تشير معظم الدراسات ما بعد البنيوية , وكذلك الدراسات الخاصة بجماليات التلقي الى اهمية النصوص المحايثة وموجهات القراءة التي تشمل ( الثريا , الاهداء , الاغلفة والخطوط …الخ ) التي تمثل بمجموعها سياقات صغرى تنتظم فتعضد من مباني السياقات الكبرى او تكون موازية لها في اقل تقدير .
في المجموعة التي نحن بصددها , ينخذ الغلاف الاول حيزا مهما مما هو محايث , فاللوحة التي رسمها المبدع فيصل لعيبي تستحق التأمل . يمكن تصنيف التصميم الذي حمله الغلاف الاول ضمن بنية الفن التشكيلي التجريدي . اللوحة موضوعة داخل مربع . والمربع كشكل هندسي له دلالة الاستقرار , اذ ان زواياه القائمة هي من الزوايا التي ترتاح لها الفطرة منذ نشأة الانسان , وهي بعد ذلك زوايا وسطية , بمعنى انها تقع بين الزوايا الحادة التي تحدث اختناقا والزوايا المنفرجة التي تسرب الاحاسيس وتفقد السيطرة على المكان . يتخذ اسم الشاعر موقعا علويا في وسط الغلاف وبخط اسود لأحداث تضاد لوني مع البياض الطاغي على الغلاف اضافة الى توجيه المتلقي لصانع العمل ومنتجه . اللون الابيض الطاغي على الغلاف هو جزء من الثيمة الرئيسة لثريا المجموعة بل والمعضد الرئيس لها , اما اللون الرمادي الذي يقع على يسار الغلاف فيوحي الى الفضاء الخارجي والى الخلاء الكوني الحاوي للاجسام والخاص بما هو مادي \ حسي او غير حسي , لذلك وضع تجنيس العمل فوقه بكلمة \ شعر \ . في وسط المربع يحتل وجه بملامح سومرية المساحة الاوسع , واظن انه وجه فتاة لأن سحنة العين والشفاه توحيان بذلك على الرغم من لا ظهور الجفون فيها . يشكل الانف والحاجب شكل منجل ويتكثف الشعر على جهتي الرقبة بنحو يشبه العلامة الموسيقية الموحية بوجود تنغيم مختلف الرؤى في حياة الصورة . في الجهة اليمنى من اللوحة ثمة هلال ونجمة سباعية . يوحي الهلال بأنه يحتضن النجمة ذات الشعاع الذي يرمي الى الانبثاق والبزوغ . الهلال ذو الترسيم المنحني يشي بالمرونة والانسياب . ظهر الوجه بعين واحدة منبهرة ازاء ما امامها , اما الحاجز الاسود الذي يفصل الصورة عن القمر كما نظن حاجز الزمن الاسود الذي يفصلها عن القمر ونوره , وقد يكون اظهار جزء من الوجه واخفاء الجزء الاخر ينحو منحى الضياع الذي تعيشه الشخصية الرئيسة والتشتت الحاصل لها . ثريا المجموعة كتبت بخط حديث \ حاسوبي بمعنى لا خضوعه الى قواعد الخط العربي ووضع اللون الاسود على بؤر التنقيط لتحمل بعضا من الهم والحزن المعرش على البياض الممتد على مساحة الغلاف كله . اما الغلاف الاخير فحمل صورة الشاعر وقصيدة مختارة بمقصدية من داخل المجموعة \ الجزء الثاني منها \ قصائد حاسرة \ , والقصيدة عبارة عن مجموعة من الاسئلة الموجعة الباقية من دون اجوبة لفترات طويلة من الزمن , وهي اسئلة حقيقية وواقعية تنم عما في النفوس من ألم وحسرة تجاه الوطن والناس , في الغلاف الاخير وضع اللون الرمادي على اليمين والبياض على اليسار , اي بنحو مغاير عما كان في الغلاف الاول وهذا ما يوحي الى تحقق جزء من البنية الخارجية لتمثلات حركة الواقع .
