# الأحلام هي الطريق الملوكي إلى مكبوتات اللاشعور :
—————————————————–
ولأن الاحلام هي الطريق الملوكي إلى قلعة اللاشعور كما يقول معلم فييينا، فإن سلام يقدم حلم يقظة باهر يكشف الكثير من مكبوتاته. ففي لحظة فريدة يمزج بها الواقع بالحلم ، يسمع – وهو يتبصص على جسدي ابنة عمته وزوجها الملتحمين في باحة الدار تحت بقعة من ضوء القمر المنسرب من نوافذ القبة الزجاجية – صوتاً يناديه :
-تعال.. تعال . تعاااال .
انتفض بكل جسده راغبا بالخروج من هذه الاستيهامات واختلاط الأخيلة والأمكنة والأصوات.. لكن صوت النثى الهامس يدعوه للنهوض.. راح يتعالى صادرا من مكان قريب جدا، وكأنه خلف الباب :
تعال .. قم.. قم .. لا تخف .. إنزل
هبطت السلالم المنخورة .. وجدتني أنحرف بأثر الصوت في ممر محفور بالجدار الايمن لم يكن موجودا اصلا:
-تعال يا بعد روحي .. تعال
نبرة أمومية دافئة ، تبث حنينا شجنا، لها وقع صوت أمّي تارة، ووقع أنثاي البرّية بلغة الفتنة والغواية في أخرى. مزيج فريد يتلون في الصوت القادم من عمق الممر الضحل الذي أفرزني من شق في نهايته، فوجدت نفسي في متاهة صخرية معقدة التضاريس . أقف عند حافة خيوط صخرية كثيفة تنحدر من مرتفع خطوطه شلالات من الضفائر الصخرية تتموج في ضوء خافت ينبعث من مكنة خفية :
-تعال .. يا بعد روحي ..
أيقظني الصوت من هاجس التحجر .. انحدرت خلفه هابطا من جديد في وهاد وسفوح وشقوق وقمم التضاريس. وفيما كنت أنتشل جسدي من تدوير فنجان السرّة الصخرية الواسعة الساحرة ، سمعت الصوت الحميم المثير يأتي من فوهة نفق معتم .. )
يمتد حلم اليقظة الباهر والكاشف والمعقد هذا على مساحة عشر صفحات ( من ص 59 إلى ص 68) ويمكن للقاريء العودة إلى الرواية لاستكماله .. يضيع سلام في متاهات صخرية .. ثم في نفق تخترقه أضواء نارية .. وفي الختام تتجلى له دكة مستديرة أسفل نصب لقضيب حجري ؛ دكة محشودة بالبشر العراة … وجوه منغمرة بالللذة .. ( وجه مي وأبي ، أعمامي وزوجاتهم، أخواتي، مهرجان من نسوة أحلامي الحميمات في طفولتي ومراهقني .. انفصلت عن فخذ العامود الساخن، وتقدمت نحو الدكة المستديرة الصارخة المهتزة أبغي الذوبان في الكل . تقدمت عاريا وكأنني أغوص في قاع لزج. وما أن وطئت حافتها ، حتى أحسست بدفق من سوائل لزجة يجرفني بعيدا ويلقيني في العماء – ص 68).
ويستكمل الروائي حلم بطله في القسم اللاحق (رؤيا المدينة) على مساحة عشرين صفحة (من ص 69 الى ص 89) وفيه يتعرض لمتاهة جديدة تقوده فيها جارتهم (نادية) زوجة مصلح إطارات السيارات الأعور السكير الذي وجدوه ميتا في الشارع ذات صباح.. والتي كان أبوه يخون أمّه المتمنعة بعد أداء فريضة الحج معها . كان يتبصص على جسدها وأعضائها التناسلية وهو في طفولته .. وتحاصره مشاهد أجسام عراة لجنود وأصدقاء .. وتننهي هذه الخيالا والاستيهامات بمحاولة للطيران بعد أن نبت له جناحان (جذفت بهما فأحسست بجسدي خفيفا ينفصل عن آجر سطح البرج .. نظرت بامتنان إلى الوجه المؤطر بالعباءة ، فاضطربت رائيا وجه لأمي الجميل العذب يودعني وأنا أغور .. وأغور في الزرقة . وما إن تلاشت في الاسقل البعيد حتى شعرت بألم حارق وكأن شيئا اخترقني تحت الجنح الايسر، فهويت .. هويت من الأعالي إلى عتمة فجوة حالكة . انزلقت في فراغها الفسيح .. المبهم .. سقطت على قعر أملس صقيل – ص 89) .
ثم يأتي حلم ثالث كاستمرار للقسمين السابقين ويحتل اثنتي عشرة صفحة ( من ص 90 إلى ص 101) وهو ذو طبيعة كابوسية أيضا مليء بالرعب والصراخ والاستغاثات بالله كي ينقذه من مأزق محوره انمساخ ذاته إلى كتلة رخامية ( بقامتها الفارعة الساكنة عدا خرزتي العينين الجاحظتين من التجويفين الحلين للمحجرين الواسعين الموشكين على التحجر في بهمة الرخام وسكونه – ص 92).
