل وبكثافة تزيد من قيمة العمل وتتوافق مع التوجهات الحديثة في صناعة الرواية، ونحن نستشهد دائما بروايات كونديرا التي تخالها احيانا أشبه بالبحث العلمي، ولكن بالطبع تبقى كافة المعارف العلمية والحوارات المعرفية التي وردت في ‘الدومينو’مكرسة من اجل الثيمة الرئيسية وهي بلورة نظرية عروبية معاصرة، وهذه المعارف معجونة مع الأحداث الدرامية بشكل مبدع وفني لا اعتراض عليه، وربما جاء الشكل الروائي لـ ‘الدومينو’صادما ومفاجئا للذائقة الروائية العربية، ولكن أي قارئ متمرس للرواية بكافة أطيافها يدرك أن ‘الدومينو’تنتمي للجنس الروائي مع تجديدات واعية ومقبولة ضمن هذا الجنس، كما أن البعض استهجن كل هذه المساحة المخصصة لليهود والمنتشرة في كامل فضاء النص، ولكن ضمن الرؤية التي قدمناها والتي تتلخص في انخراط العمل بتقديم نظرية عروبية يبدو هذا الأمر منسجما تماما مع الثيمة الرئيسية وداعما لها، ونذكر أن القرآن هو الآخر خصص مساحة كبيرة للحديث عن اليهود وبني إسرائيل لأنه جاء كبيان تأسيسي لجماعة قومية جديدة تبحث لها عن مكان تحت شمس الحضارة التي يحتلها اليهود، ولو صنفنا الآيات والسور التي تتحدث عن بني إسرائيل واليهود لذهلنا من كثرتها وتنوع ووفرة الأحداث والقضايا التي تناولتها.
إن القسم الثاني من ‘الدومينو’سوف يحتوي على كل البذور والإرهاصات التي ستقود إلى قيام الدولة العربية العظمى بعد ألف سنة، القسم الأول تدور جل أحداثه في مطلع الألفية الرابعة بعد أن أصبح العرب القوة العظمى في العالم، ولكن زمن الأحداث في القسم الثاني هو مطلع الألفية الثالثة عندما كان العرب في الدرجات السفلى من السلم الحضاري الإنساني، والقسم الثاني بحاجة إلى دراسة متأنية لفهم عناصر القوة في البنية الحضارية العربية التي ستؤهلها لبناء مدنية متقدمة بعد ألف سنة، ونحن بالطبع يصيبنا الإحباط من طول هذه الفترة الزمنية، فالحضارة الغربية نهضت خلال ثلاثة قرون وتسيدت العالم المعاصر، والجواب على ذلك سيكون متضمنا في القسم الثاني من العمل.
يحتاج القسم الثاني إلى دراسة اجتماعية او نفس – اجتماعية لكشف كل عناصر القوة بالإضافة إلى عناصر الضعف في البنية الاجتماعية، فقد قدم المؤلف لوحات معبرة وصادقة تتصل اتصالا وثيقا بالمنظومة الأخلاقية السلوكية عن طريق رواية قصص نزلاء السجن المركزي في العاصمة حيث يعمل الراوي كمرشد نفسي. ومع أن القصص السابقة لا تنضوي تحت حبكة روائية واحدة إلا أنها قدمت في مجموعها توصيفا ممتازا للنشاط الاجتماعي والحضاري للمجموعة البشرية والتي ستصبح لاحقا القوة الأولى في العالم.
إن هذا الشكل الروائي الذي لقي استهجانا من بعض النقاد والقراء لم يكن جديدا في الإبداع العراقي، فقد سبق للكاتب العراقي خضير ميري أن اصدر رواية ‘أيام الجنون والعسل’ والتي تضمنت فصولا غير مترابطة يتكلم كل فصل عن قصة احد نزلاء الشماعة والتي تقدم مجتمعة توصيفا لمجتمع الشماعية الغرائبي، وقد تم قبول هذا الشكل الروائي من قبل النقاد، بل انها لقيت استحسانا لا بأس به باعتبارها تجديدا في بنية الشكل الروائي العربي.