في عملية الدخول الى النصوص يباغتنا \ النصيص \ بفونيمين يتخذان اكثر من تأويل . فأسم الاشارة \ ذلك \يشير الى البعيد الذي قد يمتد الى اماكن كثيرة لا يمكن رؤيتها بنحو جيد , او انه يشير الى شيء قد يكون – في الاصل – واقعا خارج مديات العين الرائية . اما \ البياض \ فيضعنا امام مفترقين , اولهما البعد اللوني , وثانيهما الفراغ , وقد يتعاضد الامران ليشكلا فسحة لنسج توقعاتنا في ضوء المتحصل الاتي . يحافظ \ النصيص \ على بنية نحوية تتمثل في الجملة الاسمية القائمة على النحوية المألوفة \ مبتدأ + خبر \ , ليرسم لنا بنية مستقرة وان بدت متحركة في دلالاتها التأويلية على خط انتاج زمني غير مستقر . المجموعة مقسمة الى قسمين : القسم الاول يحمل عنوان \ لم ادرك بعد \ . هذه الثريا الفرعية تحمل بنية التأجيل , اذ ان ارؤية لم تكتمل بعد , ولم ندرك منذ الوهلة الاولى لهذه العتبة كنه اللارؤية والسبب في هذا التأجيل المقصود قد يكون نقصا في المدرك \ بكسر الدال \ او عدم اكنمال رؤية المدرك \ بفتح الدال \ من قبل الرائي \ . تتكرر بنية الجزم في المجموعة بنحو واضح ومكثف تتقدمها اداة الجزم \ لم \ . واستعمال هذه الاداة يشير الى توقف الفعل وتجميد فعاليته , اذ ان النحاة قد ذهبوا الى ان مجزوم \ لم \ لا يعلق على شرط معين , فلا يقال , على سبيل المثال لا الحصر – : ( لم يذهب زيد الا اذا جاء عمرو ) . اما دلاليا فأن هذا الحرف المكون من \ اللام \ التي هي للالصاق , والميم التي هي للضم فينحو منحى ايمائيا بواسطة هاتين الخصيصتين .
في قصيدة \ هدأة جبار الاخيرة \ اشتغل النص على بنية الغياب المؤطر بالموحيات الحسية بواسطة الاخبار عنها بمجموعة من التلميحات التي تحمل سمة اليقينية
1- لم تعبث بصداقاتك يوما
2- 2- لم توصد بابك
3- 3- لم يهدأ قلبك
4- 4- ايكما يسارع …؟
5- بعيون خاسرة
6- كنت الملم
7- من شفتيك الخاسرتين
8- حروف تومىء كاصرخات
نلاحظ في السطور آنفا استمرارية بنية الثبات والاستقرار التي تترشح من الافعال المجزومة , الا ان هذه البنية سرعان ما تنكسر في السطر الرابع بواسطة الفعل الماضي الناقص مع اختلاف نمط الضمائر المزعة بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب والتي يؤطرها ذلك الغياب الحسي المزع على ( صداقاتك , بابك , قلبك ….. الخ ). كما نلمح في السطر الخامس تقديما لشبه الجملة على الفعل الماضي الناقص من اجل تأطير ذلك الغياب بالخسارة المتحققة مما هو متحصل من معطيات , وهذا ما يرمي اليه السطر السادس \ كنت الملم \ . فعملية \ اللملمة \ ما هي الا بؤرة لتجميع ما انفرط من عقد الايام الخوالي ومتحصلاتها العملية مما ادى الى اجتياز البعد الخطابي بواسطة ذلك التمثل الراقي للجانب الوجداني من خلال الايقاع التصويري الذي اشاع التشبث بكل ما هو انساني في السطور الثلاثة الاولى , فصوت \ جبار \ ما زال حيا وطريا في ضمير الشاعر لأن حروفه لما تزل متوهجة في ضمائر الشرقاء كون قضيته قضية انسانية تتعدى ما هو شخصي .
البنية التزمينية
حظى فعل التزمين بمرتبة مهمة داخل النص ,اذ جاء ممتدا على فكرة طويلة من حيث منتجاتها وارتباطها يما هو مخيب للامال
1- ثلاثون
2- وانت تقايض اوهاما
3- وتذود عن الروح
4- وتنشرها في ظل امرأة .. .