تحاصره الاجساد الحجرية .. وتواجهه متاهة سلالم .. ويوم حساب تشوى به الاجسام في الجحيم .. وبحركة موفقة وبعد صرخة استغاثة (يارب الشهوات .. يا من احتشدت بعروقي .. قل لرب الحجر أن يفكّ إساري – ص 100) يعود إلى أرض الواقع .. إلى المشهد الذي انطلقت منه الخيالات والاستيهامات الكابوسية وهو مشهد الجسدين العاريين .. مع حركة استمنائية جديدة (همد إواره فراح يتأمل عراك الكتلتين العاريتين على فراش الباحة العريض الواضح في نور الفجر المنسرب من خلال زجاج القبة وجوانبها – ص 101) .
سيكون من الصعب جدا الوقوف على “المعنى الباطن – latent content” لكل حلم من هذه الأحلام الثلاثة الطويلة من خلال تحليل معناها الظاهر – manifest content ، لكن من الضروري الوقوف على جوهرها في خلاصة يدعمها التحليل السابق واللاحق. وسنمر سريعا على الطبيعة المحارمية لهذه الأحلام من خلال امتزاج صوتي الأم والزوجة في النداء المغوي : تعال .. يا بعد روحي تعال . ومن خلال امتزاج روائحهما المسكرة في موضع آخر. كما أن وجوه النسوة التي تتخاطف في بداية الحلم الثاني تتكثف في وجه العمة الحانية التي “تستحيل” إلى الجارة “نادية” التي كان يتبصص عليها لتقوده في متاهة المدينة. وكل هذه النقلات محسوبة تزاح – displaced نحوها كبدائل الحفزات المحارمية نحو الأم خصوصا وأن هناك لمحة سريعة في الحلم الأول عن روح المنافسة الأوديبية من خلال توجيه الحالم قضيبه نحو القضيب الحجري الهائل . وفي المركز العميق لأي تأويل تبزغ الزوجة الجسور كبديل يسقط عليه الظل الأنثوي (الأنيما – anima حسب تعبير كارل غوستاف يونغ). إن سلام يخاطب حبيبته بـ “أمي الصغيرة” .. ويشعر في مواقف كثيرة وكأنها أم لا زوجة فقط. إنها امتداد محارمي لكنه معوّق بالسطة والتنمر العارم . إنه “يؤمثلها” بطريقة عصابية يشوبها الكثير من القلق والصراع. هي ذات روح عزوم وإرادة تعرضية وسلوك اقتحامي .. وهو متردد يتعلق بأذيالها . وصلت بها الرعونة وعدم التحسب حد ترك المنشورات السرّية في البيت وعدم اخفائها أو حرقها كما تفعل الحركات السرّية عادة. وفي بادرة غريبة جدا طلبت منه إخفاء خاتم الزواج وأن يدعيا أنهما رفيقان لا زوجان !! ولكن بعد أن لمست النظرات والدوافع الذئبية للمقاتلين الآخرين المحرومين طلبت منه أن يخرج الخاتم وتعلن أنهما زوجان !! لقد حاول آمر القاعدة الإستئثار بها لنفسه لولا أن سلام أخبره بأنها زوجته !! تحت غطاء الإستقلالية يمرر اللاشعور أحيانا حفزات نرجسية خطيرة ممزوجة بنوازع استعراضية وميل دفين ومورّط للعب دور “الدون جوان” الأنثى إذا لم نستخدم تعبيرات تحليلنفسية أكثر إحراجا. وفي كثير من الأحوال يمرّر اللاشعور حفزاته المسمومة تحت أغطية دوافع الشعور البيضاء المعقلنة. وقد كان جزءا من معاناته المستمرة من حبيبته هو هذا “التمادي الإنساني” مع الرفاق والجرحى منهم خصوصا بصورة تجعلهم يقعون في “حبها” ويحومون حولها متيمين ، وفي بعض الأحوال تُضطر لردعهم بقوة.
وبسبب الموقف المحارمي الماكر ترتبك حياة العاشق حتى في أداء دوره الجنسي. لقد خُصّصت غرفة للرفيقات اللائي التحقن بالثوار . وهنا يطرح سلام تساؤلا مريرا ومعبرا عن السبب الذي يجعل قادة المجموعات لا يخصصون غرفا مستقلة للمقاتلين المتزوجين بالرغم من توفرها !! هؤلاء البدو سلوكا يفصلون بين الرجل والمرأة وهم في تنظيمات سياسية تعتنق فكرة التحضر والمساواة. إنهم معصوبون ومرضى نفسيون ، والله يستر المرأة حين يقودون شعوبا. وفي غرفة الرفيقات المتزوجات ينسل لمقاتل “الزوج” ليلا ليضاجع زوجته تحت سمع الرفيقات الأخريات وحرقتهن وإحراجهن بعد أن يطفئن الفانوس. كان سلام هو الوحيد الذي لم ينسل ليواقع زوجته .. كان يعطل إشباع رغبتها في تمنع طفلي يسوقه العناد في الظاهر :
( في غمرة فيض الشمس الهاطل من حافة القمة، أبحر من جديد في حرقتها وهي تضرب كفا بكف وتحدق نحوه تحديق لبوة تبغي عناق صغارها :
-ما هذا العناد ؟ ولمَ ؟
-ليس عناداً
-ماذا تسمّيه إذن ؟
-ماذا أسمّيه .. ماذا؟ .. ماذا ؟ هكذا .. عناداً كما تقولين
استكانت للحظة في صمت مضطرب قبل أن تقول بنبرة منكسرة، ووظلال حزن راحت تطوف في بحر عينيها السوداوين النجلاوين، المحملقتين بملامحه الدانية :
-مشتاقة .. مشتاقة – ص 130 ) .