إن رواية ‘الدومينو’تقدم مقاربة ممتازة لقضية النهضة ودور التراث كقضية مركزية في أي نهضة، فالنهضة الأوروبية استلهمت التراث اليوناني في نهضتها المعاصرة، ونحن نلحظ أن النتاج الفلسفي العربي في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة تركز في مشاريع قراءة التراث كما شاهدنا عند الجابري واركون وحنفي وأبو زيد، وهذه المسألة حاضرة في ثنايا نص ‘الدومينو’، كما أن الراوي المركزي المتخفي خلف الرواة المختلفين يجد نفسه في الخاتمة في الصحراء العربية تحيط به الرمال والنخل والبيوت الطينية في إشارة واضحة ومعبرة إلى أن كل مفاتيح المستقبل والنهضة العربية في أزمانها الحاضرة والمقبلة تكمن في البواكير الأولى للنهوض القومي العربي ابتداء بالرسالة المحمدية، وقد أوضحنا هذه المسألة ولا تحتاج منا إلى مزيد إيضاح، فلا نهوض ولا تقدم دون استلهام التراث.
إن الصورة التي يكرسها النص في قسمه الأول للدولة العربية العظمى في مطلع الألفية الرابعة لا تختلف كثيرا عن الإمبراطورية الأمريكية التي تتسيد العالم حاليا ولا ادري مدى صوابية هذا الرأي، هل يريد سعيد القول إن عالم القطب الواحد يقود دائما إلى نفس الاستكبار والتجبر وشطط القوة والاستفراد بالعالم؟ هذا بالطبع شيء منطقي ومبرر من وجهة النظر السياسية ولكن التطابق بين ممارسات الإمبراطورية العربية والأمريكية يقابل من جهتنا ببعض التحفظ، فكل حضارة لها تجربتها وتفردها والذي سيقود إلى مدنية مختلفة كل الاختلاف عن غيرها من المدنيات، و’الدومينو’تستنسخ التجربة الأوروبية في النهوض في مختلف مراحلها، نلاحظ أن الإصلاح الديني هو الحدث الأهم في صيرورة النهوض العربي حيث يبرز مصلح ديني كبير هو الشيخ عبد العليم، وهو يقابل مارتن لوثر في الغرب الذي قاد الإصلاح البروتستانتي، ونحن نتفق مع سعيد ان الإصلاح الديني كان الأهم في مسيرة الحضارة الأوروبية ودوره مركزي ومهم، وهو أكثر أهمية ومركزية فيما يخص العرب، نحن أحوج من الغرب الى إصلاح ديني يطلق العقل العربي من القيود التي تكبله، ومن دون هذا الصلاح ستبقى محاولات النهوض العربي عقيمة ومحدودة النتائج والتأثير وسيعمل الجمود الديني على إجهاض أي تجربة نهوض.
إن النهوض العربي في حال تحققه سيكون بفعل عناصر وعوامل مختلفة كل الاختلاف عن النهوض الغربي، وأنا اعتقد جازما أن الطبقة الرأسمالية لن تكون حاملة لأي مشروع نهضوي عربي لان هذه الطبقة غير موجودة أصلا في مجتمعنا الحاضر، ومن غير المبرر الاعتقاد بان أي نهوض حضاري إنساني لا بد أن تكون الرأسمالية هي الحامل الاجتماعي له مع ما يترتب على ذلك من الاستكبار والاستغلال والتجبر، فالمشروع النهضوي السوفييتي كان الحامل الاجتماعي له هو الطبقة الفلاحية ابتداء والعمالي لاحقا. إن أي قوة رأسمالية عربية ستكون جزءاً من الرأسمالية العالمية ولن تكون قادرة بالتالي على بلورة مشروع حضاري عربي مختلف ومتفرد، كما ان البنية المجتمعية العربية الحاضرة ربما تتضمن طريقا ثالثا للبشرية بعيدا عن الطريق الرأسمالي الأول والطريق الشيوعي الثاني، وقد أصبح الطريق الثالث موضوعا لتنظيرات فلسفية اجتماعية وسياسية في الوقت الراهن، وربما يكون العرب قادرين على بلورة نموذج موفق يخرج العالم من إطار الثنائية الصراعية – إما الرأسمالية او الشيوعية، وهذا هو منبع التحفظ عندي على رؤية سعيد للدولة العربية العظمى المرتقبة، فانا مقتنع بأنها في حالة تحققها لن تكون رأسمالية الطابع وبالتالي ستقدم ممارسة حضارية مختلفة ربما تكون أكثر إنسانية.