5- اغنية
6- في ظل صديق
7- في شارع
8- في ضوء قصائد احببت
تنبض السطور آنفا بمترشحات واقع الا ان صوغ ذلك الواقع كان في مشغل شعري , بمعنى انه خلق فاعليته المحفزة بواسطة مجموعة من المنتجات المناقضة لما ينبغي ان تظهر عليه نتيجة المفردات الايجابية المكونة لها الا اننا نرى العكس من ذلك كما موضح في الترسيم الاتي
الزمن …….. مقايضة ….. ثلاثون
منتجات الزمن ….. اوهام + عيش في الظل
ان هذا التزمين انتج لنا زمنا تنحو منتجاته بأتجاه سلبي الا انه يعمق بؤرة جديدة متشظية عن الاولى وضاغطة في الوقت نفسه على متحصلات ذلك الزمن والتي تتمحور في السطور 4 , 5 , 6 , 7 والتي تفضي الى مترشحات جمالية لكائن زمني يلوذ به المروي عنه بواسطة ضدية تنبع من الروح المستترة في ظلال علاقاتها مع الاخر , لهذا جاءت البؤرة الجديدة بمحمول مغاير للبؤرة الرئيسة , بمعنى ان فعل \ المقايضة \ قد غاير فعل \ الذود \ في منتجاته المتحصلة عيانيا , وبهذا حققت ذات المروي عنه منحيين : منحى خارجي واخر داخلي اتخذ كل منهما مسارا لا يلتقي مع الاخر في متحصلاته النهائية لكنه يوازيه في امتداداته الروحية .
بنية التراكم
وتصطف بنية التكرار التراكمي في الكثير من قصائد المجموعة مما ادى الى ترصين البعد الدلالي اذ انه يأتي –هنا – بمقصدية ترمي الى ترجمة ما يعتلج بصدر الشاعر من هموم , اضافة الى ما تتيحه عملية التكرار الى شد انتباه المتلقي الى بؤر معينة في النص .
بلادي
العائمة في الشعر
من افسد القصيدة ؟
بلادي العائمة
في صفحات التاريخ
من ثقب القارب؟
بلادي
العائمة في الدم
من شحذ السكين ؟
بلادي
العائمة في البترول
من اشعل عود الثقاب ؟
في النص , اسئلة الانسان المفجوع فيما يرى من الضياع الحاصل في وطنه , ومن هو المسؤول عما يجري , هل هو الحاكم , الناس , القوى الموضوعية والذاتية التي تحرك عالم اليوم . ان جلَ هذه الاسئلة تلح على الشاعر وتشرئب صوتا داخليا ينغص عليه كل شيء لهذا كان الالحاح على ابنية الاستفهامية وتكرارها من اجل ادامة فعل الاحتجاج والابقاء على وهج عدم الرضوخ في محاولة لأستنهاض الهمم وعدم الركون الى المراوحة الكليلة . ان تراكم \ من \ تتساوى مع تكرار كلمة \ بلادي \ وما يستتبعها في متحصلات سلبية ( بلادي العائمة في الدم ) او ( بلادي العائمة في البترول ) . ولعل الضربة الاخيرة هي الاكثر نجاحا في خلق تضاد جميل ما بين \ البترول \ و \ عود الثقاب \ , اذ من غير المعقول ان يكون البترول قريب من النار الا ان دنو عود الثقاب هو من باب السؤال التهكمي الذي يدين مثل هذه الافعال .
بنية المكان
يتخذ المكان في هذه المجموعة حيزا فاعلا كون المكان يتواشج مع البعد النفسي والذاتي . في قصيدة \ البيت الجديد \ والتي هي من القائد الشذرية يشكل البيت البؤرة الرئيسة , فعلى الرغم من التبدل الاتجاهي في المساحة والخلو والسكون الذي يخيم عليه بواسطة متحصل الوحشة فأن التوصيف يبتعد بنا الى خارج المتداول , ولعل الشاعر يشير الى القبر الي يضم جسد \ جبار \ بعد ان غادر المكان الاصاي . ان الشد الحاصل في المشهد المرسوم للبيت قد اضفى على الكتلة \ البناء \ بعدا اشاريا يتمحور في السؤال الاخير المملوء حيرة وتعجبا لما آلت اليه امور\ جبار \ .
ما اوحش هذا البيت !
ما اصغر هذا البيت !
ما اضيق هذا البيت !
جبار ابيتك هذا ؟
ان تركيم الصفات بنحو سلبي يكثف من خصيصة التوتر النفسي عند الشاعر ويزيد من انكماش الطاقة الحسية لديه بسبب من هذه التراكمات المعتمة مما ادى الى نضوب مخزونه الوجداني حيال ما يحصل للشخصية المروي عنها \ جبار \ . ان الميزة لدى الشاعر في تعامله مع المكان انه يختزل الكثير من الوائد ويحاول النفاذ الى ما يريد توصيله للمتلقي .
لقد استطاعت هذه المجموعة ان تكون معبرة عن هموم انسانية بيضاء ونقية من خلال تشكيلات متعددة حققت غناها الشعري بجدارة متميزة