هؤلاء “المربوطين” من الداخل يتمنعون ويترددون ويعجزون احيانا في الفراش تحت أغطية وذرائع مختلفة ، يأتي بعضها شديد المنطقية و”الشاعرية”. لكنهم “يبدعون” في أحلام اليقظة والخيالات الاستمنائية :
( لا يعرف ماذ يقول ؟ .. ملجوما بعنفوان الرغبة المتأججة في عناقها والالتفاف بجسدها الساخن طوال الليل .. والذي أصبح عريه شديد الحضور في الخلوات والأحلام ، في ليالي القاعة الخانقة المكتظة، في ليالي المفارز المضنية ، والمبيت في بيوت الفلاحين والرعاة وجوامع القرى البعيدة. الجسد الساطع في لحظات استعار الشهوة التي تزيدها توهجا ، العادة السرية المستعيدة مجدها القديم، وكأنه رجع إلى بواكير مراهقته الضاجة – ص 131).
طبعا هذا لا يتعارض مع كونهم “نزويين” لأنهم “اندفاعيون” كما قلنا .. كأن يلتصق سلام بحبيبته من الخلف وهما بحوار شباك الضريح المذهّب (ص 48) .. أو أن يتملّصا من العائلة ليتجامعا في فندق، فيدس يده – وهما في الطريق إلى الغرفة !! – من كم عباءتها ليلمس جنبها الساخن ونهدها الرامح الصلب القريب (ص 49) ..
..وهؤلاء “المربوطين” أيضا يتفنن لاشعورهم في تصميم سبل “الهرب” من موضوع الحب للتخفف من آثام المشاعر المحارمية المتصارعة الهائجة .. ولأن اللاشعور – كما قلت سابقا – يصطاد عدة عصافير بحجر واحد، فإن الإختباء في الإرسي في الوقت الذي حقق له الخلاص القلق والتقرب المحارمي والتبصص الملذ وتعذيب الذات المازوخي وغيرها من الأهداف النفسية المبيتة ، فإنه قد وفّر له “الهروب” من الأنموذج المعضلة : الزوجة.. والإلتحام بها “عن بعد” . وها هو يُقدم على خطوة غريبة مضافة .. فقد ترك زوجته الحبيبة امرأة وحيدة بين مقاتلين توّحشت غرائزهم ، ويعرف جيدا، مثلما أخبرته هي أسضا ، أنهم يريدون افتراسها واغتصابها عند توفّر الفرصة السانحة . وها هو يقدم لهم هذه الفرصة على طبق من ذهب. وبعد كل قرار يبدأ الشعور بالذنب الذي يترتب عليه عقاب الذات وتجريحها :
(حمل بندقيته وغادر صوب الوقع الذي وصلته المفرزة، طوال ساعة الطريق ظلّ يحلم بشم روحها المتضوّعة من حروف كلماتها، لائما نفسه على لحظة تركها. فالمشهد ما برح يسطع من جديد بقية العمر. إنتزع جسده من ذراعيه انتزاعا في ذلك الفجر الخريفي الماطر ، وسحب بوهن رسن بغلته المحملة بالسلاح خائضا في وحل الوهدة المؤدية إلى مرتقى السفح. ظل يتلفت بين الفينة والأخرى في ارتقائه إلى وقفتها وسط جمهرة المقاتلين ،امرأة وحيدة تلوح بذراعيها إلى أن تلاشت قليلا ..قليلا غاطسة في أبخرة السحب الكثيفة…
شعر لخظتها كأنه ودعها إلى الأبد .
هل كانت تلك اللحظات فاصلة في طبيعة العلاقة ؟
هل غرقها وسط الرجال بالغيوم الترابية الواطئة هو ما أرمد قلبه، وألقاه في باحات قلق سوف يعاشره بقية العمر ؟ – ص 149) .
بعض المعصوبين لا يستعر شوقهم لموضوعات حبهم إلا إذا رسموا فاصلا مكانيا عنه .. يتألق ويأتلق حين يكون بعيدا أو نائيا أولا .. وهم يهتاجون نحوه وتتأجج اندفاعتهم إليه عندما “يلوّثوه” ثانيا. تعصف بعلاقتهم الشكوك التي يبثون بذورها السامة في تربة علاقتهم بأنفسهم. هو نفسه وليس غيره رحل وترك زوجته وحيدة وسط عدد كبير من الذئاب المؤجلة انفلاتتها لتمزيق فريستها بسبب حضوره كزوج حام لها. والآن غادرها رافعا يده مودّعا بالتحية الرفاقية!! هكذا ببساطة .. وقد ذاقت الأمرّين من سلوكيات رفاقها التحرّشية . كان في المقابل اشتعلت لهفته إليها .. مسعّرة بشكوكه من أن تسقط في أحضان أحدهم . وكان قلقه عارما عندما جاء إلى موقعه رفيق مقرب له شاهد على رقبته آثار خدوش أظفار .. طمأنه هذا مرتبكا ثم ظهر أنه حاول اغتصابها !! لقد ضرب لنا الله العليم أعظم مثل من خلال الخطيئة الأولى على أن الغريزة الجنسية أقوى حتى من أوامر الآلهة .. فتحت عينيه مارس آدم وحواء الجنس ,, والشيوعيون يريدون من مقاتل بسيط في الجبال أن يكون اكثر تحملا ونزاهة من آدم عليه السلام!! .
ودائما يكون عند الأحلام بنوعيها : أحلام النوم واستيهامات اليقظة ، الخبر النفسي اليقين الذي يكشف المكبوت اللائب الذي انستر في زوايا اللاشعور المظلمة طويلا. فبعد أن يتعرض سلام للضربة الكيمياوية الرهيبة ويوشك أن يفقد ذاكرته وبصره ، يمر من جديد بحالة استيهام مركبة ومعقدة تمتد على صفحات طويلة من الرواية ( من الصفحة 194 الى الصفحة 226) يستعيد فيها مسيرة طويلة من تاريخ حياته الشخصي والعائلي .. خساراته المدمرة وعذاباته في الحياة وفي أفبية الأمن العامة وفي الحروب
# دعونا نقف عند هذا المشهد :
——————————–
في فلم لمثل المعروف “ميل جبسون” عن حرب فيتنام ، يتوقف الجندي المسؤول عن الرمي بمدفع الهاون عن الرمي ، وحين يسأله الضابط – يقوم بدوره ميل جبسون – عن السبب، يجيبه الجندي بأن المدفع سخن إلى درجة حرارة عالية وأن وضع قنبلة فبه بعني انفجارها عليهم . هنا يقوم الضابط بفك بنطلونه ويبول على المدفع. مشهد طريف .. لكنني شاهدت بأم عيني ، في شرق البصرة ، جنديا خرج من الملجأ ليبول فسقطت قذيفة مدفع بين ساقيه ولم تنفجر .. فبال عليها !! وشاهدت أحد أصدقائي المستشهدين في مجنون ، يسحل الكلب مصرانه لعدة أمتار .. وفي إحدى المعارك انفجرت دبابة بلغم واحترقت واستشهد من فيها وشاهد سائق دبابة أخرى سائق الدبابة المشتعلة يريد الخروج بلا جدوى ، فركض نحوه بالرغم من التحذيرات من تفجّر الدبابة المشتعلة .. قفز فوق الدبابة وسحب السائق المحاصر ، فإذا هو نصف إنسان فقط .. عن أي حرب تتحدث هوليود ؟ ما شاهده سلام ابراهيم هذا الشاهد الشريف الحي والمعذّب ، ومعه نحن المقاتلين الأحياء الأموات – أكثر بشاعة ورعبا من كل ماتصوره ماكنة هوليود ، أو يستوعبه خيال الإنسان الجامح . يقول سلام واصفا وجها جميلا يطل عليه وهو في دوّامة استيهاماته :
(إنه الجندي “عبد فرج” ، الذي لملمت أشلاء جسده الممزقة المقطعة، الملوثة بتراب سهوب شرق البصرة والدماء، ووضعتها جوار بقاياه الملفوفة في بطانية نقعت بصبيب دمه المتدفق، رغم اندماله بجدار الأبدية. جمّعتها باضطراب واضعا كل قطعة بمكانها، وكأنني أريد وصلها من جديد، الكف الصغيرة، الساعدين، وقدم واحدة فقط. ظللت أدور في أنحاء موقع البطرية بحثا عن القدم الضائعة دون جدوى. ترن ضحكته في رأسي . فبالأمس عدنا من الإجازة إلى الجبهة بسيارة تموين الكتيبة القادمة من البصرة. كان يحدثني مرحا عن قدر الإنسان ضاربا مثلا في نفسه :
-الأعمار بيد الله يا أخي . صار لي بالجبهة من أول ما بدت الحرب . يعني قبل خمس سنين.. تدري كم جندي مات بصفي ؟ صرت أضحك من واحد بخاف من الموت .. فلا تهتم .. ذبها على الساطور ..
لم نعثر على القدم الأخرى إلا في اليوم التالي، فدفناها خلف الساتر الترابي وسط نحيب الجنود – ص 209 و210).
.. هكذا هي هوليود العراق .. وتدور السنون .. ويأتي ضيم الاحتلال القذر ، ويطلع علينا مصطلح لم تشهده البشرية في تاريخها المديد .. هو مصطلح عراقي بامتياز .. هذا المصطلح هو “طشت الخردة” حيث أخبرني أحد الأطباء أنه شاهد “طشتا” في مستشفى الحلة لجسد آدمي مقطّع فيه ثلاثة أقدام !!
# دعونا نعود إلى فذلكات التحليل النفسي :
—————————————–
.. وقد قلت أن عند الحلم الخبر اليقين بعد أن تحدّثت عن ميول العاشق المعصوب إلى “تلويث” و “إشباه” موضوع حبّه فتتأجج حيرته فيه ، ويزداد تعلقا به . لقد مرّ أمامك عيني سلام، وهو يسجد على أرض بيت العمّة ، شريط طويل من الذكريات المرّة والمريرة ، كان أغلبها مرعبا عن خسارات لا تعوّض .. شهداء ومفقودون وجثث وخراب آمال وضياع مستقبل مرة واحدة وإلى الأبد .. وفي ختام لعبة الإستيهام الطويلة الشائكة ، تدخل عليه امرأة في الظلام بسروالها الزيتوني الفضفاض .. لا يستطيع القطع بأنها زوجته بالرغم من أنها تشبهها .. تتعرى أمامه .. فيتأكد أنها هي زوجته الحبيبة .. فما الذي يشغل ختام رحلة هذا الإستيهام المرعب من جديد ؟ إنه قلق “التلويث” إذا جاز التعبير ، ممزوجا بالتبصصية وبمخاوف الإنهجار ومشاعر الإنخصاء :
(.. في تلك اللحظة انفتح بابي المسدود، ودخل مقاتل يافع وضع بندقيته في الزاوية جوار الباب، واستدار نحوها [= نحو زوجته؛ زوجة سلام] . أخذها بين ذراعيه من الخلف ، فافترت بين ذراعيه لتواجهه، وتعانقه عناقا حميما جعلني أنتفض راميا بجسدي الذي تجنن إلى الأسفل صارخا صراخ مذبوح ، هابطا نحو النافذة التي راحت تنأى .. وتنأى إلى أن انطفأت في يتم الظلام ، وضيّعتني ذرّةً تدور في السديم العظيم – ص 226) .
يبدو أن “الشريك الثالث”، الفعلي أو المُتخيّل، ضروري لإدامة اشتعال رغبة المحب المعصوب وتأجيجها كما اكتشف ذلك معلم فيينا.
وتشكل التداعيات الذاكراتية التي تنبثق في ذاكرة المحب متصلة بحالة الإلتحام بموضوع الحب الراهن في صورة تقترب من التداعي الشرطي – conditioned ، دليلا مضافا على هذا النزوع المحارمي المكبوت واللائب وتقييداته النفسية. تلك التداعيات المحارمية تنهض من تحت رماد النسيان الكاذب مرتبطة بحضور المحبوب . لقد ذهب إلى غرفة الرفيقات ليلا – وحسب الاتفاق المسبق – ليواقع زوجته مرصودا بعشرة آذان تلتقط أدنى حركة عند التحامه بها .. ومراقبا بعشرة عيون تجوس ملتهبة جائعة في الظلمة . كانت زوجته تقف متلهفة نافدة الصبر، عاتبته على تأخره . وعندما قادته عبر باب الغرفة المنخص دهمتخ رائحة أليفة نفاذة (رائحة انبثقت من سحيق أيام غابرة من سني طفولته البعيدة،رائحة منبعثة من مواسم تلك الغرفة الوحيدة التي جمعته أخا لسبع أخوات جميلات وهو يندس معهن في الفراش المشترك .. جوار سرير أمه وأبيه بالستارة الشفيفة التي تنسدل من جوانبها حاجبة ليل الأبوين؛ رائحة سوف تنعجن بدمه، وهو يلتصق بلدانة أجساد أخواته المراهقات اللواتي كنّ في غمرة النوم يتحسسن جسده باصابعهن الناعمة الغافية .. ظل يستطيب تلك الروائح، ويختلس لحظات الخلوة دافنا وجهه في تلافيف ثيابهن المبعثرة في خزاة الملابس المشتركة . يعبّ من أريجهن السرّي المخدّر – ص 138 و139 ).
# عودة إلى الأحلام الكابوسية المفتاح :
————————————–
والآن .. وبعد هذه المقدمات التحليلية الضرورية نستطيع العودة إلى السير في طريق تحليل الحلم .. السير في الطريق الملوكي الموصل إلى مجاهل اللاشعور وظلماته . إن الحالم كما يثبت من الأحلام الثلاثة ، يبدو غير متصالح مع جزءه الأنثوي . وأغلب الرجال لا يستطيعون الإقرار بهذا الجزء لأنه يخدش رجولتهم. لكن هذه الفرضية شديدة الخطورة ، لأن الرجل ذكاء وعقلا ، هو ثمرة جافة دون جزء مؤنث مرتّب ، ودون طاقة جزئه المؤنث الخلاقة. (وما الجزء المؤنث من شخصية الرجل ؟ إنه الكمون الداخلي. وبوصف هذا الجزء موجودا منذ الطفولة، فكل شيء منوط بما يصبح عليه في أثناء الطريق. والجزء المؤنث من الرجل سضم شبكة الإحساسات. إنه رادار الرجل . إن إحساس الرجل بالحياة ، سلبا أو إيجابا، يتم بواسطة جزئه المؤنث. وهو مع ذلك لا يشعر على الغالب بهذا الموقف الأخير) (7)
فلنر ما يحصل في شخصية رجل ذي جزء مؤنث سلبي . (إذا لاحظنا هذا الرجل شاهدنا أن اعتدال مزاجه منسي منذ زمن طويل. فـ “مرجله” الداخلي في حالة من الفوضى . ونرى أيضا أن هذا الرجل ذو نزوة ، شبيه بعض الشبه بطفل سريع الغضب . ويغطي كل شيء لديه سلوك متصلب يتصف مظهره الرجولي بمغالاة أنه يخدعه ويخدع الآخرين. إنه سريع التهيّج، فظ وحقود، ولكن الدموع تعلو عينيه لأتفه الأمور . إنه مستبد عن طيب خاطر تجاه امرأته وأولاده، ولكنه يصبح بسرعة ذا عذوبة تتصف بأنها موضع الظن. إنه يبهر ولكنه غير فتّان . وهو المتردّد، ، بالمعنى الأسوأ للكلمة ، في ظل مظاهر من الرجولة الزائفة هنا ايضا. إنه العدو اللدود للنساء مادام يخافهن، ولكنه “يبهرهن” بتقديم آيات الحترام والتبجيل وضروب من المجاملات الأخرى (8).
هذه الصورة العملية لشخصية الفرد الذي لا يتصالح مع ظله الأنثوي اللاشعوري. والأحلام الثلاثة تعبر عن الوضع المأساوي لهذا الحالم. فسيلاحظ القاريء كآبة النفس ، الكآبة الباردة .. فحياة الحالم “متحجرة” .. صخرية .. كلّها متاهات .. متاهات صخرية .. متاهات مدينة .. متاهات سلالم .. الحيرة العاصفة تمحق وجوده من كل جانب .. يقاد كطفل غرّ حائر وتائه من قبل يد أنثى تسلمه لأنثى آخرى ..وفي كل مرّة تحضر الأم بشخصها المباشر ، أو من خلال بدائلها ممثلة بالعمّة أو الجارة “نادية” أو الزوجة. فالأم هي “العجّانة” الأولى لهذا الجزء المؤنث. إنها المرأة الأولى التي “تلوّن” القطب الملوّن للصبي. فالأم هي الصورة الأنثوية بالتأكيد. وموقف الأم العميق إزاء الحياة سيكون موضع التقاط الطفل . وسيكون الجزء المؤنث ، بالمقابل ، متأثرا بموقف الصبي إزاء أمه تأثرا قويا. وأم الحالم التي امتنعت عن مواقعة زوجها / أبيه ، تتكاثر من خلال الأجساد العارية التي تلتحم على الدكة .. وهي متناقضة في حياتها العملية .. لقد استدرجته ثم خذلته .. إنها “صخرة” البيت .. آلة للتفريخ الميكانيكي بلا عواطف .. لقد وصلها الحالم بعد رحلة طويلة وشائكة ومرهقة في المتاهات الصخرية والمدينية .. ولكن محاولاته كلها باءت بالفشل .. محاولة تنتهي بأن يستمني على ذاته – أنثويا – .. وأخرى يهوي فيها من الطيران إلى أرض الرخام الصلبة .. وهكذا ..
صحيح أنه يبحث عن منفذ وخلاص في الأحلام الثلاثة .. الحالم يتسلق .. و “يصعد” ويريد أن يمضي إلى ما هو أكثر ارتفاعا (جبل ، دكة، تلة، سلم .. إلخ) صوب أي شيء؟ إنه يبحث عن السمو والتغيّر. وينجز صعودا عموديا .. أي صعودا ذكريا وقضيبيا ومغامرا . ويبحث عن تحقيق ذاته بوصفه رجلا، وذلك بالرغم من المخاطر المهولة (المنحدرات المسننة .. الشرطة القامعة .. السقوط .. الضياع .. التحجّر والتحول إلى رخام .. الحرق حيا في نار جهنم مستبقا يوم الحساب … إلخ ) ..
فمن كان هذا الحالم ؟
كان في الواقع ضحية أم “ملتهمة” .. ميدوزا بعجزها .. وطاغية بإذعانها .. وغازية بانكسارها .. وخانقة باختناقها .. وكل ذلك تم إسقاطه في الأحلام الثلاثة على الحجر والمتاهات .. كلن يريد أن يتحرر وهو يتسلق صخورا وجبالا وسلالم ، ويقطع متاهات مدوخة ، ولكن لا جدوى .. فخوفه وحصره هما الأكثر قوة .. والجزء المؤنث من شخصيته مغمور بشخصية الأم التي جاءت بديلتها الطوفانية عاطفيا والنمرة حضورا متمثلة بالزوجة.. والحياة بالنسبة إليه لم تكن غير ضرب من التهديد . وخوفه من الآخرين كان هائلا ، فأسقط على هذا النحو أمّه على الغير الذي ينقاد إليه كما ينقاد طفل مذنب..
وليس من الغريب أن ينبري الوعي / الشعور لـ “عقلنة” مظاهر الإنكسار والإندحار والتهافت على أساس أنها “طيبة مفرطة”، و “ثقة عمياء”، و “براءة نضالية” .. كانت الزوجة المقاتلة تهمس في اذن زوجها المقاتل عن حقارة رفاقهما وتوحشهم الجنسي فلا يجد إلا ردّ فعله المستكين تجاه أمّه :
( -أعطيني أذنك
همست فهبط صوتها الخافت اللاهث في أحشائه ، خمرة تفقد العقل والقصة :
-إش بيهم ؟
أمعن في استغبائه وكأنه في حضرة أمّه الحنون التي كانت وماتت وهي تعتقد بأنه طيّب حدّ السذاجة ، كان يحس أن ذلك الشعور يسعدها ، لحظة تصنّعه البلادة وعدم الاهتمام بما يحيط به وسط العائلة الغارقة بمشاكلها العويصة – ص 124 ).
.. ولكن أنموذج هذا السلوك ومثاله تجده في تلك اللحظة الطفلية التي تعقب مأزق احتكاكه الليلي بأجساد أخواته الحميمة وهو يتأرجح على حافة البلوغ ، فيستيقظ في الصبيحة غير قادر على مغادرة فراشه رغم إلحاح أمّه.. يتشبث بالغطاء حتى يرتخي وسطه المتوتر (ص 140).
# التقسيم والعناوين :
———————-
.. يمكن أن نعدّ القصة القصيرة فنّاً ، ولكن الرواية “علم” إذا جاز الوصف ، فالروائي يجب أن يتحلى بصبر عالم في مخبره (ألهذا لا يتحمل الكاتب العراقي الرواية – كتاب القصة اقصيرة أضعاف الروائيين – هو الذي لا يتحمل الصبر والمطاولة ؟!).. عليه أن يخطط لعمله بصورة كلّية ، ويضع تصوّرا لأدق التفاصيل – الرواية فن التفاصيل والجزئيات – .. عليه أن يحدد وظيفة ودور ودلالة أي مكوّن من مكوناتها . ويبدو أن سلام ابراهيم قد خطط لكل هذه النواحي بدرجة معقولة كفلت له تقديم نص روائي متماسك ومتفرّد . لقد قسم الكاتب عمله إلى قسمين : الأول أسماه : في برزخ الإرسي، أما الثاني فهو “في برزخ الجبل”.
البرزخ في كلام العرب هو الحاجز بين الشيئين ، والمانع من اختلاطهما وامتزاجهما . قال تعالى ( وجعل بينهما برزخا) أي حاجزا ، والبرزخ في الشريعة : الدار التي تعقب الموت إلى البعث، فكل من مات من مؤمن أو كافر دخل في البرزخ، وتتكون دار البرزخ من عذاب القبر ونعيمه وعرض أرواح المؤمنين على الجنة ، وأرواح الكافرين على النار. وقال ابن القيم: عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، قال تعالى ( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون(.
وبرزخ سلام اراهيم هو برزخ الخراب والعذاب سواء أكان في علية الإرسي أم على قمم الجبال .. والفارق عن المفهوم الديني الشائع هو أن مكوث سلام في قبره / برزخه قد طال .. طال كثيرا فأخذ حياته بكاملها .. ثم أنه لم “يُعرض” لتنتهي محنته ويخلص.. استغرق “حسابه” عمرا كاملا. وإذا كان البرزخ لغة واستعمالا قرآنيا يعني ما يحجز بين شيئين ويمنع امتزاجهما ، كما يفصل عالم القبر بين موت الإنسان وبعثه يوم القيامة ، فإن برزخ سلام كان يفصله عن الحياة .. عن الناس .. عمّن يحب .. عن الأمل .. لا هو في عالم الأحياء ولا هو في عالم الأموات .. إنه “في البرزخ” يتقلب على جمر العذاب .. في برزخ الأرسي حوسب وأدخل الجحيم وشوي – بعد أن كان رخاما – روحا وجسدا وآمالا على ألسنة لهيب الخيبة والإخذال والإنهجار والخسران . ولكنها كانت جزءا من أخيلة واستيهامات قبر الإرسي المفزعة التي عاد منها إلى جحيم أكثر بشاعة وهولا. ومن في البرزخ يُحاسب لينتهي به المر إما في الجنة وإما في النار .. هكذا ببساطة .. أما سلام فقد عاش عمره وهو ينتظر الحساب .. وحساب على ماذا ومن ؟ ومتى .. لقد كان يُعاقب .. نعم يُعاقب من دون أدنى ذنب .. عوقب على أفكاره وعلى انتمائه وعلى إخلاصه لرفاقه وحبّه لهم وثقته بهم .. ولد سلام ليخسر وليُعذب .. والبرزخ عالم آخر كما بين القرآن الكريم بين الموت والحياة .. مرحلة انتقالية .. لكن في حكاية سلام ابراهيم .. حكاية جيلنا .. ظهر أن العراق كله .. وطننا بأكمله ما هو إلا برزخ عظيم تشوى فيه الأرواح بلا نتيجة .. وبلا سبب .. وتستغيث بلا رجاء : (ولـﭾ يمّه الحـﮕيلي) .. هذا نداء العراقي الأزلي والأبدي منذ فجر خليقته وحتى قيام ساعته التي لن تقوم ابدا..
ثم نأتي إلى عناوين الأقسام الفرعية ، لنمسك أيضا بقصديتها العالية ، والمحتويات الدلالية التي تتناغم والزمان والمكان والمناخ النفسي الذي ألقي فيه بطل الرواية وواقعه الإنفعالي . فقد تكون القسم الأول من الرواية : “في برزخ الإرسي” من تسعة فصول حملت العناوين التالية : المخبأ ، أشواق ، العمّة الجميلة ، فوهة الخلاص ، نافذة المساء ، أخيلة الرغبة ، رؤيا المدينة، رؤيا الحجر، وصرخة . وكلها عناوين ترتبط بمحدودية المكان وعزلته ومحتوياته (بشرا ومواد) واستجابات المعزول الاستيهامية بفعل العزلة ولاشباع حرماناته.
أما القسم الثاني من الرواية الذي أسماه الكاتب ” “في برزخ الجبل” فقد اشتمل على خمسة فصول خصص لها العناوي التالية : ذلّ العاشق، التسلل إلى الفردوس ليلا ، أحقاد المحبة، جحيم في غروب رائق، وساحة الحشر. وكلّها تنطبق عليها الاستنتاجات السابقة آخذين بالإعتبار دخول الزوجة كموضوع للحب والتمزق ، وتحوّل المكان من الإرسي إلى الجبل، وضربة الدمار الأخيرة. وبـ “ساعة الحشر” نعود إلى اللبّ الأسود لموضوعة البرزخ العراقي، لتنغلق دائرة العذاب التاريخية علينا ونحن في برزخنا مرة أخرى وإلى الأبد.
# أنموذجان محيّران :
———————–
يحضرني هنا أنموذجان محيّران يقفزان إلى ذاكرتي وأنا ألاحق تفصيلات محنة سلام . الأول هو أنموذج واقعي يتمثل في صديق مناضل من حزب إسلامي عراقي معارض .. رفض مغادرة العراق على الإطلاق .. ركب زورقا واقترب من الشاطيء الإيراني المقابل للخلاص في عام 1991 لكنه طلب من قائد الزورق العودة إلى البصرة!! هُدم بيته في عام 1991 على أيدي القوات العراقية .. سُجن في معتقل “الرضوانية” الرهيب وأفلت من الإعدام بقدرة الله وحده.. والمصيبة أنه كان آخر جندي عراقي ينسحب من الكويت في عام 1991.. وعندما سألته عن السبب وهو معارض للسلطة البعثية وكاره لها ، أجاب : في عائلتنا يعدون الإنسحاب عاراً !!
أما الأنموذج الثاني فهو أنموذج سردي متخيّل في رواية من أدب الحرب الكبير في أوروبا ويتمثل في بطل رواية “كل شيء هادىء في الميدان الغربي” لريمارك الروائي الألماني الذي اختص في أدب الحرب الذي يدعو بعض الكتاب العراقيين – وقسم منهم جنود فارون – إلى حرقه. هذا البطل الحقيقي ذاق ابشع العذابات .. الموت .. الحرمان .. الإنفصال عن أمه المريضة وأخته.. قتل رفاقه الستة أو بُترت أطرافهم واحدا بعد الآخر .. سيقوا إلى الخدمة العسكرية وهم في ذروة مراهقتهم بفعل غسيل أدمغتهم من قبل مدرسهم الذي ضحكوا عليه لاحقا عندما سيق بدوره إلى الجيش .. تعرضوا لضربة كيمياوية مدمّرة بال على نفسه بسببها جندي مستجد معهم .. لم تكن لدى الجيوش الغربية إجازات دورية وكان الجندي لا يرى أهله إلا بعد انتهاء الحرب .. عاد إلى مدينته بتكليف رسمي لأيام وجيزة لم يستطع فيها التآلف حتى مع كتبه ومحتويات غرفته التي كانت أليفة فصارت غريبة ومقززة.. عاد ليجد عائلته وأهالي مدينته يعيشون الذل والهوان ويعانون المجاعة ويقفون طابورا للحصول على “عظم” !! ومع ذلك كان مدرّسوه يعتقدون أنه بطل وأن النصر قريب (ويردس حيل الما شايفها) ، في حين يعرف هو أن الهزيمة مؤكدة .. كانت كل نقاشاتهم الشخصية ، هو ورفاقه، تنصب على إدانة الحرب التي “تحصد الشباب وتجعل الشيوخ يثرثرون” .. رفضوا الحرب وجعلوا العريف المستفحل الذي دمرهم في التدريب “يخرى” ويبول على نفسه عندما واجه الموت فعلا لا استعراضا .. لكنهم قاتلوا جميعا .. وقتلوا .. بعد أن أدّوا واجبهم .. فلماذا ؟ .. أنا شخصيا محتار .. وأنا أؤيد تساؤلات سلام الصاعقة كلها لأنه يمثل جيلنا .. جيل التمزقات والضياع والخراب واقبية الأمن العامة والبراءات (التي استعيدت بعد الاحتلال) وكيبلات الحارثية والرضوانية وجلاليق التسفيرات وبراغيثها برغم أننا دافعنا عن وطننا .. نحن محطّمون أيها السادة .. ويمثلنا بطل سلام ، أو سلام نفسه .. فهل سترمّمون وجودنا ؟
لكن هيهات .. فقد خُتم على ابواب أرواحنا بشمع الخراب الأسود.. “تحجّرنا” .. ونبذنا بلا رحمة في “إرسي” الخراب الأبدي .
تحية لسلام إبراهيم ممثل جيلنا، جيل الخراب العراقي، سلام الذي نطق بالشهادتين : شهادة الخراب، و ………….. شهادة إرسي العذاب ..
هوامش :
————
(1) الإرسي – سلام ابراهيم – رواية – دار الدار للنشر والتوزيع – القاهرة – الطبعة الأولى – 2008 .
(2) و(3) و(4) لمحات من تاريخ العراق الحديث ـ علي الوردي – الجزء السادس
(5) الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان – د. عبد الوهاب المسيري – دار الفكر – الطبعة الرابعة – 2006 .
(6) المعجم الموسوعي في علم النفس – نوربير سلامي بمشاركة مئة وثلاثة وثلاثين اختصاصيا – ترجمة : وجيه أسعد – ثمانية أجزاء – دمشق – وزارة الثقافة – 2001 م .
(7) و(8) تفسير الأحلام – بيير داكو – ترجمة وجيه اسعد – دار البشائر – دمشق – الطبعة الثانية – 1992
C